اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة الجريدة الكويتية
نشر بتاريخ: ٨ أذار ٢٠٢٥
كانت فوهة البندقية تلمع تحت شمس الصحراء القاسية، وعلى غطاء محرك سيارتنا طراز تويوتا لاند كروزر، كانت أغراضي، الكاميرا والكمبيوتر المحمول والهاتف، مبعثرة، ومحتوياتها مكشوفة أمام نظر ثلاثة رجال مدججين بالسلاح كانوا يحيطون بنا بكامل عتادهم.كان ذلك في الثالث والعشرين من يناير الماضي، حيث أمضيت ساعات طويلة في غبار سهل البطانة، محتجزا بسبب تصوير مشهد قاحل أصبح الآن مرادفا لانهيار السودان.قام المسلحون بفحص كل صورة وملف في أجهزتي، وكانت شكوكهم تعكس جنون الارتياب الذي يسود الآن، وعندما أطلقوا سراحي في النهاية - بعد أن صادروا بطاقة الذاكرة الخاصة بالكاميرا فقط - لم أشعر بالراحة، بل بإحساس باهت، هذا هو ثمن أن تكون شاهدا. هذه الرحلة التي استغرقت 26 ساعة من عطبرة في الشمال إلى العاصمة الخرطوم، والتي كانت تستغرق في السابق 4 ساعات فقط، كانت الأحدث في سلسلة رحلاتي الطويلة والمليئة بالتحديات في السودان، والتي أعادت تماما تعريف مفهوم السفر في هذا البلد الذي يرزح تحت وطأة الحرب.كل ميل من الطريق كان يرسّخ أكثر الحقيقة التي تعلمتها منذ بداية النزاع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023 هنا، لم يعد السفر يتعلّق بالوجهة، بل بالبقاء على قيد الحياة في برية لا يرتبط فيها الخطر بأي (زي).أول مواجهة لي مع هذه الحقيقة كانت في 12 يونيو 2024، عندما سافرت من منطقة الأزهري، أحد أحياء جنوب الخرطوم، إلى مدينة كوستي للاحتفال بعيد الأضحى مع عائلتي. كان اللقاء مفعما بمشاعر متناقضة، بين المرارة والفرح، حيث مر عام كامل تماما منذ أن فرّوا من العاصمة.تحولت الرحلة التي كانت تمتد على مسافة نحو 320 كيلومترا إلى جحيم دام حوالي 10 ساعات.
كانت فوهة البندقية تلمع تحت شمس الصحراء القاسية، وعلى غطاء محرك سيارتنا طراز تويوتا لاند كروزر، كانت أغراضي، الكاميرا والكمبيوتر المحمول والهاتف، مبعثرة، ومحتوياتها مكشوفة أمام نظر ثلاثة رجال مدججين بالسلاح كانوا يحيطون بنا بكامل عتادهم.
كان ذلك في الثالث والعشرين من يناير الماضي، حيث أمضيت ساعات طويلة في غبار سهل البطانة، محتجزا بسبب تصوير مشهد قاحل أصبح الآن مرادفا لانهيار السودان.
قام المسلحون بفحص كل صورة وملف في أجهزتي، وكانت شكوكهم تعكس جنون الارتياب الذي يسود الآن، وعندما أطلقوا سراحي في النهاية - بعد أن صادروا بطاقة الذاكرة الخاصة بالكاميرا فقط - لم أشعر بالراحة، بل بإحساس باهت، هذا هو ثمن أن تكون شاهدا.
هذه الرحلة التي استغرقت 26 ساعة من عطبرة في الشمال إلى العاصمة الخرطوم، والتي كانت تستغرق في السابق 4 ساعات فقط، كانت الأحدث في سلسلة رحلاتي الطويلة والمليئة بالتحديات في السودان، والتي أعادت تماما تعريف مفهوم السفر في هذا البلد الذي يرزح تحت وطأة الحرب.
كل ميل من الطريق كان يرسّخ أكثر الحقيقة التي تعلمتها منذ بداية النزاع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023 هنا، لم يعد السفر يتعلّق بالوجهة، بل بالبقاء على قيد الحياة في برية لا يرتبط فيها الخطر بأي (زي).
أول مواجهة لي مع هذه الحقيقة كانت في 12 يونيو 2024، عندما سافرت من منطقة الأزهري، أحد أحياء جنوب الخرطوم، إلى مدينة كوستي للاحتفال بعيد الأضحى مع عائلتي. كان اللقاء مفعما بمشاعر متناقضة، بين المرارة والفرح، حيث مر عام كامل تماما منذ أن فرّوا من العاصمة.
تحولت الرحلة التي كانت تمتد على مسافة نحو 320 كيلومترا إلى جحيم دام حوالي 10 ساعات.
بعد الرحلة غير المريحة على الـ «توك توك» إلى المحطة القريبة، أمضيت نحو ساعتين إضافيتين للوصول إلى محطة الحافلات الرئيسية. هناك، دفعت 80 ألف جنيه سوداني (حوالي 40 دولارا أميركيا)، أي أكثر من خمسة أضعاف الأجرة المعتادة قبل الحرب، مقابل مقعد في حافلة متهالكة تفوح منها رائحة العرق والخوف.
طوال الرحلة، تحمّل الركاب، بمن فيهم أنا، عمليات تفتيش واستجواب متواصلة في كل نقطة تفتيش، حيث كان الجنود يتفحصون هوياتنا وأسباب سفرنا بتهديد مملّ. وبصفتي صحافيا، أخفيت مهنتي، مدركا تماما أنني قد أكون هدفا لكلا طرفَي الصراع.
ما زلت أتذكّر امرأة شابة كانت تجلس إلى جانبي خلال الرحلة، كانت قد حلقت شعرها وارتدت ملابس ذكورية، وهو تَخَفّ ضروري للتهرب من المسلحين المعروفين بالاعتداء على النساء.
قالت الفتاة مبتسمة: «الآن أفكر في الوقت الذي سيستغرقه شعري لينمو مجددا، لكن تضحياتي تبدو تافهة مقارنة بما عاناه الآخرون في هذه النقاط».
بعد سبع ساعات، احتضنت عائلتي في كوستي، مختتما الرحلة التي حوّلتنا إلى مجموعة من المسافرين الغرباء ربطهم الضعف المشترك.
الطرق التي كانت مليئة بالتجار والمسافرين، باتت الآن تحت سيطرة المحققين المسلحين واللصوص الذين يستغلون الفوضى.
تضاعفت كذلك أسعار تذاكر السفر، حيث يكلف مقعد الحافلة الواحد ما يعادل أجر أسبوع كامل، مما يزيد من معاناة الناس. والأسوأ أن السكان يضطرون لإخفاء هوياتهم من أجل سلامتهم، فتتخفى النساء في ملابس الرجال، بينما يدفن الصحافيون بطاقاتهم الصحافية.
* فائز الزاكي حسن صحافي سوداني