اخبار مصر
موقع كل يوم -ار تي عربي
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الأول ٢٠٢٥
في حوار خاص مع RT العربية حكى لنا عازف البيانو المصري الشهير رمزي يسى ذكرياته في الاتحاد السوفيتي وعلاقته بروسيا التي لم تنقطع منذ اللحظة الأولى التي وطئ فيها مدينة موسكو عام 1969.
في بداية الحوار، سألته عن أول انطباع حينما وصل إلى الاتحاد السوفيتي، نهاية الستينيات من القرن الماضي:
- وصلت إلى موسكو خريف عام 1969، وكان الانطباع الأول هو أن ما أراه أمامي هو شيء جديد بالنسبة لي تماما، ولا يشبه أي شيء عرفته أو رأيته من قبل. لم يكن لدي أي شيء للمقارنة به، كان الأمر وكأنني وطئت كوكباً آخر، أسمع وأتحدث وأتعلم لغة جديدة بمفردات وأبجدية جديدة تماما.
نصحني عميد المعهد العالي للموسيقى 'الكونسيرفاتوار' في القاهرة، وكان حينها عازف الكمان السوفيتي إيراكلي بيريدزه (أحد تلاميذ ديفيد أويستراخ وعميد كونسيرفاتوار القاهرة في الفترة 1967-1972) بالدخول إلى فصل الأستاذ فيكتور ميرجانوف (1919-2012).
لكن ما حدث أنني حينها التحقت بفصل الأستاذ الكبير سيرغي دورينسكي (1931-2020) بكونسيرفاتوار تشايكوفسكي في موسكو، وكان حينها لم يتم الأربعين بعد، ومدرسا بقسم البيانو في الكونسيرفاتوار.
وهل كنت تتقن الروسية حينها؟
- الحقيقة أن دورينسكي نفسه كان يعرف بعض الإنجليزية، ما يكفي للتواصل، وكانت الموسيقى، بطبيعة الحال، هي اللغة الأساسية للحوار، وكان أستاذي، ومع حداثة سنه آنذاك، موهوبا في التدريس.
هل كان يفرض عليك وجهة النظر/المدرسة 'الروسية'
- كلا، لكن أهم ما لاحظته فيما بعد في منهجه هي أنه كان يتوخى مبدأ أرتور شنابل في التدريس، بأن مهمة المعلم هي 'فتح الأبواب المغلقة' للطلبة، وما عليهم إلا أن يلجوا تلك الأبواب بأنفسهم. هذا بالضبط ما كان يفعله دورينسكي: كان يدلك على الهدف، ثم يتركك للبحث عن سبيلك الخاص للوصول إلى هذا الهدف، وبذلك كان يحل المعضلة الأبدية فيما يخص قضية استخراج الصوت من الآلة وتوصيل المعلومة، كان دورينسكي يدعك تبحث عن الحقيقة بداخلك، تبحث عن البيانيست (عازف البيانو) المدفون بداخلك لتزيل الشوائب التي تعيق تحررك وتعبيرك عن جوهر روحك ورؤيتك.
معضلة الهدف أم الطريق.
- تماما. وهي طريقة قد تبدو للبعض أصعب، حيث أنك لا تخبرني أي طريق أو شارع أسلك، لكنك تخبرني فقط بالوجهة، إلا أن ميزة هذه الطريقة، وبرغم احتمالات أن تضل الطريق، أن الإنسان، في خضم بحثه عن الهدف، يتعرف على جغرافية المكان أكثر بكثير مما لو دلّك أحدهم على الطريق بحذافيره.
لا شك أن ذلك كان له عظيم الأثر في حياتك المهنية.
- ليس المهنية فحسب، وليس فقط في رؤيتي للنصوص الموسيقية، بل كان له عظيم الأثر أيضا في رؤيتي للحياة برمتها، وفي طريقتي لتعليم الطلبة فيما بعد، والبحث عن كيفية استخراج الصوت من آلة البيانو، وهو ما يعمل عليه كل وأي عازف بيانو طوال حياته.
هل يمكن القول إن هذا ما يمكن تسميته بـ 'المدرسة الروسية في العزف على آلة البيانو'؟
- سؤال جيد. لكنني أعتقد أن مفهوم 'المدرسة الروسية' هو مفهوم مبهم وغير معرف أو محدد. فما هي المدرسة الروسية؟ إن أحداً في روسيا أو الاتحاد السوفيتي لم يخبرني بكيفية العزف أو فرض عليّ 'مدرسة ما' أو 'أسلوب ما'، لكنني، وفي الوقت نفسه، ما إن أسمع عازفا روسيا، أو من 'المدرسة الروسية'، أعرف ذلك النوع من الصوت على الفور، لقد كان إشراف دورينسكي ومن معه (فدورينسكي لم يكن وحده، كانت البيئة المحيطة كلها مؤثرة بشكل كبير) يدفعك نحو التفكير والبحث، لقد كانت البيئة في الاتحاد السوفيتي، وبرغم ما يقال عنه، بيئة متفتحة وتقبل التنوع، إلا أن ذلك، فيما يبدو، يترك لديك 'بصمة ما' تستمر معك طوال مشوارك الفني. إن شأن ذلك شأن طبخة ما، لا يمكن أن تتحكم في مقاديرها، ولا في ترتيب خطوات الطبخ، ولا مواعيدها أو فتراتها، لكنك حينما تجيد طبخها، وتتذوق طعمها مرة واحدة، تبقى معك بقية العمر. أتصور أن ذلك من الممكن أن يكون تعريفي لـ 'المدرسة الروسية'.
تعريف مدهش للغاية.
شارك في مسابقة تشايكوفسكي سنة 1974 وحصل منها على شهادة فخرية، ثم انتقل للحياة في باريس، وحصل على الجائزة الكبرى في مسابقة بالوما أوشيا بمدينة سانتاندر بإسبانيا.
قام بتسجيل جميع أعمال بيتهوفن للبيانو والأوركسترا مع المايسترو أحمد الصعيدي وأوركسترا القاهرة السيمفوني.
- لكني أود أن أضيف هنا موقف حدث لي أثناء حفل من الحفلات. وهو دليل على أن دورينسكي لم يكن وحده، فالإنسان يستمع ويستوعب ويتأثر بكل المؤثرات المحيطة ليس فقط في محيط الكونسيرفاتوار. كنت أعزف من أعمال تشايكوفسكي فصل أكتوبر من متتالية الفصول وهي مجموعة من 12 مقطوعة كتبها تشايكوفسكي في الأعوام 1875-1876، وجاءت لي إحدى المستمعات وكانت طاعنة في السن، وقالت إن عزفي لـ 'أكتوبر' يذكرها بكبار عازفي البيانو وعلى رأسهم قسطنطين إيغومنوف (1873-1948)، ثم تابعت المرأة: 'لكني استمعت إلى إيغومنوف يعزف أكتوبر وهو فصل الخريف، وكان هو شخصيا في خريف العمر، أما أنت فلا زلت في ريعان الشباب'.
بالفعل. كان ذلك درسا بليغا استحضرته في كل مرة عزفت فيها هذه المقطوعة، وقد سجلت المجموعة كاملة في فرنسا بعد استقراري هناك. وكل مرة أعزف فيها 'أكتوبر' لتشايكوفسكي أتذكر هذه المستمعة الجميلة التي علمتني أن للخريف صوت مختلف، ورؤية مختلفة، وموقف مختلف من الحياة لا بد وأن يجد انعكاسه في الموسيقى.
ماذا تعني الفنون في الاتحاد السوفيتي/روسيا؟
- هناك حكاية قرأت عنها وشاهدت وثائقيا عنها وسمعتها من زملائي الموسيقيين، تتعلق بالعرض الأول لسيمفونية دميتري شوستاكوفيتش السابعة 'لينينغراد' في مدينة المؤلف لينينغراد يوم 9 أغسطس 1942 بالقاعة الكبرى للفيلهارمونيا هناك. تقول القصة إن قائد الأوركسترا آنذاك كارل إلياسبيرغ كان يقود أوركسترا لجنة إذاعة لينينغراد، وخلال الحصار الكبير للمدينة (الذي استمر 872 يوما) مات بعض الموسيقيين جوعا، وعلقت البروفات في ديسمبر من العام السابق، وعدما استؤنفت في مارس لم يتمكن من العزف سوى 15 موسيقيا ممن كانوا يعانون من ضعف في العضلات. ولإعادة تأهيل الأوركسترا تم استدعاء موسيقيين من الوحدات العسكرية.
في يوم الحفل نشرت جميع قوات مدفعية لينينغراد لقمع نيران العدو، وبرغم القنابل والغارات الجوية أضيئت الفيلهارمونيا، وكانت جميع ثريات الكريستال في الفيلهارمونيا تلك الليلة مضاءة، وكان الموسيقيون في منتهى الحماس. امتلأت القاعة، وبثت مكبرات الصوت في المدينة وعبر الإذاعة ولم يسمعها سكان المدينة وحدهم، بل سمعتها أيضا القوت الألمانية التي كانت تحاصر لينينغراد.
لقد جنّ جنون الألمان، الذين ظنوا أن المدينة قد ماتت، إلا أن الموسيقى، موسيقى شوستاكوفيتش، سيمفونية 'لينينغراد'، لم تكن مجرد 'غذاء روحي'، وإنما كانت ضرورة حياة، وإعلان لانتصار الحياة على الموت، وعلى الحصار، وعلى الفاشية والنازية.
لم تكن الموسيقى وحدها، بل كانت هناك عملية 'العاصفة' التي انطلقت قبل شهر من العرض الأول للسيمفونية، حيث بدأ الجنرال غوفوروف بتطوير هذه العملية لتشتيت أهداف العدو والسماح للجمهور بحضور الحفل والمغادرة بأمان.
سياسي ألماني يعتذر باللغة الروسية عن حصار لينينغراد
كانت ولا زالت وستظل تلك السيمفونية والموسيقى بشكل عام لدى الروس عنصر فني وقومي مهم. وهو ما يندر أن تراه في أي مكان حول العالم على هذا القدر من الاهتمام والتقدير.
هل تنقذ الثقافة والفنون العالم من الدمار والحروب والصراعات؟
- حتى لا أكون مبالغا. وحتى لا أكون رومانسيا أكثر من اللازم، يمكنني القول إنه حتى ولو تكن الثقافة والفنون قادرة على إنقاذ العالم، فإن ما أستطيع قوله والتأكيد عليه هو أن غياب الثقافة هو أمر كارثي بكل تأكيد. ثقافة الحياة بشكل عام، تاريخ البلاد، المعارف، العلوم. الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لا شك شيء مهم وحيوي وضروري إلا أنه لا يمكن أن يستبدل الثقافة والمعارف والعلوم الأصيلة. ولا يمكن لأمة أن تخطو إلى الأمام إلا بالاعتماد على الأسس والقواعد الحقيقية وفي صدارتها بالقطع: الثقافة والفنون.
الفنان الكبير، رمزي يسى. شكرا جزيلا على وقتك وعلى حديثك الشيق.
- تحياتي للقناة، وتهنئتي بعيد ميلاد القناة العشرين.
أجرى الحوار: محمد صالح
المصدر: RT
رمزي يسى
مواليد 1948، عازف بيانو مصري كان من الدفعات الأولى من الموسيقيين خريجي المعهد العالي للموسيقى 'الكونسيرفاتوار' بالقاهرة، ثم التحق بكونسيرفاتوار موسكو (تشايكوفسكي) عام 1969 حيث درس بفصل الأستاذ سيرغي دورينسكي.