اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ١٨ تموز ٢٠٢٥
في زمن يتطلع فيه الاقتصاد المصري إلى تنويع مصادر الدخل وتعزيز الإنتاج المحلي، تلوح في الأفق فرصة ذهبية لإحياء صناعة عريقة طالما كانت جزءًا من التراث الزراعي والصناعي المصري لإنتاج الحرير الطبيعي.
فقد أعلن الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، عن خطة طموحة لتحويل مصر إلى ثالث أكبر دولة في العالم في إنتاج الحرير الطبيعي بعد الصين والهند بحلول عام 2030. إلا أن تحقيق هذا الحلم يحتاج إلى منظومة متكاملة تبدأ من الزراعة وتنتهي بالتصنيع، وتتطلب حوافز مالية وضريبية حقيقية لدعم المزارعين والمشروعات الصغيرة.
وفقًا للمحاسب الضريبي أشرف عبد الغني، مؤسس جمعية خبراء الضرائب المصرية، فإن مصر لم تدخل عالم صناعة الحرير الطبيعي الحديثة إلا في عهد محمد علي، الذي أولى الصناعة اهتمامًا خاصًا، وخصص ميزانية كبيرة لزراعة أشجار التوت في مختلف المحافظات، وهو الغذاء الأساسي لدودة القز، ما أدى إلى وصول مصر وقتها إلى المرتبة الثانية عالميًا في هذا المجال بعد الصين.
لكن بعد تفتيت الملكية الزراعية، بدأت الصناعة في الانحدار، وتم القضاء على نحو 3 ملايين شجرة توت، مما أدى إلى تراجع الإنتاج السنوي من الحرير الطبيعي إلى 1.5 طن فقط، في حين أن الاحتياج المحلي يصل إلى 350 طن سنويًا.
تفاقم التراجع بعد دخول الحرير الصناعي إلى الأسواق، نظراً لرخص ثمنه وسهولة إنتاجه، رغم أن الحرير الطبيعي يتفوق عليه من حيث المتانة واللمعان والقدرة على امتصاص الرطوبة. إلا أن افتقار الدعم الكافي والإهمال الحكومي لسنوات، جعلا من هذا القطاع صناعة هامشية تعتمد بشكل كبير على مشروعات صغيرة ومتناهية الصغر.
في خطوة مهمة، دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى توطين صناعة الحرير في مصر، خاصة بعد انسحاب الصين من تصدير الحرير الخام. كما أصدر قرارًا جمهوريًا في عام 2018 بإعفاء بيض دودة القز من الضرائب والجمارك، وهو ما أعطى دفعة للمزارعين والمستثمرين الراغبين في دخول هذا القطاع.
وتتضمن خطة الدولة إنشاء مراكز لإنتاج الحرير في جميع المحافظات، إلى جانب تنفيذ مشروع ضخم باسم 'واحة الحرير' في الوادي الجديد، والذي يُعد أكبر مزرعة لإنتاج الحرير الطبيعي في الشرق الأوسط، عبر زراعة التوت الهندي الذي تتغذى عليه دودة القز.
يؤكد عبد الغني أن صناعة الحرير الطبيعي هي صناعة كثيفة العمالة لكنها لا تحتاج إلى رأسمال كبير، كما أن دورة الإنتاج لا تتجاوز 34 يومًا، وهو ما يجعلها صناعة ذات عائد سريع وقيمة مضافة عالية، فضلًا عن قدرتها على توفير آلاف فرص العمل، خاصة في القرى والمناطق الفقيرة.
كما يشير إلى أن مصر قادرة على تغطية 20% من احتياجات السوق العالمي من الحرير، بشرط توفير الحوافز والتسهيلات للمشروعات الصغيرة التي تمثل العمود الفقري لهذه الصناعة.
من جانبه، أعاد حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين، تسليط الضوء على أهمية زراعة شجرة التوت، باعتبارها الأساس الذي تقوم عليه صناعة الحرير. وأكد أن الشجرة يمكن أن تزدهر في مصر بسهولة، مشيرًا إلى أن هذا المشروع يمكن أن يكون مصدرًا اقتصاديًا واعدًا ويوفر فرص عمل حقيقية لمختلف الفئات، خاصة في الريف والمناطق الفقيرة.
يؤكد أبو صدام أن شجرة التوت ليست مجرد شجرة تقليدية تزين الترع والطرقات، بل هي العمود الفقري لصناعة الحرير، حيث تتغذى دودة القز وهي أساس إنتاج الحرير الطبيعي على أوراقها. ورغم أهمية الشجرة، إلا أن زراعتها في مصر لا تزال غير منظمة، وتقتصر غالبًا على مناطق غير مستغلة أو بشكل عشوائي.
ويأمل نقيب الفلاحين في أن تنتشر زراعة شجرة التوت على نطاق واسع، مؤكدًا أن زراعتها لا تتطلب كميات كبيرة من المياه، ويمكن استغلال الترع والمناطق ذات المياه الجوفية، خاصة في محافظات مثل الدلتا والفيوم، لتوسيع زراعتها.
يوضح أبو صدام أن شجرة التوت يمكن زراعتها بالعقل أو بالبذور، لكن الأفضل زراعتها بالعقل، لأنها تبدأ في الإثمار خلال ثلاث سنوات فقط، بينما تستغرق ما لا يقل عن ست سنوات إذا زُرعت بالبذور. وهذا يعني أن اعتماد الطرق الحديثة في الزراعة يمكن أن يُسرّع العائد الاقتصادي للمزارعين ويشجعهم على الدخول في هذا المجال.
وشدد أبو صدام على ضرورة تخفيف الضرائب والجمارك على بيض دودة القز، الذي يُعد الأساس في إنتاج الحرير، إضافة إلى تكثيف حملات التوعية والإرشاد الزراعي لتعريف المزارعين بكيفية تربية دودة القز والعناية بها، مؤكدًا أن هذا المشروع يُعد من المشاريع متناهية الصغر، ويمكن لأي أسرة تملك شجرة توت أن تدخل في منظومة إنتاج الحرير.
وأوضح نقيب الفلاحين أن مشروع الحرير يجب أن يُقسم إلى ثلاث مراحل مترابطة: أولاً، التوسع في زراعة شجر التوت، ثانيًا، نشر ثقافة تربية دودة القز، وثالثًا، دعم الصناعة التحويلية القائمة على الحرير.
وأشار إلى أن الحرير لا يستخدم فقط في صناعة الملابس الفاخرة، بل يدخل في الصناعات الطبية والدوائية، كخيوط الجراحة، ويُعد من الخامات المتينة وذات النعومة العالية. ولذلك، يرى أن التحدي الأكبر هو في إنشاء مصانع متخصصة في تصنيع الحرير محليًا، بدلًا من تصديره خامًا بأسعار زهيدة.
واختتم أبو صدام حديثه بالإشارة إلى اهتمام الدولة المتزايد، وعلى رأسها رئيس مجلس الوزراء، بملف إنتاج الحرير، داعيًا إلى توجيه القطاع الزراعي بشكل استراتيجي نحو زراعة التوت وتربية دودة القز. ولفت إلى إمكانية إنشاء مزارع مخصصة للدودة، ما يُسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي ثم التصدير لاحقًا، خاصة وأن إنتاج مصر الحالي يتراوح بين طن ونصف إلى طنين فقط، رغم تصنيفها رقم 23 عالميًا في هذا المجال.
إن مشروع إنتاج الحرير الطبيعي ليس مجرد صناعة تقليدية نعيد إحياءها، بل هي فرصة تنموية شاملة يمكن أن تُحدِث نقلة نوعية في الاقتصاد الزراعي والصناعي المصري. ومع الدعم السياسي الواضح، تبقى التحديات الأهم في تحفيز الشباب، وتوفير التمويل، وتهيئة البنية التحتية الزراعية والصناعية.
إذا نجحت مصر في تنفيذ هذه الخطة المتكاملة، فإنها لا تقترب فقط من المرتبة الثالثة عالميًا في إنتاج الحرير، بل تضع نفسها أيضًا على طريق التنمية المستدامة، وتفتح آفاقًا جديدة لمجتمعات بأكملها تبحث عن مورد دخل كريم وحياة كريمة.