اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة الحقيقة الدولية الاخبارية
نشر بتاريخ: ٣٠ حزيران ٢٠٢٥
من منظور تربوي خالص، لا يمكن النظر إلى امتحان الثانوية العامة في الأردن – «التوجيهي» – باعتباره مجرد محطة دراسية عابرة، أو امتحانًا نهائيًا لتقييم التحصيل، بل هو مرآة تعكس أعمق إشكاليات النظام التربوي الأردني: مركزية المحتوى، وتكدّس المفاهيم، وغياب المرونة، والانفصال عن واقع المتعلم وسوق العمل في آنٍ معًا.
اليوم، ومع تزايد أعداد المتقدمين للامتحان ليصلوا إلى أكثر من ربع مليون طالب وطالبة سنويًا، يصبح المشهد أكثر من مجرد رقم. نحن أمام انفجار سكاني تربوي، لا يُقابله توسّع موازٍ في الفرص الجامعية أو المهنية، ولا تطوير حقيقي في فلسفة التقييم ولا مضمون المناهج. النتيجة؟ آلاف من الطلبة يُقصون سنويًا من دائرة «النجاح» بسبب معيار وحيد: العلامة النهائية، بينما يُغيب تمامًا التقييم الشمولي الذي يعكس المهارات، والاتجاهات، والقدرات المتنوعة لدى الطلبة.
التربوي يدرك أن التعليم الناجح لا يُقاس بالمخرجات الكمية فقط، بل بقدرته على إحداث نمو متوازن في شخصية الطالب: معرفيًا، وجدانيًا، ومهاريًا. أما نظام التوجيهي الحالي، فهو يُفرز أجيالاً مثقلة بالقلق، تائهة بين توقعات المجتمع وضغط الأسرة وتناقضات النظام، دون أن تتمكن غالبًا من التعبير عن إمكاناتها الحقيقية. والجانب الأخطر أن من يخفق في اجتياز الامتحان يُصنَّف تلقائيًا كحالة فشل تربوي، دون أن يُسأل النظام عن مدى عدالته، وواقعيته، ومرونته في احتضان هذا التنوّع البشري المشروع.
من جهة مهنية، تُظهر الدراسات المحلية وجود فجوة صارخة بين مخرجات التعليم الثانوي والتخصصات الجامعية، وبين متطلبات سوق العمل. تقرير المركز الوطني لتنمية الموارد البشرية يؤكد أن البطالة ترتفع في صفوف خريجي الجامعات سنويًا، خصوصًا في التخصصات النظرية التي يتجه إليها كثير من الطلبة مضطرين، بعد أن ضاقت أمامهم خيارات المسار الأكاديمي أو المهني المناسب. هذه المفارقة التربوية تتطلب معالجة شاملة: ليست المشكلة في الطلبة، بل في تصميم نظام تربوي لا يعكس احتياجات الواقع، ولا يتماشى مع قدرات المتعلمين المختلفة.
من منظور تربوي تطبيقي، الحل يبدأ بإعادة هيكلة الثانوية العامة تربويًا وفكريًا، وليس فقط تقنيًا. يجب أن يتحول التقييم من محطة فاصلة إلى عملية تراكمية مستمرة، تشتمل على أدوات تقييم متنوعة: المشاريع، الأداء العملي، التفكير النقدي، التحليل، والانخراط المجتمعي. كما ينبغي إحياء دور المرشد التربوي المهني، ليس بوصفه مكملًا شكليًا، بل كفاعل أساسي يوجّه الطالب نحو التخصصات التي تناسب قدراته لا فقط تلك التي تُرضي تطلعات المجتمع.
ولنا في التجارب العالمية نماذج تربوية ملهمة. فنلندا، على سبيل المثال، اعتمدت فلسفة تعليمية تركز على «الإنسان المتعلم»، وليس «الطالب المُقيَّم»، وألغت الامتحانات النهائية الموحدة لصالح التقييم المستمر. أما ألمانيا، فطبقت نموذج التعليم المزدوج، الذي يربط الطالب بسوق العمل من خلال التدريب المهني إلى جانب التعلم النظري، ما أدى إلى انخفاض نسب البطالة وتحسين الرضا الوظيفي.
لكن الأهم من كل ذلك، أن هذه الإصلاحات تمت ضمن استراتيجيات تربوية وطنية شاملة، بإرادة حقيقية، وبقيادة تربويين حقيقيين، يدركون أن التعليم ليس حقلًا للتجريب الموسمي، ولا ملفًا بيروقراطيًا، بل ركيزة لاستقرار الدولة ونمائها.
لذلك، فإن المطلوب اليوم في الأردن ليس تعديلًا في آلية امتحان التوجيهي، بل إعادة تعريف لمفهوم النجاح والفشل تربويًا. نحتاج إلى قيادة تربوية جريئة، تؤمن بأن الإنسان ليس مجرد نتيجة رقمية، بل مشروع حياة يجب رعايته. وزارة التربية والتعليم مدعوة إلى إطلاق خطة إصلاح تربوي متكاملة، تُسند فيها مهمة التقييم إلى أدوات متنوعة، وتُعاد فيها هيبة التعليم المهني والتقني، ويُفعّل فيها التوجيه الفردي المبكر للطلبة، وتُعالج فيها الضغوط النفسية عبر بناء بيئة تعليمية رحيمة، لا عقابية.
القيادات التربوية ليست تلك التي تدير امتحانًا ناجحًا إداريًا، بل التي تخلق بيئة تعلم مستدامة، عادلة، وشاملة. لقد آن الأوان أن نُحرر التوجيهي من سطوة الامتحان الواحد، ونُعيد التعليم إلى مساره الإنساني والتربوي الصحيح، حيث النجاح يُقاس بما تعلمه الإنسان، لا بما حصده في لحظة واحدة من لحظات الضغط.
وختامًا، إن كان للتربية من معنى، فهو أن تمنح لكل طالب مكانًا، ولكل موهبة فرصة، ولكل تجربة طريقًا. والأردن يستحق أن يكون نموذجًا تربويًا عربيًا رائدًا، لا شاهدًا على معاناة جيلٍ علّقنا مصيره بورقة امتحان.