اخبار العراق
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٣ شباط ٢٠٢٥
كيف تستخدم أموال الفصائل لتشويه النساء في بلاد الرافدين؟
'قد حاولت مراراً وتكراراً تجنب هذه الفيديوهات المستفزة، لكنني لا أكتفي بالمشاهدة فقط. أبدأ بقراءة التعليقات، وأجزم كل يوم بأنني أعيش في بلد منهار يريد المتحكمون به أن يجردوني من أبسط حقوقي كامرأة، اختيار ارتداء الحجاب أو عدمه'.
ليست هدى محمد (24 سنة) وحدها من تشعر بأنها غير قادرة على اعتبار ما يصدر من فيديوهات تحريضية ضد النساء في وسائل التواصل الاجتماعي العراقية عفوية 'ما يحدث ممنهج، كنت أشعر أنه عفوي أو ترند، لكن صفحات كاملة تعتاش عليه وتكثر من هذا المحتوى حتى صار مفضوحاً'.
حاولت 'اندبندنت عربية' لأكثر من ثلاثة أشهر مراقبة بعض صفحات شبابية أُنشئت على منصتي 'فيسبوك' و'إنستغرام' وهي حديثة العهد، ومنها 'الشباب بلس' و'جوار' و'خليك إيجابي' و'محتوى هادف' و'بالعراقي'، وغيرها طبعاً من الصفحات الفردية التي يديرها شخص واحد فقط.
وبعد بحث مستمر حول مصدر تمويل هذه الصفحات، وما إذا كانت بالفعل مبادرات فردية شبابية كما يروج لها، تبين أنها مرتبطة بمديرية إعلام 'الحشد الشعبي'، أي إنها ليست مجرد حسابات شخصية يديرها متشددون شباب أو دعاة لإصلاح المجتمع، بل هي أدوات ممنهجة تهدف إلى فرض نموذج معين للمرأة، وترهيب كل من تخرج عنه.
أهداف هذه الصفحات
تستخدم هذه الحملات أساليب التشهير والترهيب العلني، عبر نشر صور وفيديوهات لنساء لا يرتدين الحجاب أو يملكن مظاهر لا تتماشى مع 'المرأة المسلمة الحقيقية' كما يعرفها القائمون على هذه المحتويات. وغالباً ما تأتي هذه المنشورات مصحوبة برسائل تحريضية موجهة إلى الآباء والأخوة والرجال عموماً، تحمل سؤالاً مستفزاً: 'هل ترضاها على أختك؟'، في محاولة مباشرة لإثارة الغضب ضد النساء ودفع المجتمع نحو مزيد من الوصاية والعنف ضدهن.
وتستهلك هذه الصفحات كثيراً من موازنة إعلام 'الحشد' شهرياً لبث فيديوهات متنوعة، سياسية واجتماعية و'توعيظية'، وتتراوح الرواتب التي تُدفع بالدولار، متباينة بين صناع المحتوى إلى الفنيين، لكنها لا تقل عن 1000 دولار شهرياً إلى 3 آلاف دولار.
وتنتشر هذه الفيديوهات بتمويل كبير، وتظهر للجميع بخاصة في تطبيقي 'تيك توك' الذي يتابعه أكثر من 31 مليون عراقي، و'إنستغرام' الذي يتابعه أكثر من 19 مليوناً، حسب آخر إحصاء لـ'مركز الإعلام الرقمي'، فيما تختفي الصفحات في المنصات التي لا تجذب الشباب كثيراً مثل 'فيسبوك' و'إكس'.
وتعمد هذه الصفحات بصورة مباشرة على توظيف وجوه شابة لتقديم محتواها، وتفرض على جميع الفتيات والنساء اللاتي يقدمن حلقات أسبوعية في هذه المنصات، ارتداء الحجاب أو العباءة الإسلامية العراقية. وعلى رغم أن كثيراً من مقدمي هذا المحتوى كانوا غير معروفين سابقاً، فإنهم اكتسبوا شهرة سريعة نظراً إلى حساسية المواضيع المطروحة، التي غالباً ما تتجاوز حدود النقد الاجتماعي لتتحول إلى انتهاك للخصوصية، وتحريض مباشر على النساء، وفقاً لآراء كثير من الناشطين الذين يعتبرون هذه الحملات جزءاً من موجة أوسع لدعم خطاب الكراهية ضد المرأة.
وكشف أحد العاملين في إحدى هذه الصفحات، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، عن أن توجيهات المحتوى لا تصدر عن صناعه، بل يُتحكم بها من قبل جهات محددة لديها أجندة واضحة 'هناك تعليمات دقيقة لهذه الصفحات بضرورة تكثيف النشر حول مفهوم المرأة الصالحة'، ولكن وفق معايير دينية حصرية لا تعكس تنوع المجتمع العراقي، بل تحاول فرض نموذج أحادي للمرأة يُروج له باعتباره 'النموذج الإسلامي الحقيقي'.
أضاف المصدر أن هذه التوجيهات لا تهدف فقط إلى التأثير في وعي المتابعين، بل تسعى إلى تشكيل بيئة اجتماعية تمارس فيها الرقابة على المجتمع بطرق غير مباشرة، ووضعه تحت ضغط الترهيب الاجتماعي.
'غالبية المصورين والمنتجين وحتى كتاب السيناريو العاملين في هذه المنصات لا يتفقون مع المحتوى الذي يطلب منهم إنتاجه، في الأقل خارج جدران الاستوديو، لكن الحاجة إلى تأمين لقمة العيش تدفع بعضهم إلى القبول بهذه المهام، على رغم إدراكهم خطورتها وتأثيرها السلبي في النساء والمجتمع'.
وتابع المصدر نفسه موضحاً أنه 'من المستبعد أن تؤمن امرأة فعلاً بالمحتوى الذي تقدمه عندما تروج لقبول العنف الأسري، أو تدعو النساء إلى الرضوخ للطرد من منازلهن، أو تقنعهن بأن الصمت هو الخيار الوحيد أمامهن. لا أحد يختار أن يكون أداة ضد نفسه ما لم يكن مضطراً إلى ذلك. غالباً النساء اللاتي يظهرن في هذه الفيديوهات يتحملن عبء مواجهة سيل من الانتقادات فقط من أجل راتب شهري، ويدركن تماماً أنه ثمن لتشويه واقعهن وحياة أخريات'.
التحريض الممول
'وتدار هذه الصفحات وفق خطة ممنهجة، تخصص، في كل مرة، محوراً جديداً لتسليط الضوء عليه. ويجد المتابع العراقي نفسه أمام سيل من المحتوى المتشابه، يطرق الموضوع نفسه في كل زاوية من زوايا الإنترنت، وكأن هذه القضايا هي الأهم في حياته اليومية، على رغم أنها غالباً ما تكون بعيدة من أولوياته الحقيقية وسط تحديات الحياة في بلده'، يقول المصدر نفسه.
ومع غياب أي تدخل من هيئة الاتصالات وصمتها المريب تتسع رقعة التحريض، ويشعر الأفراد بثقة زائفة تمنحهم الحق في التنمر والتهديد وحتى التشهير، من دون خوف من المساءلة.
وتحكي إحدى الخريجات تجربتها مع هذه الصفحات 'وجدت نفسي فجأة في مقطع فيديو مشوه، يعرض صورتي وينتهك خصوصيتي، وعندما واجهت صانع المحتوى وهددته برفع قضية تشهير، جاء رده صادماً وواضحاً: نحن الدولة... ممن تشتكين؟'.
وتشير الناشطة مودة أحمد إلى أن هذه الفيديوهات لم تكن موجودة قبل أقل من عام، أي قبل إنشاء هذه الصفحات المتطرفة، ولم تكن مطروحة على وسائل التواصل الاجتماعي العراقية. وحتى عندما تنشر كانت تمثل آراء أصحابها فحسب، لكنها تدريجاً بدأت تتحول إلى جزء من المحتوى الرقمي السائد، والصفحات هذه أصبحت تنشر بصورة أسبوعية فيديوهات تتعلق بالحجاب وربطه بأي حديث.
ومن سوء الحظ قررت إحدى المؤثرات على هذه الوسائل التخلي عن الحجاب، فتحولت إلى مثال حي وأرض خصبة لتلك الصفحات، وعلى مدى أكثر من شهر أصبحت هذه المؤثرة موضوعاً مجانياً للوعظ والنقد، واستمرت الصفحات في طرح القضية بصورة متكررة ومكثفة 'هذا النهج يعد جزءاً من استراتيجية ترهيب وترويع لأي فتاة تفكر في اتخاذ خطوة مماثلة، وهم يمارسون دوراً غير قانوني، إذ لا تنص أي مادة دستورية على فرض الحجاب في العراق'.
أهداف صحافية واضحة؟
ولا تكتفي هذه الصفحات بطرح قضايا عامة أو مناقشة مفاهيم مجردة حول الأخلاق والسلوك القويم، بل تعتمد التشهير المباشر، الذي لا يقترب من أخلاقيات الصحافة، يقول الصحافي أحمد المولى إن هذه الصفحات تبدأ بترويج لشكل الإعلام الحالي في العراق، إذ يعمد صناع المحتوى إلى نشر صور وفيديوهات لفتيات من دون موافقتهن، مما يعرضهن لخطر حقيقي، وتُجمع هذه المقاطع من حساباتهن الشخصية وتُعرض أمام ملايين المتابعين، من دون أي اعتبار لخصوصيتهن أو سلامتهن.
وتتنوع هذه الفيديوهات، فمنها مقاطع لحفلات تخرج لفتيات يرقصن ابتهاجاً بإنجازهن، أو صور عادية تلتقط في مناسبات اجتماعية، لكن بمجرد أن تقع هذه المشاهد بيد صناع هذه الصفحات تتحول إلى أدلة تستخدم في خطاب تحريضي ضد النساء، وكأنهن ارتكبن جرماً يستوجب العقاب.
وبحسب المولى، فإن صناع هذه الفيديوهات المدعومين مالياً من جهات معروفة يعتمدون أسلوب الاستفزاز المباشر للذكور، إذ تبدأ معظم الفيديوهات بأسئلة من قبيل 'هل تقبل هذا على أختك؟' و'أين آباء هؤلاء الفتيات؟' و'هل أنت شريف أم منزوع الغيرة؟'. هذه الأسئلة ليست بريئة، بل تحمل تحريضاً ضمنياً على ممارسة العنف والوصاية الذكورية، وتغذي بيئة ترى أن على الرجال التدخل في قرارات النساء الشخصية، وصولاً إلى تبرير قمعهن أو حتى الاعتداء عليهن.
'القانون العراقي لا يجرم الرقص أو التصفيق في حفلات التخرج، التي شيطنوها كثيراً، أو المناسبات الاجتماعية مثل عيد رأس السنة، ومع ذلك تُخرج هذه المشاهد من سياقها الطبيعي، ويُعاد تدويرها في إطار تحريضي يراد منه تثبيت صورة نمطية مشوهة عن المرأة، وتحويل حياتها الخاصة إلى قضية رأي عام مشحونة بالعنف والترهيب'، تقول الناشطة مودة، مضيفة 'يكرر أصحاب هذه الفيديوهات أن حركات ورقص الفتيات ليست عفوية، بل تابعة على الغالب لأجندات غايتها تدمير الأسرة العراقية وجعلها أكثر تفككاً، وبسبب هذه المقاطع تصلنا في المنظمة شكاوى كثيرة لفتيات بدأن يتعرضن للترهيب بصورة حقيقية. وقرر شقيق إحداهن منعها من إكمال اختباراتها قبل حفل تخرجها بأسبوع، وعلى رغم أنها حاولت كثيراً معه، وجلبت بعض الأساتذة ليقنعوه بأنهم ليسوا غير شرفاء كما تصفهم هذه الصفحات، ولا نتيجة'.
رأي الدين
وفي هذا السياق أوضح الشيخ محمد الكعبي أن التوعية في الدين لا تحصل بهذه الطريقة، التي هي أقرب إلى أن تكون تحريضاً وقمعاً جديداً يضاف إلى سلسلة القمع في حق المرأة العراقية 'الأمور الدينية لا تُناقش إلا من طريق أشخاص متخصصين، أما جلب بعض الشباب، ومنحهم لغات متنمرة وساخرة، وتعمد لغة الأذى والشرف، وقول ما هو حلال وحرام وفق مزاجات وانتماءات شخصية، ثم فرضها على مجتمع كامل معروف بتنوعه الديني والعرقي، فهذا إجرام. وتحولت هذه الصفحات إلى أداة فعالة بيد التيارات الدينية المتشددة'، وأضاف الشيخ الكعبي 'أصبحت هذه الصفحات الذراع الإعلامية اليمنى لهذه الجماعات، تستخدم لتضييق الخناق على كل من يخالف رؤيتهم المتشددة، سواء من النساء أو الشباب وحتى المثقفين.'
وتابع 'عبر هذه الصفحات، تُمرر رسائل دينية متطرفة مغلفة بخطاب اجتماعي ظاهره نصح وإرشاد، لكن باطنه تحريض وإقصاء. الهدف واضح: خلق بيئة خانقة لا مجال فيها للتعددية أو النقاش، إذ يعتبر كل صوت مخالف سواء كان نسوياً أو ليبرالياً أو حتى معتدلاً تهديداً يجب القضاء عليه.'
وقال أيضاً 'الخطورة لا تكمن فقط في نشر الكراهية، بل في خلق ثقافة عامة تشجع على الوصاية والتدخل في حياة الناس الشخصية، وتحويل القضايا الدينية إلى معايير لقياس الوطنية والانتماء، وهو ما يعمق الانقسامات داخل المجتمع'، والجهات التي تقف وراء هذه الحملات تستفيد من هذا الواقع لأنها تريد ترسيخ نظام يتناسب مع مصالحها السياسية أو الدينية ويضمن استمرار تحكمها بالمجتمع.
وسردت نيران القلمجي وهي ناشطة سياسية قصة فتاة ظهرت قبل أعوام في مقابلة عفوية، وسئلت عن رأيها في الحجاب، فأجابت ببساطة 'قد يكون ليس فرضاً لكنه مستحب'، ولم تكن تعلم حينها أن هذا التصريح سيعود ليطاردها لاحقاً. وظهرت الفتاة مجدداً ولكن هذه المرة لتسخر من نفسها وتصف ما قالته سابقاً بأنه كان 'نابعاً من جهلها'. ولم تكتف بذلك، بل راحت تؤنب ذاتها علناً، وتوجه خطاباً للنساء والفتيات محذرة إياهن من 'الوقوع في الخطأ' الذي وقعت فيه عندما قالت إن الحجاب ليس فرضاً.
وأضافت القلمجي أن هذا المشهد الذي يبدو في ظاهره تحولاً شخصياً في القناعة، هو في الحقيقة نموذج صارخ لاستغلال النساء كأدوات للتحريض على نساء أخريات 'وليس من الصعب فهم الأسباب التي تدفع هؤلاء الفتيات إلى إعادة إنتاج هذا الخطاب، فهن في هذه الصفحات يحصلن على رواتب ثابتة مقابل تقديم محتوى يسهم في تكريس واقع أكثر قمعاً للمرأة'.
وما حدث مع هذه الفتاة لم يكن مجرد تغيير في الرأي، بل كان جزءاً من حملة منظمة لإجبار النساء على تقديم نقد ذاتي علني، في إطار ما يشبه محاكم التفتيش الأخلاقية، إذ يُدفعن لتجريم أنفسهن وإثبات ولائهن لخطاب متشدد مقابل تأمين مكان لهن داخل هذه المنصات وأيضاً تحصين أنفسهن من الرجم الجماعي.
ورأت القلمجي أن هذه الظاهرة ليست مجرد 'حملات عشوائية'، بل جزء من استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى جعل العراق نسخة أخرى من إيران، حتى من الناحية الدينية وليس السياسية فحسب، فكلما حاولت النساء في العراق المطالبة بحقوقهن أو حتى مجرد ممارسة حياتهن بصورة طبيعية يُصورن على أنهن 'أدوات للفساد والانحلال الأخلاقي'.
وأوضحت أيضاً أن 'الخطر في الأمر هو أن هذه الحملات تسبق عادة خطوات قمعية فعلية، مثل تعديل قانون الأحوال الشخصية، وعمدت هذه الصفحات إلى نشر أسماء وصور محاميات، مثل قمر السامرائي وزينب جواد ومدافعات عن حقوق الإنسان والمرأة في العراق، والتحريض عليهن عبر إشاعات بأنهن يعملن لمصلحة السفارات الغربية، بخاصة السفارة الأميركية من أجل تخويفهن وجعلهن يصمتن بصورة كلية أمام أي متغيرات ستفرض عليهن في المستقبل'.
تظاهرات أكتوبر
هذا النوع من التأليب العلني كان سبباً في اغتيال الناشطة في تظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ريهام عبدالغفور التي لم تكن تملك سوى رأيها، لكن مجرد نشر إحدى الصفحات الموالية للفصائل العراقية صورة لها مع القنصل الأميركي، كان كافياً لقتلها بعد أيام قليلة.
ولفتت القلمجي إلى أن الإشاعات التي تبثها هذه الصفحات غير منطقية، بخاصة في ما يتعلق بالعمالة للغرب وأميركا، لكن هذه الفزاعة السياسية لا تقف عند حدود العمالة للغرب، بل تتوسع لتشمل اتهام الناشطين والناشطات بأنهم من بقايا حزب البعث.
وختمت الناشطة السياسية أنه 'وفقاً لهذه الدعاية الموجهة فإن أي تحرك لتمكين المرأة هو في الحقيقة مشروع بعثي يهدف إلى تدمير المجتمع العراقي، ونشر الانحلال، وتهديد استقرار البلاد، مما يدفع كثراً من الناس إلى تصديق هذه السردية، والانتظام في موجة التحريض ضد الناشطين والناشطات، بل المساهمة في مضايقتهم وتخوينهم، وأحياناً التبليغ عنهم والتسبب في اعتقالهم أو حتى استهدافهم جسدياً'.