اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٣ تشرين الثاني ٢٠٢٥
الجيش الذي لا يُقهر… حين تهزم القوة نفسها #عاجل
كتب زياد فرحان المجالي
منذ أن غُيّر مصطلح 'الجيش الذي لا يُقهر' إلى شعارٍ يكاد يُجسّد الهوية الإسرائيلية، كانت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تمثّل طمأنينةً داخليةً واستعراضًا خارجيًا للقوة. هذا الاعتقاد، الذي بُني طيلة عقود على التدريب المكثف، التفوق التكنولوجي والاستخباري، بدأ يتصدّع أمام وقائع ميدانية جديدة كشفت هشاشة الأُطر التي صُنعت عليها الأسطورة.
وليس من باب الصدفة أن تحمل قراءة إسرائيل للأمن ذاكرةً تاريخية لا تُمحى. فالسردية الإسرائيلية الحديثة ما زالت تستمدّ جذورها من سنوات التأسيس الأولى، حين كانت فصائل مثل الهاغاناه تمارس القوة بوصفها أداة وجود لا خيارًا عسكريًا، في زمنٍ كان 'الرعب” وسيلةً لتحقيق الردع، لا العكس.
لقد كان مشهد دير ياسين عام 1948 أكثر من واقعة دامية في سجلّ الصراع، بل أصبح درسًا مؤسسًا في وعي القيادة الإسرائيلية الناشئة: أن التفوق يُصنع بالخوف، وأن الرهبة قد تسبق الجغرافيا في فرض السيطرة.
ذلك الإرث النفسي ظلّ حيًّا في بنية التفكير الأمني الإسرائيلي، فإسرائيل لم تتوقف عن الاستثمار في ما بدأته يوم كانت عصابات، بل نقلت ذاك 'المنهج” إلى جيشٍ نظاميٍّ يبرر وجوده بالحاجة إلى الخوف المستمر.
إذا استطاع التاريخ أن يعلّمنا شيئًا، فهو أن قوة الجيوش لا تُقاس فقط بالعتاد أو بالقدرة التدميرية، بل بمرونتها الإدراكية: قدرة القادة على القراءة الواقعية للميدان، على تصحيح التكتيكات، وعلى تغيير الأجندة قبل أن تقرّر الأرض المصير. وهنا، يكمن جوهر الإشكالية الإسرائيلية الراهنة — ليس في نقص الأسلحة أو التقنية فحسب، بل في جفاءٍ داخلي أظهر أن القوة المباشرة لا تكفي عندما تتغيّر قواعد اللعبة.
أولًا: الأزمة التكتيكية — من الحرب الخاطفة إلى الحرب بلا خارطة نهائية
الجيش الإسرائيلي تدرب على سيناريوهات تقليدية: معارك مُنظمة، عمق هجومي، ضربات استباقية. لكن مواجهة جيوشٍ غير نظامية، تعمل بشبكات لامركزية وتستخدم مسرح العمليات الحضري والأنفاق وحروب الاستنزاف الطويلة، تطلّبت تكتيكًا مختلفًا وقيادة مرنة. بدلاً من ذلك، تمسّك الجيش بنمطٍ قهريٍّ في التنفيذ، واستمر في تكرار الأخطاء تحت غطاء إعلامي يبرر النتائج أكثر مما يعالج أسبابها.
ثانيًا: ثغرة الاستخبارات — بين المعلومات والفهم الاستراتيجي
لم يعد الاستخبار مجرد جمع بيانات، بل تحليل سياقها السياسي والاجتماعي. العجز عن قراءة نوايا الخصوم وتقدير تحوّلهم من مجموعات محلية إلى كيانات ميدانية مستقلة، كشف أن إسرائيل تمتلك عيونًا واسعة، لكنها لا ترى بعمق كافٍ.
ثالثًا: الشق المعنوي — الجنود والمجتمع وشرعية الحرب
الجيش الذي لا يُقهر يحتاج إلى مجتمعٍ يثق به. لكن الانقسام السياسي، وتضارب القرارات، والفضائح الإعلامية، أدّت إلى تآكل الشرعية النفسية للحرب. الجندي الإسرائيلي الذي يدخل الميدان اليوم لم يعد يملك الإيمان نفسه الذي حرك أسلافه في حروب سابقة، بل يعيش تحت وطأة الشكّ والإرهاق وفقدان الثقة بالقيادة.
رابعًا: الاعتماد على التكنولوجيا كمُعوّض عن التكتيك
إسرائيل استثمرت بكثافة في سلاح الجو، الدرونات، والدفاعات الصاروخية. لكنّها حولت التقنية إلى بديلٍ عن التفكير، لا إلى أداةٍ داعمةٍ له. فالتكنولوجيا التي لا تخضع لعقلٍ تكتيكي تصبح مجرد واجهة ضوئية لضعفٍ داخلي.
خامسًا: القيادة المسيسة — فقدان الحافة المهنية
حين يتسلل القرار السياسي إلى عمق المؤسسة العسكرية، تفقد الأخيرة مرونتها وحكمتها. الضباط الكبار باتوا جزءًا من صراع البقاء السياسي أكثر من كونهم أدواتٍ للحسم الميداني، فاختلطت الأوامر بالتوجهات الانتخابية، وتحوّلت الجبهات إلى ساحات لإثبات الولاء أكثر من الانتصار.
سادسًا: ثقافة التعلم والمساءلة — غياب المراجعة الصادقة
الجيش الإسرائيلي الذي طالما تباهى بأنه 'يتعلم من كل حرب” لم يتعلم من فشله الأخير. لجان التحقيق صارت شكلية، والنتائج تُخفى خشيةَ المساءلة. فبدل أن تُبنى الإصلاحات على النقد الذاتي، أُقيمت على رواية تبريرية تُنكر الخلل وتحوّله إلى 'تكتيك مؤقت”.
سابعًا: المأزق البنيوي — بين الهوية والدور
المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ليست جيشًا فقط؛ إنها أداة الهوية الوطنية. فحين يتصدع الجيش، يتصدع الإيمان بوجود الدولة نفسها. لذلك تحاول إسرائيل دائمًا إنعاش 'أسطورة الردع” عبر الإعلام والسياسة، حتى وإن كانت تعيش على أنقاضها في الواقع.
الخاتمة — حين تهزم القوة نفسها
القوة التي لا تعرف كيف تراجع ذاتها تهزم نفسها قبل أن يهزمها الآخرون.
لقد بنَت إسرائيل مجدها العسكري على الرعب، لكنها لم تبنِ مؤسساتها على الثقة. ومن دير ياسين إلى غزة، ظلّ مبدأ 'التخويف سبيل البقاء' حاضراً في اللاوعي السياسي والعسكري. غير أن الزمن تغيّر، والميدان لم يعد يخضع للخوف، بل للوعي، وهو سلاح الخصوم الحقيقي اليوم.
الجيش الإسرائيلي ما زال يمتلك السلاح، لكنه يفقد المعنى.
ولعلّ أخطر ما تواجهه إسرائيل اليوم ليس فشلها في تحقيق النصر، بل إصرارها على تعريف الفشل بأنه نصر مؤجَّل.
فحين يختلط الكبرياء بالعجز، ويتحول الردع إلى ذاكرةٍ لا إلى واقع، تكون القوة قد بلغت ذروتها الأخيرة… حيث تبدأ بالانكسار من داخلها.












































