اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ١٤ أب ٢٠٢٥
لم يعد الحديث عن الاستدامة الاقتصادية في الكويت ترفاً فكرياً يُتداول في أروقة النخبة، ولا شعاراً سياسياً يُرفع في مواسم الخطاب؛ بل غدا توجهاً سيادياً ثابت الأركان، تمضي الدولة في ترسيخه بإحكام إدارة مواردها، وتنويع روافد دخلها، وبناء اقتصاد متين الجذور، عصيٍّ على تقلبات الأسواق ورياح الأزمات. وفي صميم هذا المسار، تبرز قضية الدين العام لا كغايةٍ تُبتغى لذاتها، بل كأداة استراتيجية محكمة، تضبط ميزان التمويل الحكومي، وتنسج الإيقاع المالي بخيوطٍ من الحكمة والتخطيط، بما ينسجم مع متطلبات الحاضر وتحديات الغد.
الدين العام.. من الانقطاع إلى التفعيل
على امتداد سنوات، ظل الاقتصاد الوطني يتلمّس الحاجة إلى إطار قانوني راسخ، يضبط إيقاع الدين العام، ويقيه غوائل الارتجال وانفلات القرار المالي. ومع اشتداد التحديات وتكاثف الضغوط، تقدمت وزارة المالية برفع توصيتها لإصدار المرسوم بقانون رقم 60 لسنة 2025، الذي أُقر في مارس من العام نفسه، ليعيد إلى الدولة حق إصدار أدوات الدين بعد انقطاع طال لسنوات، وكأنما يعيد النبض إلى شريان مالي حيوي.
وقد نص المرسوم على أن يكون سقف الدين العام 30 مليار دينار كويتي، أو ما يعادله بالعملات الأخرى، مع فتح المجال لإصدار أدوات دين تمتد آجال استحقاقها حتى نصف قرن. وجاء هذا التشريع كركيزة ضمن خطة أشمل لإدارة السيولة الوطنية، وتنويع أدوات التمويل، وتخفيف الضغط عن الاحتياطي العام، ليتاح توجيه الموارد إلى مشاريع البنية التحتية والتنمية الاقتصادية التي ترسخ أقدام المستقبل.
ولم تمضِ سوى ثلاثة أشهر على صدور المرسوم، حتى رأينا الحكومة تُطلق سندات محلية بقيمة 600 مليون دينار كويتي في يونيو 2025، في خطوة تحمل دلالة واضحة على دخول القانون حيز التنفيذ، وتفعيل أدواته في السوق المحلية، إيذاناً بمرحلة جديدة في إدارة الدين العام.
سقف الدين.. بين القيد والمرونة
إن تحديد سقف الدين العام ليس قراراً رقمياً بارداً، يُدوَّن في جداول الحسابات فحسب؛ بل هو أداة إستراتيجية لضبط المخاطر المالية، وحصنٌ يحمي الدولة من الانحدار إلى هاوية المديونية المفرطة. غير أن ربط هذا السقف برقم ثابت، غافلٍ عن تقلبات الاقتصاد، قد يُحوِّله من درع واقية إلى قيد خانق، أو إلى بوابة مشرعة أمام الانفلات المالي. ولأن «لكل مقامٍ مقالا»، فإن القرارات المالية الحكيمة هي تلك التي تتغير بتغير الأحوال، وتتلاءم مع إيقاع الاقتصاد في مدّه وجزره.
ففي زمن التضخم، يصبح السقف الثابت كطوقٍ يضيق على عنق الاقتصاد، فيحرم الدولة من تمويل مشاريع تنموية حيوية، رغم أن ارتفاع الناتج المحلي يمنحها متسعاً للاقتراض الآمن. وعلى الضفة الأخرى، في زمن الانكماش، قد يتحول السقف المرتفع إلى إغراء خادع، يدفع الدولة إلى التوسع في الاقتراض بما يفوق قدرتها على السداد، فتتراكم الأعباء، وتثقل كاهل الأجيال القادمة.
ولنا في تجارب الأمم عبرة؛ فاليونان، قبيل أزمتها المالية، أبت أن تراجع سقف دينها رغم انكماش ناتجها المحلي، حتى وجدت نفسها مثقلة بمديونية تجاوزت 170% من الناتج. وفي المقابل، سارت سنغافورة على نهج أكثر حكمة، فربطت سقف الدين بنسبة من ناتجها المحلي، وأدارت مديونيتها بمهارة واقتدار، حتى في أحلك أوقات الركود.
إن النهج الأقوم والأكثر اتزاناً هو أن يُربط سقف الدين العام بنسبة من متوسط الناتج المحلي الإجمالي لآخر ثلاث سنوات، على ألا يتجاوز 30% منه. فهذه الصيغة تمنح السقف روح المرونة، فيتناغم مع إيقاع الاقتصاد صعوداً وهبوطاً، ويعكس على نحوٍ أوفى القدرة الحقيقية للدولة على السداد.
فإذا ازدهر الاقتصاد واتسع نطاق إنتاجه، ارتفع السقف تلقائياً، فاتحاً أبواباً أوسع للاستثمار والتمويل. وإذا انكمش، انخفض السقف بدوره، ليكبح جماح أي توسع مفرط في الاقتراض، ويحول دون الانزلاق إلى مديونية تثقل الحاضر وتستنزف المستقبل. وهكذا يتحول السقف من رقم جامد إلى أداة ديناميكية، تحرس أمن الدولة المالي، وتدعم قدرتها على التخطيط الطويل المدى برؤية ثابتة ويدٍ حكيمة.
وإن كانت للدولة نية واعية في هذه المرحلة لتعزيز الاستثمار في اقتصادها، فإن المرسوم ذاته قادر على أن يضم بين بنوده استثناءات مرحلية، مقننة بعامل الزمن ومحددة بمقاييس أداء واضحة، استثناءات تُجيز رفع النسبة مؤقتاً، لتلبية متطلبات النهوض الاقتصادي من دون الإخلال بصرامة الانضباط المالي.
الخصوصية الاقتصادية ومعادلة الاستدامة
إن الاقتصاد الكويتي، على متانته المالية، شبه قائم في جوهره على مورد واحد هو الإيرادات النفطية، مما يجعله أسيراً لتقلبات الأسواق العالمية، ورهينة موجات الصعود والهبوط في أسعار النفط. ولئن كان هذا المورد قد منح الدولة، لعقود طويلة، قاعدة مالية صلبة، فإن الرؤية السيادية الحديثة تدرك بوضوح أن الاتكاء على مورد ناضب، مهما كانت وفورته، لا يكفل استقراراً موروثاً للأجيال المقبلة، ولا يشيّد جسور الأمان على المدى البعيد. وكما قيل: «قلّما تدوم النعم»، فحكمة الحاضر أن يُبنى الغد على موارد متعددة، تضمن البقاء والاستقرار مهما تبدلت الظروف.
ومن هنا، فإن الدين العام - إذا أريد له أن يكون أداة راسخة لدعم الاستدامة - ينبغي ألا يُقاس على الناتج المحلي الإجمالي في مجمله، بل على ناتج الصادرات غير النفطية والاستثمارات فحسب. فهذه المقاربة تنقل معيار السقف من فضاء الأرقام المجردة إلى صميم إستراتيجية التنويع الاقتصادي، وتربطه مباشرة بقدرة الاقتصاد الحقيقي على توليد موارد متجددة، خارج إطار الذهب الأسود.
فإذا ارتفع ناتج الصادرات غير النفطية - أي حصيلة الصادرات غير النفطية مطروحاً منها الواردات غير النفطية - واتسعت رقعة الاستثمارات، ارتفع السقف تلقائياً، معبّراً عن قوة مالية متنامية وعافية اقتصادية متجددة. وإذا تراجع، انخفض السقف، فكان بمنزلة جرس إنذار مبكر، يدعو إلى تصحيح المسار قبل فوات الأوان. وهكذا يتحول الدين العام إلى أداة محفزة للنمو في القطاعات غير النفطية، لا مجرد وعاء لسد العجز، فتثمر المعادلة في نهاية المطاف نمواً مستداماً لإجمالي الناتج المحلي، وتفتح أبواباً أوسع لاستقلالية الاقتصاد وأمنه المالي.
ثلاثية مكاسب المقترح
إن تبني هذه الصيغة ليس مجرد تعديل فني في آلية احتساب الدين العام، بل هو مفتاح لثلاث فوائد جوهرية تُثبّت أركان الاقتصاد وتدفعه إلى آفاق أرحب:
1 - دعم الميزانية العامة دون المساس بجواهر الاحتياطيات، إذ يفتح باب الاقتراض في حدود آمنة، تتناغم مع القدرة الإنتاجية الحقيقية للاقتصاد، فلا إفراط يستنزف، ولا تفريط يعيق النمو.
2 - ترسيخ الثقة الائتمانية، فحين يرى المستثمرون أن الدين العام مرتبط بقدرات إنتاجية راسخة ومتنامية، يطمئنون إلى سلامة الإدارة المالية، ويقبلون على الاستثمار بثقة أكبر.
3 - تحفيز منابع الدخل، لأن رفع سقف الاقتراض يصبح مشروطاً بتحسين أداء القطاعات غير النفطية، فيتحول الدين إلى أداة تدفع السياسات الاقتصادية نحو تنويع حقيقي، لا إلى مجرد شعار يتكرر.
إن الدين العام، إذا أُحسن تدبيره وأُحكمت إدارته، غدا جسراً تمضي عليه الدولة من شاطئ الحاجة والضيق إلى بر الازدهار والسعة. لكنه إذا جُرّد من الرؤية وحُصر في أرقام جامدة، انقلب عبئاً ثقيلاً، يقيّد حركة النهضة ويستنزف موارد الأمة. وإن ربط سقف الدين بقدرة الاقتصاد الفعلية، وبخاصة بما تحققه الصادرات غير النفطية والاستثمارات، لهو خيار استراتيجي يرسّخ للكويت أمانها المالي، ويفتح أمامها دروب استدامة حقيقية، بعيدة عن رياح تقلبات سوق النفط وعواصفه. قال تعالى: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا» [الإسراء: 29]، وهي دعوة قرآنية إلى التوازن في التصرف المالي، وهو جوهر ما يسعى إليه هذا النهج الاقتصادي.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، وتعلو فيه راية الحق، وتُصان فيه الأمانة، وتُحفظ فيه الثروات، وتُسخّر فيه الخيرات لما فيه صلاح البلاد والعباد.
عبدالله السلوم