اخبار السودان
موقع كل يوم -نبض السودان
نشر بتاريخ: ١٥ أب ٢٠٢٥
متابعات – نبض السودان
داخل شقق ضيقة بمدن أوروبا، وفي أحياء شعبية مكتظة بالقاهرة، وفي غرف مستأجرة بضواحي الخليج، يعيش ملايين السودانيين المغتربين على وقع أخبار لا تهدأ من الوطن. قلوبهم معلقة بين هنا وهناك، بين محاولات بناء حياة جديدة في المهجر، وبين شاشات تبث صور الدمار والنزوح من السودان. الحرب لم تبقِ لهم إلا حقيبة سفر وذاكرة مثقلة بالحنين والخوف.
يعيش ملايين السودانيين رحلتهم الثانية أبعد من الحرب، وأقرب إلى الغربة، قلبهم لا يزال ينبض بواقع الوطن؛ يشتاق إلى صوته، عيناه تشاهد الدمار عبر الشاشات، ويداه تمتدّ إلى ذويهم بأموالٍ تُمثّل لهم الحياة أحيانًا إنها معاناة مزدوجة قسوة الاغتراب، وألم الوطن الذي يتلوث بالدم.
الغربة كخيار قسري
لم تكن الهجرة حلمًا جميلاً لغالبية السودانيين في الخارج، بل كانت مخرجًا قاسيًا من واقع أكثر قسوة. يقول أحمد، شاب من الخرطوم لجأ إلى مصر قبل عام: “لم أكن أتخيل أنني سأغادر بيتي بهذه الطريقة، لكن القصف اقترب، وفقدت عملي، ولم يعد أمامي إلا الرحيل”.
في أوروبا، يبدأ كثيرون رحلتهم في مراكز استقبال اللاجئين، بين طوابير الانتظار للتحقيقات، وغرف مشتركة مع عشرات الغرباء في الخليج، يواجهون ارتفاع تكاليف الإيجار وضغوط العمل، وفي الدول المجاورة يعيشون على المساعدات أو أعمال يومية لا تكفي لسد الاحتياجات الأساسية.
اقتصاد الغربة.. أعباء فوق الأعباء
تكاليف المعيشة في المهجر تمثل معركة يومية. كثير من السودانيين يعملون لساعات طويلة، وأحيانًا في وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهم، فقط لتأمين الإيجار والطعام، وفي الوقت نفسه إرسال جزء من دخلهم إلى أسرهم في الداخل التي تعاني من غلاء فاحش ونقص حاد في الغذاء والدواء.
تقول سلمى، التي تعمل في مطعم بلندن: “أعمل 10 ساعات يوميًا، ومع ذلك، أكثر من نصف راتبي يذهب في تحويلات لعائلتي في أم درمان أشعر أنني أعيش حياتين: حياة هنا وحياة هناك”.
الحرب التي تلاحقهم في المنفى
رغم آلاف الكيلومترات التي تفصلهم عن السودان، إلا أن الحرب حاضرة في تفاصيل حياتهم. كل اتصال من الأهل قد يحمل خبرًا مؤلمًا، وكل إشعار من مواقع الأخبار قد يقلب يومهم رأسًا على عقب. يصف عبد الرحمن، المقيم في ألمانيا، إحساسه قائلاً: “نحن نعيش الحرب مرتين، مرة في قلوبنا ومرة في شاشاتنا”.
تتضاعف المعاناة النفسية مع شعور العجز، إذ لا يملكون سوى الدعاء، وبعض التحويلات المالية التي لا توقف رصاصة ولا تداوي جرحًا.
فجوة الأجيال والهوية المهددة
في الأسر السودانية بالخارج، ينشأ الأطفال وسط ثقافة جديدة، ويتعلمون لغات غير العربية، ما يخلق فجوة بين جيل الآباء المتمسك بعادات الوطن، وجيل الأبناء الساعي للاندماج في المجتمع الجديد.
تحاول بعض العائلات التغلب على ذلك بتنظيم جلسات تعليمية في البيوت أو لقاءات للجالية، للحفاظ على اللغة والتراث. لكن ضغوط الحياة والعمل تجعل من الصعب المواظبة على هذه المبادرات.
أرقام تُثبت حجم المعاناة
حسب مفوضية اللاجئين (UNHCR)، يقف عدد السودانيين اللاجئين وطالبي اللجوء حول العالم عند 2.7 مليون بنهاية عام 2024، بينما بلغ عدد النازحين داخليًا أكثر من 12.7 مليون داخل البلاد
في مصر وحدها، يعيش أكثر من 680 ألف لاجئ سوداني مسجل لدى المفوضية، بالإضافة إلى ملايين السودانيين غير المسجلين الذين يعانون من غياب حقوق التنقل والعمل .
تشاد استقبلت أكثر من 1.2 مليون لاجئ سوداني بسبب تصاعد العنف، ما جعلها إحدى أكبر الأزمات الإنسانية في المنطقة .
شهادات تنبض بالحياة والوجع
صور هشام نصر، مصور سوداني مقيم في مصر، تعكس الألم بصمت يقول في أحد لقاءاته:
“نعيش الحرب مرتين؛ مرة في قلوبنا ومرة في شاشاتنا”
يصف رؤيته للحرب بجثث مجهولة داخل صور رمزية، ويدعو المجتمع الدولي إلى النظر إلى
مأساة لا ينقلها الإعلام غالباً .
في فرنسا، مهاجر سوداني في كاليه يروي:”
“يمكن أن نموت أو نعيش، لكننا ذاهبون إلى بريطانيا. معاناتنا أكبر من الصور في الإعلام”
أضاف أن عشرات السودانيين فقدوا حياتهم أثناء المحاولات عبر البحر، مشدداً أن التقارير لا تمثّل سوى 10% من حجم المعاناة .
أما في الحوض المتوسط، فقد غرق عشرات الطلاب السودانيين بسبب إهمال الطرق البحرية وترسيخ سياسة “الكبح”، مما أبرز فشل أوروبا في حماية اللاجئين الذين قدّماً لإنقاذ أنفسهم من الحرب .
واقع مقلوب وأمان في الخارج وفزع في الداخل
المهجر السوداني لا يوفر ملجأً حقيقيًا، بل إن غلاء المعيشة، ضعف الاندماج، وتأخر البت في طلبات اللجوء، يجعل الحياة قاسية بقدر الحرب نفسها. كثير منهم يصارع من أجل استكمال الحياة، بينما خبر القتل والخوف يقلب يومه رأساً على عقب.
الجالية السودانية: شبكة دعم وسط البعد
رغم القهر، تحولت الجاليات في أوروبا والشرق الأوسط إلى ساحات دعم وتضامن، يبعثون المساعدات، ينظمون حملات تبرّع، ويفتشون عن صوت يروي قصتهم للعالم. وفي قاعات صغيرة ومقاهي حالمة، يتلاقى الحنانون والناقمون على وطنٍ لا يزال غائباً عن حضوره الأجدى.