اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢ تشرين الأول ٢٠٢٥
ضياء الدين بامخرمة
في زمن تتسارع فيه التحولات التقنية ويزداد الاعتماد على الفضاء الرقمي في كل جوانب الحياة، أصبح الأمن السيبراني حاجةً ملحّة لا تقلّ أهمية عن الأمن التقليدي، فالهجمات الرقمية لم تعد تقتصر على اختراق أجهزة أو شبكات، بل صارت تهدد الاقتصاد، والهوية الثقافية، والاستقرار المجتمعي، وتُستخدم حتى كأداة في الإرهاب ونشر التطرف.
فالأمن السيبراني لم يعد مجرد أداة تقنية، بل هو ركيزة للأمن الوطني وأساس للحفاظ على السلم المجتمعي، إذ يمكن لاختراقٍ واحد أن يعطل خدمات الكهرباء، أو يوقف شبكة مطار، أو يشلّ مستشفى كامل، من هنا تأتي الحاجة لتكامل الجهود بين الدول والمؤسسات والمجتمعات، ويبنّي الأمن السيبراني كثقافة يومية في وعي الأفراد.
لقد وجدت الجماعات الإرهابية في الفضاء الرقمي منصّة للتجنيد والترويج ولتخطيط الهجمات السيبرانية التي باتت وسيلة لتقويض استقرار الدول، وتضليل الرأي العام، والتأثير على السلوك المجتمعي، هذه التحديات تستدعي بناء جبهة دولية قوية لمكافحة «الإرهاب الرقمي»، وحماية البنى التحتية والوعي الثقافي من العبث.
الذكاء الاصطناعي يحمل وعودًا كبرى.. من تحسين التعليم والصحة إلى دفع عجلة التنمية الاقتصادية، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام تحديات غير مسبوقة: خوارزميات التلاعب، المحتوى المزيف (Deepfake)، والهجمات السيبرانية المؤتمتة، وهنا يتعاظم دور الأمن السيبراني كحارس يضمن أن تظل هذه التقنية في خدمة الخير لا الشر.
برزت المملكة العربية السعودية كنموذج عالمي في بناء منظومة الأمن السيبراني، فقد أنشأت الهيئة الوطنية للأمن السيبراني، وأطلقت كلية الأمير محمد بن سلمان للأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي لتأهيل الكفاءات الوطنية، كما دشّنت شركة Humain تحت مظلة صندوق الاستثمارات العامة لتطوير الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية.
وعلى المستوى الدولي، تستضيف الرياض المنتدى الدولي للأمن السيبراني (GCF) الذي أصبح منصة مرجعية لصنّاع القرار والخبراء من مختلف أنحاء العالم، في إحدى كلماته بالمنتدى، أكد سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان: «لما للفضاء السيبراني من ارتباط وثيق بنمو الاقتصادات وازدهار المجتمعات وأمن الأفراد واستقرار الدول… تتعاظم أهمية توحيد الجهود الدولية عبر الاستثمار في الإنسان».
كما أطلقت المملكة مبادرات رائدة لحماية الأطفال في الفضاء السيبراني وتمكين المرأة في هذا القطاع، ما يعكس البعد الإنساني المتلازم مع التوجه التقني في الرؤية السعودية.
لم يعد الأمن السيبراني شأناً داخليًا فحسب، بل أصبح موضوعا رئيسيا على طاولة الدبلوماسية العالمية. فقد أدرجت الأمم المتحدة قضايا الأمن السيبراني ضمن أعمال مجموعة الخبراء الحكوميين (UN GGE) واللجنة المفتوحة العضوية (OEWG)، التي تهدف إلى وضع قواعد ومعايير للسلوك المسؤول للدول في الفضاء السيبراني.
كما تعمل منظمات دولية كـمنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الإفريقي على وضع استراتيجيات إقليمية لمكافحة الجرائم الإلكترونية وتعزيز الأمن الرقمي، وتؤكد هذه المقررات أنّ الأمن السيبراني قضية جماعية عابرة للحدود، لا يمكن معالجتها إلا عبر الدبلوماسية المتعددة الأطراف والتنسيق الدولي، وبناء ثقافة ثقة رقمية بين الدول والشعوب.
بالنسبة لبلدي جمهورية جيبوتي وعلى الرغم من صغر حجمها، تخطو خطوات واثقة نحو بناء بيئة رقمية آمنة، فقد أطلقت استراتيجية وطنية للأمن السيبراني 2024–2030، وأقرّت مؤخرا قانون الرقمنة لتنظيم البيانات والمعاملات الرقمية، والرئيس إسماعيل عمر جيله شدّد مرارا على أن التحوّل الرقمي يجب أن يكون آمنا، وأن جيبوتي تسعى إلى أن تكون مركزًا إقليميا للاتصالات والاقتصاد الرقمي مع حماية سيادتها الرقمية.
الأمن السيبراني لم يعد ترفا، بل أصبح ضرورة وجودية لحماية المجتمعات وضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي والثقافي، والمستقبل الرقمي الذي يحمله الذكاء الاصطناعي سيظل متأرجحا بين الخير والشر، بحسب قدرة الدول والمجتمعات على تبني منظومات حماية متكاملة.
وفي هذا الإطار، تقدم المملكة العربية السعودية نموذجا ملهما في بناء منظومة سيبرانية عالمية الطموح، فيما تمضي جيبوتي في مسارها لتعزيز سيادتها الرقمية.