اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة رم للأنباء
نشر بتاريخ: ١٦ أيار ٢٠٢٥
رم - أ.د.علي النحلة حياصات
في مشهد لا يخلو من المفارقات التاريخية، قوبل اللقاء الذي جمع الرئيس السوري مع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مؤخراً، بترحيبٍ شعبي لافت عبّرت عنه وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية العربية، في تحول دراماتيكي في المزاج الشعبي العام، يستحق الوقوف عنده ليس كحدث سياسي عابر، بل كعلامة فارقة على تحوّل أعمق في البنية النفسية والثقافية والاجتماعية للشعوب العربية.
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديدًا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان الوعي السياسي العربي مشبعًا بالشعارات الثورية، والنزعة القومية، وعداء متأصل للإمبريالية الغربية التي تُمثّلها الولايات المتحدة في الخطاب الرسمي والشعبي العربي. لم يكن العداء لأمريكا مجرد موقف سياسي, بل كان ركيزة ثقافية في مفردات الحياة اليومية للمواطن العربي . كانت أمريكا، ومعها الغرب كله، تُجسّد الهيمنة والاستعمار الجديد، في زمن كانت فيه الشعوب العربية تفتش عن خلاصها عبر التحرر والانعتاق، لا عبر التحالف والانفتاح.
اليوم، وبعد مروركل هذه السنوات على تلك المرحلة، يتبدّى مشهد الزيارة كمرآة لانقلاب في منظومة القيم السياسية للجمهور العربي، لا سيما لدى الأجيال الجديدة. باتت أمريكا تُستقبل سياسياً وشعبياً – لا كقوة احتلال ثقافي أو سياسي – بل كفاعل ضروري يمكن أن يسهم في تسوية النزاعات أو تحسين الواقع المعيشي، حتى في الدول التي كانت من أكثرها رفضًا لهيمنتها.
ما الذي تغيّر إذًا؟ التحول لم يكن فجائيًا ولا مفتعلاً، بل هو نتاج مسار طويل من الانكسارات والانهيارات. تآكل الشعارات القومية، وغياب المشروع العربي الجامع، وانتكاسات الربيع العربي، والحروب الأهلية، والعقوبات، والتهجير، كلها عوامل مهّدت الأرض لتبدل المزاج العام. الشعوب التي ظلت لعقود تراهن على خطاب الكرامة والسيادة، وجدت نفسها في واقع من الفقر والعزلة والإقصاء الدولي، فبدأت تعيد تعريف أولوياتها: من الشعارات الكبرى إلى البقاء، من 'لا صلح لا اعتراف لا تفاوض ' إلى 'الانفتاح من أجل الإنقاذ'.
في ظل هذا التآكل، لم تعد الأيديولوجيا المحرّك الوحيد للسلوك الجمعي العربي، بل حلّت محلها الواقعية السياسية والبراغماتية الاقتصادية. المواطن العربي اليوم المثقل بالخيبات بات أقل استعدادًا للتضحية من أجل قضايا كبرى لم تثمر، وأكثر انشدادًا إلى تحسين ظروفه اليومية بأي ثمن.
اللافت أن أدوات التأثير تغيّرت أيضًا. لم تعد أمريكا تستخدم فقط سطوتها العسكرية لتكريس حضورها، بل طورت أدواتها عبر 'النعومة الدبلوماسية'، وتسويق نماذج التعاون الثقافي والتكنولوجي. كما تلعب وسائل الإعلام اليوم دورًا محوريًا في صناعة المزاج الجماهيري، حيث تُقدّم اللقاءات السياسية بلغة الود، وتُصاغ الأخبار بلغة الانفتاح، وتُزيّن الشاشات بصور المصافحات، في مقابل تراجع اللغة التعبوية الكلاسيكية التي كانت تملأ أثير الإذاعات في الخمسينات والستينات.
وسائل التواصل الاجتماعي، هي الأخرى، أسهمت في تفكيك مركزية العقيدة الايدلوجية، وفتحت المجال أمام سرديات شعبية جديدة، يُعبّر فيها الشباب عن آمالهم بطرق فردية، لا تتقيد بإرث النضال الجماعي القديم.
ربما يكون الاقتصاد هو البعد الأكثر حسمًا في هذا التحول. فالدول التي كانت تعتمد إلى حدّ ما على الاكتفاء الذاتي، أصبحت اليوم مرتهنة بالكامل للمساعدات، والاستثمارات، والانفتاح على الأسواق العالمية. وبالنسبة لسوريا، التي أنهكتها سنوات الحرب والعقوبات، تبدو كل خطوة نحو واشنطن أو العواصم الغربية فرصة محتملة لكسر الحصار أو جذب دعم اقتصادي، حتى لو جاء هذا الانفتاح على حساب مواقف سابقة.
يبقى السؤال الجوهري: هل يُمثّل هذا التحول في المزاج العام وعيًا جديدًا بالواقع وتحولاً نحو الواقعية السياسية؟ أم هو تعبير عن استسلام شامل أمام موازين قوى لا يمكن تحديها؟
ربما يكون الأمر مزيجًا من الاثنين. فالمزاج العربي اليوم هو نتيجة خضوع طويل لآلة التغيير الناعمة، لكنه أيضًا نتاج مراجعات داخلية قاسية أجراها المواطن العربي في وحدته وشتاته، بعد أن خذلته الأنظمة، وانسحبت المشاريع الكبرى، وذابت الحدود بين المقاومة والانهاك.
في المحصلة، إن الترحيب الشعبي بلقاءات كانت تُعدّ يومًا ما خيانة، لا يُعبر فقط عن تبدل في المزاج السياسي، بل عن تحوّل جذري في طبيعة العلاقة بين الفرد العربي وتاريخه، بين الشعوب ومفاهيمها عن الذات والسيادة. إنه زمن جديد، بملامح جديدة، وأسئلة مفتوحة على مستقبل لم تتضح ملامحه بعد.