اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ١٩ تشرين الثاني ٢٠٢٥
عبدالله مغرم
في زمن تتسارع فيه التحوّلات بشكل غير مسبوق، لم تعد القيادة منصبًا أو صفة تُمنح، بل أصبحت قدرة ذهنية وسلوكية تنعكس في كل قرار، وكل تفاعل، وكل لحظة تأثير. لقد تغيّر العالم، وتغير معه مفهوم القيادة، فلم تعد قوة القائد في سلطته الإدارية، بل في اتساع رؤيته، وذكائه العاطفي، ومرونته الاستراتيجية، وقدرته على أن يلهم قبل أن يوجّه.
أكبر فرق اليوم بين قائد يتقدم وقائد يتراجع هو أن الأول يدرك أن فريقه ليس مجموعة موظفين، بل منظومة طاقة تحتاج إلى الإلهام بقدر احتياجها للتوجيه، وإلى التحفيز بقدر حاجتها للتخطيط، القائد الحديث لا يراقب ساعات حضور، بل يراقب جودة الأفكار، لا يقيس الإنتاجية بعدد الاجتماعات، بل بعمق النقاشات وجرأة المبادرات.
وفي عالم تفرض فيه التقنية والذكاء الاصطناعي قواعد جديدة للعبة، أصبح أبرز ما يميز القائد هو قدرته على إعادة تعريف نفسه دائمًا، القائد الملهم لا يخشى أن يقول لا أعرف، لأنه يعرف كيف يتعلم أسرع، ولا يخشى أن يمنح المساحة لغيره، لأنه يدرك أن القيادة ليست منافسة، بل منظومة تكامل، لقد انتهى زمن القائد الذي يحتكر المعرفة، وبدأ زمن القائد الذي يسأل الأسئلة التي لا يجرؤ غيره على طرحها.
القيادة اليوم مسؤولية تجاه الإنسان قبل المؤسسة، فالموظفون لا يغادرون الشركات؛ يغادرون القادة الذين تجاهلوا طاقتهم، أو قللوا من قيمتهم، أو لم يمنحوهم مسارا يليق بطموحهم، القائد الحقيقي هو من يخلق بيئة تجعل كل فرد يشعر بأنه مرئي، مسموع، ومهم. وهذه ليست مهارة ناعمة، بل استراتيجية صلبة تحافظ على المواهب وتضاعف الإنتاجية.
ومع كل هذا، يبقى أهم تحول قيادي أننا أصبحنا نحتاج إلى نوع جديد من الشجاعة: الشجاعة الذكية. شجاعة تقرأ المستقبل دون تهور، وتخوض التغيير دون خوف، وتقود الفريق دون فقدان إنسانيته، فالقائد الذكي لا يُعرف بقراراته الكبيرة فقط، بل بقدرته على اتخاذ قرارات صغيرة تُحدث تأثيرات كبيرة، وعلى بناء ثقافة لا تتزعزع مهما تبدلت الظروف.
وعندما نقول إن القيادة أصبحت فناً، فذلك لأنها تجمع بين الفكر الاستراتيجي، والوعي الإنساني، والمرونة الذهنية. فالقائد العظيم اليوم لا يكتفي بأن يقود فريقًا، بل يطلق عدوى الإلهام داخل المؤسسة، يرفع سقف الطموح، ويوسع زاوية الرؤية، ويحوّل التحديات إلى منصات انطلاق.
وفي النهاية، هناك سؤال واحد يجب أن يسأله كل قائد لنفسه في هذا الزمن المتغير: هل أنا أدير أم أُلهِم؟ هذا السؤال وحده قادر على كشف موقعك الحقيقي في خارطة القيادة الجديدة، لأن القيادة لم تعد رحلة صعود، بل رحلة تأثير.. ومن يفهم هذا، لن يكون مجرد قائد، بل صانع فرق.










































