من المدفوعات إلى التأمين

يشهد قطاع التقنية المالية (Fintech) في السعودية نموًا غير مسبوق، جعل المملكة في موقع الريادة الإقليمية على صعيد التحول الرقمي المالي. وفي عام 2024، رسم تقرير 'فنتك السعودية' ملامح هذا القطاع من خلال تسعة مجالات رئيسية، تمثل خريطة المستقبل للاقتصاد الرقمي في المملكة.

يأتي قطاع المدفوعات في الصدارة، مع وجود 79 شركة تعمل في هذا المجال، حيث شهدت التجارة الإلكترونية نموًا بنسبة 33% لتصل قيمتها إلى 543 مليار ريال. كما ارتفع عدد أجهزة نقاط البيع إلى أكثر من مليوني جهاز، بمعدل 50 جهازًا لكل ألف شخص، وهو معدل يفوق ما هو موجود في أسواق كبرى مثل الولايات المتحدة والصين. هذه المؤشرات تكشف عن سرعة تبني المجتمع السعودي للحلول الرقمية، بما يضعه في مصاف الدول المتقدمة في هذا المجال.

في قطاع التمويل، برزت خدمات 'اشتر الآن وادفع لاحقًا' (BNPL) التي بلغت قيمتها 36.6 مليار ريال، بزيادة 38% عن العام السابق، مع توسع عدد المتاجر المتعاقدة إلى 121 ألف متجر. كما نما التمويل المصغر ليستفيد منه أكثر من مليوني مقترض، معظمهم من ذوي الدخل المنخفض، في حين ارتفعت قيمة التمويل الجماعي بالدين إلى 3.2 مليار ريال بنسبة نمو 68%. هذا التنوع في أدوات التمويل يعكس انتقال السوق من الاعتماد على البنوك التقليدية إلى حلول مرنة وشاملة.

أما المصرفية المفتوحة، فقد شهدت قفزة نوعية بارتفاع الحسابات المرتبطة بنسبة 190%، لتصل إلى 334 ألف حساب. وتتركز هذه الخدمة في إدارة الحسابات والتمويل الشخصي، مع توقعات بأن تشكل رافعة مستقبلية للابتكار المالي. وفي قطاع الادخار، سجلت الجمعيات الادخارية الرقمية نموًا بنسبة 105%، مع توجه أكبر من فئة الشباب، حيث انخفض متوسط عمر المستخدمين من 31 إلى 25 عامًا. وهذا يوضح أن الفنتك لم يعد فقط أداة للمدفوعات، بل دخل في عمق ثقافة الأفراد المالية.

قطاع الاستثمار والاستشارات شهد بدوره طفرة لافتة مع ارتفاع الأصول المدارة عبر المستشار الآلي (Robo-Advisors) بنسبة 140% لتصل إلى 3.4 مليار ريال، وهو ما يعكس ثقة المستثمرين في حلول الذكاء الاصطناعي. أما الاستثمارات البديلة فقد قفزت من خلال التمويل الجماعي للأوراق المالية بنسبة 124%، لتصل قيمته إلى 3.42 مليار ريال، رغم تراجع توزيع صناديق الاستثمار والعقار بنسبة 54%. وهذا التحول يشير إلى إعادة تشكيل أولويات المستثمرين نحو أدوات أكثر تنوعًا ومرونة.

وفي مجال التأمين الرقمي (Insurtech)، ارتفع عدد الوثائق الصادرة بنسبة 10%، بينما قفز عدد العملاء النشطين إلى 8 ملايين عميل بزيادة 73%. هذه القفزة تعكس ثقة الأفراد في الحلول الرقمية لحماية أصولهم، لكنها في الوقت ذاته تفرض تحديات أمام الشركات في ما يتعلق بجودة الخدمة وإدارة المطالبات. كما تعمل 57 شركة على توفير حلول قائمة على الفنتك تشمل أدوات الإدارة المالية وحلول العمليات وإدارة المخاطر، وهو ما يجعل القطاع أكثر تنوعًا واستدامة.

هذه القطاعات التسعة تعكس صورة متكاملة لقطاع الفنتك السعودي، الذي لم يعد مقتصرًا على خدمات الدفع أو التحويلات المالية، بل تحول إلى منظومة شاملة تشمل التمويل، الادخار، التأمين، والاستثمار، معززة بإطار تنظيمي متطور يقوده البنك المركزي السعودي وهيئة السوق المالية.

أما بالنسبة للأردن والمنطقة العربية، فإن التجربة السعودية تقدم نموذجًا رائدًا في كيفية بناء منظومة فنتك متعددة الأبعاد قادرة على دعم الشمول المالي، وتمكين الشركات الناشئة، وجذب الاستثمارات. وإذا كان على الأردن أن يستلهم من هذه التجربة، فإن الأولوية يمكن أن تُمنح للتمويل الجماعي والادخار الرقمي، باعتبارهما أكثر القطاعات التصاقًا بواقع الشباب واحتياجات السوق المحلي.