اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥
مشروع موازنة 2026: بين الانضباط المالي واستمرار الجمود الهيكلي
د. عدلي قندح
تُعدّ موازنة عام 2026 اختباراً جديداً لقدرة الحكومة الأردنية على الموازنة بين هدفين متناقضين: الانضباط المالي وخفض العجز من جهة، وتحقيق النمو وتحفيز النشاط الاقتصادي من جهة أخرى. وتظهر الأرقام والفرضيات الواردة في مشروع قانون الموازنة العامة أن الحكومة تسعى إلى تحقيق معادلة دقيقة في بيئة اقتصادية مثقلة بالضغوط الداخلية والتحديات الإقليمية.
في هذا السياق، يأتي التحليل التالي لهيكل مشروع موازنة عام 2026 وفرضياته الاقتصادية، مع تناولٍ نقدي لمرتكزاته المالية والهيكلية، واستعراضٍ لمتطلبات إحداث تحول جوهري في سياسات المالية العامة، بما يعزز قدرتها على التأثير الإيجابي في الدورة الاقتصادية الوطنية، من خلال تفعيل كفاءة أدوات السياسات المالية في مجالات الإنفاق العام، والسياسة الضريبية، وإدارة الدين العام، بما يسهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام وتعزيز متانة المالية العامة للدولة:
أولاً: الهيكل العام للموازنة – عجز مستمر وطموحات مشروطة بالنمو
بلغت إجمالي الإيرادات العامةالمقدّرة في موازنة 2026 نحو 10.93 مليار دينار، مقابل نفقات عامة تصل إلى 13.06 مليار دينار، ما ينتج عنه عجز مالي يبلغ 2.141 مليار دينار، أي ما يعادل 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي المقدر لعام 2026.
تستهدف الحكومة خفض هذه النسبة من 5.2%في عام 2025 إلى 4.6% في عام 2026، وخفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي إلى 85.7% بنهاية العام.
لكن هذا الهدف، رغم وجاهته الفنية، يبقى محفوفاً بالمخاطر، إذ إن تحقيقه يعتمد على فرضيات اقتصادية متفائلة:
تحقيق نمو اقتصادي حقيقي بمعدل 2.9%،
واستقرار معدل التضخم عند 2.7%،
وتأمين منح خارجية بقيمة 750 مليون دينار.
أي انحراف عن هذه الفرضيات – سواء بتراجع النمو أو تأخر المنح أو ارتفاع أسعار النفط – سيؤدي إلى تفاقم العجزوارتفاع نسبة الدين مجدداً، خصوصاً وأن العجز الهيكلي ما زال قائماً، والدين العام كنسبة من الناتج بلغ 117.2% في يناير 2025، وهو رقم مرتفع يصعب تخفيضه جذرياً خلال عام واحد.
ثانياً: الإيرادات العامة – الاعتماد المفرط على الضرائب غير المباشرة
تُظهر بنية الإيرادات استمرار هيمنة الضرائب على هيكل الإيرادات العامة، إذ بلغت الإيرادات الضريبية 7.656 مليار دينار (70% من الإجمالي)، مقابل 2.54 مليار دينار من الإيرادات غير الضريبية و734.9مليون دينار من المنح.
وتتوزع الضرائب على:
ضرائب على السلع والخدمات بقيمة 5.176 مليار دينار،
ضرائب على الدخل والأرباح بقيمة 1.926 مليار دينار.
هذا التكوين يعكس اعتماد السياسة المالية على الضرائب غير المباشرة التي يتحملها المستهلك النهائي، ما يزيد الضغط المعيشي على الأسر ويضعف العدالة الضريبية، في حين تظل الضرائب على الدخل والثروة محدودة المردود. كما أن الإيرادات غير الضريبية لم تُستخدم بعد كأداة فاعلة لتعظيم عوائد الدولة من أصولها واستثماراتها.
ثالثاً: النفقات العامة – الجمود المالي وهيمنة الجاري على الرأسمالي
ما زالت النفقات الجارية تستحوذ على الحصة الأكبر من الموازنة بنسبة 87.7%، أي 11.455 مليار دينار، مقابل 1.6 مليار دينار فقط للنفقات الرأسمالية (12.3%). ويُشكل هذا التركيب استمراراً لما يمكن وصفه بـ 'الجمود المالي”، حيث يذهب الجزء الأكبر من النفقات إلى بنود يصعب تخفيضها:
الرواتب والأجور للمدنيين والعسكريين والأمنيين (حوالي 6.6 مليار دينار مجتمعين)،
خدمة الدين العام (فوائد) التي بلغت 2.260 مليار دينار،
التقاعد والدعم وبعض الالتزامات الاجتماعية.
في المقابل، تراجعت النفقات الرأسمالية مقارنة بموازنة 2024 (1.7 مليار دينار)، ما يعني تآكلاً في القيمة الحقيقية للإنفاق التنموي. وبذلك تظل الموازنة ذات طابع تسييري أكثر من كونها تنموية، إذ لا يتجاوز الإنفاق الاستثماري الحد الأدنى القادر على تحفيز النمو وخلق فرص العمل المستدامة.
رابعاً: الفرضيات الاقتصادية – تفاؤل بحذر
اعتمدت الموازنة على فرضيات رئيسية تبدو واقعية جزئياً ومتفائلة جزئياً:
النمو الاقتصادي (2.9%): نسبة متفائلة تتوقف على تنفيذ مشاريع كبرى مثل 'الناقل الوطني للمياه” (60 مليون دينار مخصص) ومشروع 'السكك الحديدية”. أي تأخير فيها سيؤثر سلباً على النمو والإيرادات.
التضخم (2.7%): تقدير واقعي ويعكس نجاح السياسات النقدية للبنك المركزي في السيطرة على الأسعار.
المنح الخارجية (750 مليون دينار): تقدير غير مضمون نظراً لتقلب الظروف الجيوسياسية واعتماد الأردن المستمر على المساعدات.
خامساً: الدور المؤسسي لمجلس الأمة – رقابة محدودة وتأثير جزئي
منح الدستور الأردني مجلس الأمة صلاحيات واضحة في مناقشة مشروع الموازنة العامة (المادتان 112 و113)، حيث يملك مجلس النواب حق مناقشة وتخفيض النفقات أو نقلها بين الأبواب، لكن لا يمكنه زيادة إجمالي النفقات أو تعديل الإيرادات دون موافقة الحكومة.
ويُتوقع أن تتركز المناقشات على توزيع النفقات الرأسمالية على المحافظات والمطالب المحلية، بينما تبقى البنية الكلية للموازنة كما وردت من الحكومة، لغياب أدوات تحليل فنية مثل 'مكتب موازنة برلماني مستقل”.
أما مجلس الأعيان، فيمارس صلاحياته بمراجعة وتعديل المشروع بعد النواب، لكن نادراً ما تطرأ تغييرات جوهرية على التوجه العام، حفاظاً على الاستقرار المالي للدولة.
سادساً: تقييم هيكلي – بين الانضباط المالي وضعف التحفيز التنموي
نقاط القوة:
وضوح مستهدفات العجز والدين والانضباط المالي.
استقرار نسبي في الفرضيات الاقتصادية والتضخم.
استمرار التمويل لمشاريع رؤية التحديث الاقتصادي (396 مليون دينار).
التزام الحكومة بتحسين إدارة الدين عبر استبدال القروض المكلفة.
نقاط الضعف:
ارتفاع الإنفاق الجاري وضعف الإنفاق الرأسمالي.
اعتماد مفرط على الضرائب غير المباشرة.
عبء فوائد الدين العام (2.26 مليار دينار).
بطء الإصلاح الإداري والهيكلي الحقيقي.
ضعف في التنويع الاقتصادي ومصادر الإيرادات.
سابعاً: ما بعد الإقرار – من أرقام الموازنة إلى أثرها الاقتصادي
تحتاج الحكومة بعد إقرار الموازنة إلى التحول من نهج إدارة الأرقام إلى إدارة النتائج، عبر ثلاث خطوات أساسية:
1.تحقيق النمو المستهدف (2.9%) عبر إزالة المعوقات أمام الاستثمار الخاص، ومتابعة تنفيذ مشاريع التحديث الاقتصادي شهرياً.
2.تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال نشر تقارير أداء ربع سنوية تربط الإنفاق بالنتائج الملموسة (الطرق، المدارس، المياه…).
3.إدارة فعالة للإيرادات والدين العام من خلال مكافحة التهرب الضريبي، وتوسيع القاعدة الضريبية العادلة، واستبدال الديون المكلفة بأخرى أقل كلفة وأطول أجلاً.
ثامناً: مقترحات عملية للإصلاح المالي والاقتصادي
1.إعادة هيكلة الإنفاق العام لخفض النفقات الجارية بنسبة 5 نقاط مئوية خلال سنتين.
2.رفع حصة النفقات الرأسمالية إلى 18–20% خلال ثلاث سنوات، وتوجيهها لمشاريع إنتاجية.
3.إصلاح النظام الضريبي لزيادة عدالة التوزيع والاعتماد على ضرائب الدخل والثروة أكثر من الضرائب غير المباشرة.
4.تعظيم الإيرادات غير الضريبية عبر استثمار أصول الدولة والممتلكات غير المستغلة.
5.حوكمة مالية متقدمة من خلال مراجعات إنفاق دورية وربط الصرف بمؤشرات أداء محددة.
6.ابتكار أدوات تمويلية مثل السندات الخضراء أو الصكوك التنموية لتمويل مشاريع البنية التحتية.
7.إطلاق صندوق شراكة التنمية المحلية لتوجيه وفورات خفض النفقات الجارية نحو مشاريع إنتاجية في المحافظات.
خلاصة
إن موازنة 2026 تحمل ملامح انضباط مالي واستقرار اقتصادي نسبي، لكنها لا تزال أسيرة الجمود الهيكلي الذي يحد من دورها التنموي. فهي موازنة واقعية في الشكل، لكنها متحفظة في الأثر، إذ تسعى للحفاظ على الاستقرار أكثر مما تطمح إلى إطلاق النمو.
وحتى تتحول الموازنة إلى رافعة تنميةلا مجرد أداة ضبط مالي، يجب أن تنتقل الحكومة من مرحلة إدارة النفقات إلى مرحلة تعظيم العائد من كل دينار يُنفق، وربط الموازنة برؤية اقتصادية إنتاجية طويلة الأمد.












































