اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
الأردن والاتحاد الأوروبي: من الدعم المالي إلى بناء شراكة سيادية في أمن المياه والتنمية
د. عدلي قندح
حين أعلنت المفوضية الأوروبية تمويل خطة العمل متعددة السنوات مع الأردن للفترة 2025–2027، بدا المشهد للوهلة الأولى امتدادًا لسلسلة من برامج الدعم الأوروبي التقليدية التي تتوزع على قطاعات الحوكمة والطاقة والمياه والتنمية الاقتصادية. لكن قراءة متأنية لما وراء الأرقام، تكشف أن القضية تتجاوز التمويل إلى إعادة رسم خريطة العلاقة بين الأردن والاتحاد الأوروبي على قاعدة جديدة، قوامها 'الشراكة السيادية” لا 'الدعم الموجه”.
فالأردن اليوم ليس بحاجة إلى تمويل فقط، بل إلى إطار ذكي يوظّف الموارد الخارجية في بناء منعة داخلية، تحرّك الاقتصاد وتُرسّخ الأمن المائي والسياسي في بيئة إقليمية مضطربة تتنازعها الأزمات من كل اتجاه.
إن مبلغ الـ228 مليون يورو المقرر على ثلاث سنوات، وإن بدا محدودًا بمقاييس الاقتصاد الكلي، إلا أن قيمته الحقيقية تكمن في نوعية التوظيف لا في حجمه المالي. فالأردن يستطيع أن يحوّل هذه الأموال إلى رافعة لتجديد نموذج التنمية، إن هو أدارها بعقلية استثمارية لا بيروقراطية.
من زاوية اقتصادية، يتعين أن يُعاد تصميم آليات الدعم لتصب في مشاريع إنتاجية تخلق فرص عمل وتخفض الكلف التشغيلية، لا في برامج استهلاكية قصيرة الأمد. المطلوب أن يُدار التمويل بأسلوب الصناديق الاستثمارية التنموية ذات العائد الاجتماعي والاقتصادي المزدوج، بحيث تتحول كل يورو إلى قيمة مضافة حقيقية في الاقتصاد المحلي، وليس إلى مجرد بند في حساب النفقات العامة.
فدعم الحوكمة لا ينبغي أن يقتصر على التدريب والمؤتمرات، بل على بناء أنظمة مؤسسية رقمية تُحد من الهدر وتُعزز الشفافية، وتفتح الباب أمام استثمارات أوروبية مباشرة في مشاريع الطاقة والمياه.
أما البعد المائي، فهو لبّ الأمن الوطني الأردني، ومحكّ فعالية هذه الخطة الأوروبية. إن المطلوب ليس فقط تمويل مشاريع تحلية أو شبكات مياه، بل تأسيس 'اقتصاد مائي” مستدام، يُعامل المياه كأصل استراتيجي وليس كخدمة اجتماعية مدعومة. هنا يمكن توجيه الدعم الأوروبي نحو بناء شركات شراكة عامة–خاصة متخصصة في إدارة المياه المعالجة، وتحلية المياه باستخدام الطاقة المتجددة، وإعادة تدوير المياه الصناعية والزراعية. مثل هذا التحول يخلق صناعة جديدة ويخفف الضغط عن الموازنة العامة، ويحوّل الأمن المائي إلى أداة استقرار سياسي واقتصادي طويل الأمد.
سياسيًا، تُدرك أوروبا أن استقرار الأردن ليس ترفًا جيوسياسيًا، بل ضرورة استراتيجية لأمن المتوسط والشرق الأوسط. لذلك يأتي هذا التمويل أيضًا كاستثمار في الاستقرار الإقليمي، لكنه سيكون أكثر فاعلية إذا اقترن بإشراك الأردن في رسم أولويات التمويل وتحديد المشاريع، لا أن يبقى متلقيًا للبرامج الجاهزة. فالشراكة الحقيقية تقوم على تمكين الطرف المحلي من القرار، لا على الاكتفاء بإدارته للمنح وفق أجندات خارجية.
باعتقادي ان الوقت ربما حان لأن يُدار التعاون الأوروبي–الأردني كمنصة إقليمية مشتركة، تُصدر حلولاً ذكية في مجالي الطاقة والمياه إلى المنطقة، بدل أن تظل الأردن ساحة تنفيذ لمشاريع تمويلية. فبدل أن تُصرف الأموال على دراسات واستشارات متكررة، يمكن أن تُوجه لإنشاء مركز إقليمي للابتكار في أمن المياه والطاقة، بشراكة أردنية–أوروبية، يكون مقره عمان، ويتولى تطوير تكنولوجيات قابلة للتصدير إلى دول الإقليم. هكذا يتحول الدعم إلى استثمار معرفي وسيادي يعزز مكانة الأردن كمركز خبرة لا كمستفيد فقط.
إن قرار الاتحاد الأوروبي بتمويل خطة 2025–2027 مع الأردن يحمل فرصًا استثنائية، لكنه في جوهره اختبار لقدرتنا على تحويل المساعدات إلى أدوات سيادة وتنمية حقيقية. فالمسألة ليست في حجم التمويل بل في نوعية الإدارة، ولا في الدعم المالي بل في الرؤية الوطنية التي تقوده.
وبهذا الخصوص نقد التوصيات التالية:
1.إنشاء وحدة وطنية دائمة لإدارة الشراكات الأوروبية ترتبط برئاسة الوزراء مباشرة، تتولى متابعة التنفيذ وتقييم الأداء سنويًا وفق مؤشرات اقتصادية ومائية واضحة.
2.تحويل جزء من التمويل إلى صندوق استثماري للتنمية المستدامة يموّل مشاريع الطاقة المتجددة وإعادة استخدام المياه، بمشاركة القطاع الخاص.
3.اعتماد نموذج 'العائد الاجتماعي على الاستثمار” لقياس الأثر الحقيقي لكل يورو يُنفق، بدل الاقتصار على التقارير المالية الشكلية.
4.تعزيز الشراكة العلمية مع الجامعات الأردنية والأوروبية لتطوير حلول محلية لمشكلات المياه والطاقة، وتوطين المعرفة التقنية داخل الأردن.
5.إشراك المجتمعات المحلية والبلديات في تخطيط المشاريع وتنفيذها لضمان العدالة المكانية والاستدامة الاجتماعية.
إن العلاقة الأردنية–الأوروبية على أعتاب تحولٍ نوعي: من علاقة مانح–مستفيد، إلى علاقة شركاء في بناء استقرارٍ ذكي ومستقبلٍ آمن. والكرة الآن في ملعبنا.
