اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
د. سوسن العتيبي
عُرف عن كانط أنّ التفكير مقيّد بشرطين قبليين على الأقل، هما: الزمان والمكان، فلا يوجد تفكير متحرر من سوابق، تؤطّر رؤيته للخارج، في وصل بين الذات والخارج من جهة هذين الشرطين، ولكن ثمّة عمق أشد، هو وصل تجربة الذات بجسدها في هذا الفضاء بأصول الفكر، تمثيلاً لتجربة الجسد في عالم المعاني. ونزيد على هذا التقييد مجال الداخل، وخصوصاً الإرادة، وما ينبعث من داخل الإنسان، فقد يقيّد أيضاً بأمور خارجيّة اختزنها الإنسان، بطريقة واعية أو غير واعية، فقدت أسبابها، وبقيت كوامنها. ولعل في جديد بعض الدراسات العرفانية Cognitive Science ما يفيد أنّ الإنسان في تمييزه عن الحيوان يتميّز بقصديّته، وهذه القصديّة ليست إرادة متحررة، بل هي إرادة لعدّة تراكمات عميقة، داخلية كانت، أو من مؤثرات خارجيّة، فليس اختيار الإنسان الآني حرّ في قصده، بل موجّه بمضمرات قد لا يعيها صاحبها أبداً.
فإذا عُرف ذلك، أمكن إظهار القيد المكاني في تفكير الإنسان من خلال اللغة؛ التي تقيّد سلسلة تمييزه، وتترجم ما في وجدانه من معارف اكتسبها من عدة مصادر. ففي اللسانيات العرفانية تجارب أجريت لمدى ظهور هذين القيدين 'الزمان' و'المكان' المصاحبين لتجسّد الذات فيهما، وما صاحبها من حالات إدراكية متعددة، وما اتصل من قدرات إنسانية قد تهمّش في أزمنة مضت، لاحتقار 'الجسد' في باب مصادر المعرفة، والفصل بينه وبين العقل، وتعظيم العقل، ونحو ذلك من مصادر معرفية فلسفيّة وفكريّة قديمة.
وفي تجربة تمثيل الجسد للمعرفة، بوصفه طريقة تفكير في هذا الفضاء-المجال الذي يجول فيه، فهو ممثل لا لموضوعات خارجيّة، وفق أبعاد ثلاثية، بل لكل ما فيه، مما يدرك بالحواس وما يُشعر به ولو فقدت طرق تمييزه الحسيّة، إضافة لمن في هذا المجال، وصلاته بمن هو خارجه، أي تعالق الذات والمجال، وحدودهما، وعلاقتهما معاً. فالذات الإنسانية لديها جسد، له حواس: كالبصر وحدوده وكيفيات الإبصار، والسمع مثل ذلك، وكل حواس الإنسان... فتدخل في قاموسه اللغوي كيفيات رؤيته للفضاء الذي هو فيه، أي كيفية تجسيد المعرفة، استصحاباً لحال الذات في إدراكها الجسديّ، فيميّز الإنسان بين 'قبل' و'بعد' و'فوق' و'تحت' و'مسّ' و'ذوق' و'حلاوة' و'اختناق'... ناقلاً هذه الحالات الحركيّة الجسديّة إلى مسالك إدراكية لمعنويات باطنيّة، والعكس أيضاً؛ فالانفعالات الداخلية لدى الإنسان، والحالات الشعورية، وما اتصل بتغيّر نظامه الداخلي، والهرمونات في مواقف معيّنة... كلها تنعكس على الخارج في حركات وتصرفات محددة، وقد تقوده مع الزمن لاستحضار الشعور الذي يظهر عادة مع هذه الحركات، متى ما ظهرت هذه الحركات دون شعورٍ أخرجها. والتجربة اللسانية العرفانية تظهر كيف تتشكل 'الكليات'، وفق منظور لغوي لساني، يستصحب جلّ المدارك والقدرات الإنسانيّة، ليُعرف كيف يفكّر الإنسان وينتج أفكاره؟ في انعكاس وارتداد يمكن أن يفتح الآفاق للاستثمار الفكري المبدع، لنتمكّن من تحليل الأفكار الفلسفية الكبرى، في صلتها بالمكان والزمان، وأنّ القول بتجريدها وكليتها وعالميتها لا يصلح في عالم التجارب اللسانية العرفانية، بل يردّها من جديد للقيود الإنسانية في الزمان والمكان، في تجربة الإنسان كله بجسده، وما يتصل بهذا الجسد من حدود، وارتباطات معنوية خُلقية ومجتمعية وجمالية، ونحوها. فضلا عن ارتباط الفكر بـ 'الحركة' في أول ظهور الفلسفة، فالفكر عندهم حركة الذهن في المعقولات، ومن طرائق الفكر 'الجدل' عند أفلاطون، في صعود أو نزول، وعند التمعن فالحركة هي إمكانية الإنسان المتحرّك، والصعود هو حركة الجسد الإنساني لا الطير أو السمك مثلاً، من الأدنى إلى الأعلى، وهو أعسر، في حين النزول عكسه. وفي هذا تبيين لظهور قوّة تمثيل الجسد الإنساني بكل خصائصه وسياقاته، ووعي الإنسان بجسده في عالم الفكر، وفي اللغة التي من خلالها يبيّن حركة فكره. فلو كان الإنسان جماداً لا يتحرّك، ربما أمكن أن يكون للفكر خطّ آخر يصفه في جموده ولا انتقالاته. وفي زمننا ظهر مكان هو 'العالم السيبراني'، في تجربة ثريّة، تعيد التحكّم في تجارب الإنسان الإدراكيّة، ولا شكّ أنّها ستورّث طرائق تفكير متعددة. والله تعالى أعلم.