اخبار مصر
موقع كل يوم -الرئيس نيوز
نشر بتاريخ: ١٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
بينما تهتز الأسواق العالمية تحت وطأة الأزمات المالية المتتالية وارتفاع الديون السيادية وتراجع الثقة في العملات التقليدية وعلى رأسها الدولار الأمريكي الذي كان ينظر إليه كملاذ آمن حتى وقت قريب، يشهد العالم اليوم موجة «جنون الأوقية»، ويراقب أسعار الذهب في حين تتخطى الحواجز التاريخية، وتتسابق البنوك المركزية كما يتسابق المستثمرون على اقتناء المعدن الثمين وحيازته كدرع واقٍ في مواجهة المجهول الاقتصادي، بينما تتحول الأوقية من مجرد ملاذ آمن إلى عنوانٍ للقلق العالمي نفسه، وفقا لصحيفة واشنطن بوست.
وفي أوروبا، ارتفع الطلب على الذهب المادي بنسبة 22٪ منذ بداية العام، وفقًا لبيانات المجلس العالمي للذهب (World Gold Council). ومع تصاعد التضخم وتراجع العوائد الحقيقية على السندات، اندفع المستثمرون نحو الذهب بأحجام لم تشهدها الأسواق منذ السبعينيات.
ووفقًا لتقارير فاينانشال تايمز، فإن البنوك الألمانية تشهد نقصًا فعليًّا في المعروض من السبائك الصغيرة، بعد أن قفزت المبيعات بأكثر من 30٪ خلال الربع الثالث فقط، وهو ما دفع بعض المتعاملين إلى تقييد البيع لتجنّب نفاد المخزون.
أما في الولايات المتحدة، فقد تجاوزت أسعار الذهب في جلسة أمريكا الشمالية الأخيرة حاجز 4،300 دولار للأوقية للمرة الأولى في التاريخ، بدعمٍ من توقعات خفض الفائدة وإشارات مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي وازدياد الضغوط على الدولار. وتشير بلومبرج ووول ستريت جورنال إلى أن تدفقات غير مسبوقة دخلت صناديق الاستثمار المدعومة بالذهب، في وقتٍ بدأ فيه الاحتياطي الفيدرالي يواجه أصعب اختبار بين كبح التضخم وحماية الاستقرار المالي.
وفي تحليلٍ مطوّل نشرته واشنطن بوست بعنوان «Gold soars past $4،000; why the record is a sign of uncertainty»، تؤكد الصحيفة أن «الارتفاع الصاروخي في أسعار الذهب يعكس تراجع الثقة في النظام المالي الأمريكي، وقلق المستثمرين من انكشاف الاقتصاد العالمي على الدين السيادي الأمريكي».
وتشير إلى أن البنوك المركزية في بولندا وتركيا والصين أعادت هيكلة احتياطاتها، فقللت من حيازتها للدولار مقابل زيادة مكثفة لمخزون الذهب، في إطار ما وصفته الصحيفة بـ«استراتيجية تفكيك الدولار» — أي التحرر التدريجي من هيمنته على الاحتياطيات العالمية.
وتنقلت رويترز عن محللين في لندن وفرانكفورت قولهم إن «الطلب المؤسسي على الذهب لم يعد استجابةً عاطفية للمخاوف بشتى اتجاهاتها، بل تحول إلى قرارٍ استراتيجي لدى البنوك المركزية وصناديق التحوط»، لافتةً إلى أن أكثر من 120 مليار دولار من الأصول النقدية الأوروبية القصيرة الأجل تحوّلت نحو الذهب والعقارات الفاخرة خلال الأشهر الأخيرة.
وفي تقريرٍ آخر لـواشنطن بوست، رُصدت موجة شراء قوية في متاجر المجوهرات بنيويورك وباريس ولندن، حيث أصبحت الأوقية رمزًا جديدًا للثقة في زمنٍ تتآكل فيه الثقة بالمال الورقي.
تقول الصحيفة إن «الذهب بات اللغة المشتركة بين من يخاف التضخم ومن يخشى الانهيار»، في إشارة إلى أن ارتفاع الأسعار تجاوز كونه ظاهرة اقتصادية ليصبح تعبيرًا عن المزاج النفسي العالمي.
وتؤكد صحيفة فاينانشال تايمز أن المشهد الراهن يعيد للأذهان سبعينيات القرن الماضي، حين كان الذهب يُستخدم كمقياسٍ سياسي واقتصادي لتوازن القوى الدولية. فمع تراجع الثقة في الدولار واليورو، عاد الذهب ليحمل هوية مزدوجة: سلعة مالية ومؤشرًا على القلق حيال التطورات الجيوسياسية في آنٍ واحد.
أما صحيفة وول ستريت جورنال، فترى أن «الذهب اليوم لم يعد خيارًا دفاعيًا أو وسيلة للتحوط فحسب، بل أصبح عملة الثقة الأخيرة في عالمٍ تتداعى حوله قيمة المال والأصول المهمة»، مضيفةً أن استمرار الارتفاع فوق مستوى 4،000 دولار للأوقية يعكس بداية تحولٍ هيكلي في سياسات الاحتياط النقدي العالمية، خصوصًا مع دخول دول آسيا وأوروبا الشرقية سباق تعزيز الاحتياطي الذهبي على حساب الدولار الأمريكي.
وتشير بلومبرج إلى أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يجد نفسه أمام معادلة دقيقة: فخفض الفائدة لدعم الاقتصاد قد يؤدي إلى مزيدٍ من اندفاع رؤوس الأموال نحو الذهب، بينما الإبقاء على سياسة نقدية متشددة قد يهدد النمو ويزيد من احتمالات الركود، وهو ما يجعل الذهب المستفيد الأول في الحالتين.
من جانبهم، توقع محللو بنك HSBC أن يمتد الصعود حتى مستوى 5،000 دولار للأوقية بحلول عام 2026 إذا استمر مسار خفض الفائدة وتواصلت التوترات التجارية مع الصين.
بينما حذرت منصة 'ماركتس إنسايدر' من احتمال دخول الذهب في فقاعة قصيرة الأجل، مستشهدةً بارتفاعات تشبه ما حدث في سبعينيات القرن الماضي، لكنها أكدت أن هذه المرة مدفوعة بطلبٍ فعلي من البنوك والمؤسسات، وليس بمضارباتٍ مالية بحتة.
السيناريوهات المحتملة لمسيرة «جنون أسعار الذهب»
السيناريو الأول – استمرار الزخم:
يتوقع محللون استمرار الارتفاع التدريجي ليصل إلى نطاق 4،500 – 4،600 دولار للأوقية خلال 2026، إذا بدأ الاحتياطي الفيدرالي خفض الفائدة تدريجيًا أو جاءت بيانات التضخم أقل من التوقعات، مع اتساع الطلب المؤسسي من آسيا وأوروبا.
السيناريو الثاني – تصحيح مؤقت:
في حال جاءت بيانات التضخم الأمريكية أعلى من المتوقع، أو استعاد الدولار زخمه، قد يتراجع الذهب مؤقتًا إلى حدود 3،800 دولار للأوقية، قبل أن يعود إلى الصعود بدعمٍ من التوترات الجيوسياسية وضعف الثقة بالأسواق المالية.
السيناريو الثالث – استقرار ضمن نطاق ضيق:
إذا استقرت السياسات النقدية دون تغييرات جوهرية، فقد تدخل الأوقية مرحلة تذبذب طويلة بين 4،000 و4،200 دولار حتى تتضح اتجاهات الاقتصاد الأمريكي وأسعار الفائدة العالمية.
ويبدو أن «جنون الذهب» الراهن ليس مجرد موجة ارتفاع مؤقتة، بل تعبير عميق عن تحوّلٍ في هيكل النظام المالي الدولي. إذ تستمر غالبية البنوك المركزية حول العالم في البحث عن الملاذات الآمنة بعيدًا عن الدولار الأمريكي، وفي الأثناء يطارد المستثمرون الاستقرار في زمنٍ يتآكل فيه اليقين. وبينما تتسابق أوروبا وأمريكا لاحتواء التباطؤ الاقتصادي، يبقى الذهب هو الحكم الأخير، بل يلمع كلما اشتد الظلام أو الضباب وانعدام اليقين.


































