اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٦ حزيران ٢٠٢٥
طوفان التحليلات ابتكر نظريات وتبريرات تتعلق بالفلك وبصواريخ الحرب الإيرانية الإسرائيلية والأمان النووي والمتخصصون حائرون
على هامش القصف الجوي المتبادل بين إيران وإسرائيل كانت هناك شظايا لحكايات مصرية غير متوقعة، عنوانها الكوميديا تارة والقلق تارة أخرى، وبين هذا وذاك كان هناك كثير من 'الهبد'، وهو اللفظ المصري الذي يستعمل للدلالة على إطلاق تفسيرات وتبريرات بثقة تامة بينما هي محض خيالات، القصة هنا تخص ما أطلق عليه الأجسام المضيئة التي ظهرت بعد يوم واحد تقريباً من إطلاق الصواريخ الباليستية ومحاولات اعتراضها.
تزامناً مع هذا الوضع شهدت كثير من محافظات ومدن مصر ظهور ما يشبه الكتل الدخانية الكثيفة التي تشبه الضوء أو النيران، التي تتفجر من دون صوت وتنقسم لتشكل مسارات مختلفة، حيث وثق الظاهرة رواد مواقع التواصل الاجتماعي في القاهرة وأسيوط ودمياط وبورسعيد، وغيرها من المدن القريبة والبعيدة، مما زاد من الحيرة، فلم تكن اللقطات الباحثة عن إجابة قادمة من نطاق جغرافي واحد، وبطبيعة الحال لم تكن في المواقع الأكثر قرباً من الصراع، حيث تكون الظروف مثالية تماماً لفتح المجال للتكهنات والتحليلات والأحاديث الجانبية والإبداعات كذلك، سواء لمتخصصين أو غير المتخصصين.
بيانات رسمية للطمأنة
من جهتها سارعت هيئة الرقابة النووية والإشعاعية بإصدار بيان رسمي يشدد على أن البلاد آمنة من أي تسرب إشعاعي، وذلك للرد على أحد التفسيرات التي أشارت إلى أن ما تم رصده ربما يكون جراء استهداف بعض المنشآت النووية والمفاعلات، وهو التبرير المتسرع الذي تم تداوله بثقة تامة مع تدوينات لرواد الـ'سوشيال ميديا' الذين عبروا عن رعبهم من هذا السيناريو.
ومما جاء في البيان، 'في ضوء التطورات الجارية في المنطقة تود هيئة الرقابة النووية والإشعاعية أن تطمئن السادة المواطنين أنه لا يوجد مؤشرات إلى أي تغير أو زيادة في الخلفية الإشعاعية داخل مصر، كما توضح أنها تتابع على مدار الساعة التطورات المتعلقة بوضع المنشآت النووية بالمحيط الإقليمي وفقاً لتطورات الأحداث الجارية'.
واختتم البيان بالقول، 'تهيب الهيئة بالسادة المواطنين الاعتماد فقط على البيانات الرسمية الصادرة كمصدر موثوق للمعلومات في هذا الشأن'، هذه الاستجابة السريعة وطمأنة الجماهير، ومناشدتهم بتوخي الحذر في ما يتعلق باعتناق أفكار وتفسيرات غير دقيقة، لم تمنع البعض من أن يبقى متشككاً، خصوصاً في ظل غياب أي تفسير رسمي حول الأشكال المضيئة في حد ذاتها، وعدم وجود إجابة واضحة، حول سر تزامن هذه الظاهرة غير المسبوقة في سماء مصر مع التصعيد العسكري القريب.
لذلك حاول البعض أن يبتعد عن التفسير المباشر الذي يربط هذه الخطوط الضوئية اللامعة التي شكلت مشهداً بصرياً لافتاً وغير معتاد بالحرب الدائرة، حيث كان اعتمد البعض نظريات وتحليلات تم تداولها بثقة كبيرة ومنها اعتبار هذا المشهد ظاهرة طبيعية للغاية ويجزم بأنها ظهرت في بلدان أخرى، وأنها تعرف بالسحب الجلدية النادرة التي تضيء السماء في وقت يسبق شروق الشمس أو في المساء القريب عقب غروبها، فيما آخرون تحدثوا في الإطار نفسه معتبرين أن هذه المشهد 'الطبيعي' عادة ما تسبق الظواهر الكبرى مثل الزلازل، داعين الجميع لتوخي الحذر. فما هو السند العلمي الذي تستند إليه هذه الأقاويل في حال صحت كونها مجرد 'ظاهرة طبيعية'؟
ليست ظاهرة طبيعية
القائم بأعمال رئيس المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية طه توفيق رابح، قال بصورة واضحة ومباشرة، إن الشواهد المتداولة لا تخص أي ظواهر طبيعية معروفة إطلاقاً، بالتالي ليست في نطاق مهنته أو حتى تخصص علماء الفلك، ولهذا فهو لا يملك تفسيراً يمكن الجزم به بهذا الصدد، معتبراً أن المعلومة المؤكدة على الأرجح ستكون لدى متخصصي الشؤون العسكرية والاستراتيجية، لأن ما ظهر في السماء على هذا النحو قد يكون نتاج أعمال حربية أو متعلقة بتأمين المجال الجوي على سبيل المثال.
هنا تشعبت التحليلات التي تعتمد أساساً على فكرة 'التزامن' كدليل وحيد وواضح على ارتباط ما شاهده المواطنون بالعمليات العسكرية، حيث تم تداول هذه التحليلات على أنها مسلم بها، في ما البعض أرفقها بعلامات تعجب وتساؤل. ومن بين الآراء التي وجدت قبولاً لدى قطاعات عريضة، أن هذه العلامات الغريبة نتيجة غبار الصواريخ التي تنفجر في الجو على ارتفاع ضخم في إسرائيل، وأنها ظهرت في عدة محافظات مصرية بسبب حركة الرياح، وآخرون عدوها مؤشراً خطراً وربما يسبب تسمم الهواء، فيما فسرها فريق ثالث بأنها مكثفات الطائرات التي تخرج في شكل يشبه الأبخرة في طبقات الجو العليا، وأنها تبدو مثل الجليد عندما تتشكل بفعل الطقس والرياح.
وهناك من تبنى وجهة نظر تشير إلى أنها آثار بارزة لاعتراض الصواريخ الإيرانية الملقاة على تل أبيب، واكتفى غيرهم بالتشديد على أن هذه عبارة عن غازات الصواريخ التي اخترقت طبقات الجو على نطاق عال جداً فتمكن سكان مصر من مشاهدتها، لكن جميعها كانت روايات احتمالية بلا أسانيد علمية يقينية أو دلائل صلبة.
التفسير العسكري غير وارد
لكن الجانب الذي يميل للرواية الأكثر طمأنة ابتكر قصة مختلفة تماماً، بأن ما يحدث نتيجة لتفعيل شبكة الرصد المبكر والإنذار البيئي، معتبراً أن ما يحدث داخلياً يشبه ما يمكن تسميته تمشيط المجال الجوي المصري بحثاً عن أي مقذوفات قد تكون تناثرت، وكذلك نتيجة تكثيف عمل أجهزة الرصد التي تبحث عن أي تأثيرات للترسبات النووية التي قيل إنها حدثت في إيران، على رغم أن إيران تبعد عن مصر آلاف الكيلومترات، وأن الأراضي الإسرائيلية هي الأقرب جغرافياً.
العميد سمير راغب رئيس المؤسسة العربية للتنمية والدراسات الاستراتيجية والمتخصص في الشأن العسكري وعضو جمعية المحاربين القدماء، قال بصورة حاسمة إن التفسيرات المتعلقة بعمليات الرصد الإشعاعي مردود عليها وهي لا تمت للواقع بصلة، مستشهداً بأن مصر تستخدم أجهزة دقيقة ومتطورة وشديدة التعقيد، في إنجاز هذه المهام على مدار الساعة وفي كثير من المواقع، من دون أن يكون لها أية تأثيرات مرئية، مضيفاً 'الحساسات بطبيعتها تصنف على أنها مستقبل سلبي وليس إيجابياً، ولا ترسم أشكالاً في الهواء'، مشدداً على أن التسريبات النووية إذا وقعت في إيران فمن المستحيل علمياً وعملياً أن تؤثر في مصر وفقاً لقياسات المتخصصين.
كذلك قدم راغب عدداً من الدلائل على أن هذه المشاهدات لا تخص المجال العسكري برمته، لافتاً إلى أنه 'بافتراض أنها ظهرت كنتاج لاستعمال أي أسلحة في الصراع الحالي، فلماذا كانت تأثيراتها في سماء مصر فحسب، ولم تظهر على سبيل المثال في الأردن أو تركيا كدول مجاورة لأماكن الصراع أيضاً؟' متابعاً 'كما أنه في مصر ظهر في أماكن بعيدة جغرافياً تماماً عن بعضها بعضاً، من أسوان إلى سفاجا والمعادي وبورسعيد وغيرها'.
واستكمالاً لتفنيده للأسباب التي تم تداولها على مدى أيام بين الجماهير وأيضاً ناقشتها البرامج التلفزيونية بصورة محمومة، قال إن حرب أوكرانيا مع روسيا دخلت عامها الرابع ولم يتم رصد ظاهرة من هذا النوع أبداً في سماء بلادهم أو البلدان القريبة منهم، على رغم أن جانبي الصراع يستخدمان آلية ثقيلة ومعدات متطورة، وأنواعاً عديدة من الصواريخ.
ما وراء الطبيعة
هذه التساؤلات الوجيهة للغاية، لم توقف محاولات التفسيرات التي ذهبت إلى ما هو أبعد بكثير من ذلك، وبينها من ارتاح لفكرة أن ما ظهر في السماء هو عبارة عن أشكال أنشئت بتقنية الهولوغرام، فيما آخرون لم يقتنعوا بغالبية التبريرات، التي اعتمدها البعض مشيرين إلى أنه مردود عليها بآليات المنطق، وهي لا تستند إلى أي تخصص علمي، إضافة إلى عدم وجود أي بيان رسمي يدعمها، ولهذا عدوا المشاهدات ظواهر أكثر قرباً لعالم ما وراء الطبيعة حيث لجأوا لتبني الرواية الميتافيزيقية، وعدوا أنه طالما لا توجد أي نظريات علمية تخضع هذه الظواهر للعلوم الطبيعية أو العسكرية أو الهندسة أو الاتصالات، فهم أكثر ميلاً لإدراج ما حدث تحت بند العلامات غير المفسرة، باعتبارها مصنفة ضمن ظواهر ما وراء المادة، هذا التحليل علق عليه أكثر من مصدر رفيع رفض الكشف عن هويته، مشيراً إلى أنه أكثر ميلاً لاعتناقها، لأنها الفرضية الأقرب للتصديق في ظل عدم تبني أي تخصص علمي بصورة حاسمة للأمر.
الأمان النووي
واللافت أن هذا التفسير سبب ارتياحاً للبعض، فهم في الأقل بتبنيهم إياه تيقنوا أنهم بمنأى عن الخطر، فحتى إن لم يكن هناك اسم أو معنى لما رأوه، لكن تداعياته بالنسبة إليهم صفرية، بخلاف لو كانت هذه العلامات بالفعل نتاج أي أبخرة أو تسريبات من المحتمل أن تسبب ضرراً على المديين القريب أو البعيد.
لكن على ما يبدو فإن طوفان التحليلات قد جعل هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تستمر في رسائلها المطمئنة وتعقد لقاءات ومذكرات تعاون مع كثير من المؤسسات مثل الهيئة العامة للأرصاد الجوية والمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية، لوضع خطة لنشر المفاهيم الصحيحة حول النشاط النووي، ولهذا تعددت بيانات الهيئة ومنها ما صدر قبل يومين للحديث عن أحدث التوصيات، ومما جاء فيه 'خرج الاجتماع بعدد من التوصيات البارزة، تشمل استمرار المتابعة الدقيقة لشبكات الرصد والإنذار المبكر، والتعاون الوثيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إضافة إلى ذلك تمت الإشارة إلى ضرورة تعزيز قنوات التواصل مع المواطنين للحد من الإشاعات وزيادة الوعي بأهمية الأمن والأمان النووي والإشعاعي'، إذ أكدت الهيئة التزامها التام بتأمين صحة وسلامة المواطنين، ونقل المعلومات الدقيقة والشفافة لتعزيز الثقة والصدقية.