أسعار الذهب تحطم الأرقام القياسية عالميًا في أعقاب إغلاق حكومي أمريكي

أنهى الذهب تداولات اليوم على ارتفاع ملحوظ، في وقت يعيش فيه الاقتصاد الأمريكي ارتباكًا حادًا نتيجة الإغلاق الجزئي للحكومة الفيدرالية بعد إخفاق الكونجرس في التوصل إلى اتفاق بشأن الموازنة.

هذا الإغلاق، وهو الأول منذ عام 2019، أدى إلى تعطيل إداري واسع وتسريح مؤقت لآلاف الموظفين، ما أرسل إشارة صادمة إلى الأسواق العالمية بأن أكبر اقتصاد في العالم بات عاجزًا عن إدارة خلافاته المالية الداخلية. ووفقًا لما نشرته فاينانشال تايمز، فإن المعدن الأصفر استفاد فورًا من هذه الأجواء المضطربة، ليعزز موقعه كملاذ آمن عندما تتهاوى ثقة المستثمرين بالمؤسسات.

ومنذ سبعينيات القرن الماضي، حينما فك الرئيس ريتشارد نيكسون ارتباط الدولار بالذهب، تحول المعدن النفيس من قاعدة نقدية رسمية إلى مؤشر نفسي واقتصادي يعكس مستوى القلق في الأسواق. فكلما اهتزت الثقة في الأنظمة المالية، عاد المستثمرون إلى الذهب باعتباره الضمانة الأخيرة.

وقد تكرر هذا المشهد في أزمات عديدة: من تضخم السبعينيات إلى أزمة الديون الأوروبية، ومن انهيار 2008 إلى جائحة كورونا، حيث كان الذهب دومًا يرتفع حينما تسود الشكوك. وكما علقت وول ستريت جورنال: 'الذهب يثبت أنه ميزان الثقة، يلمع أكثر كلما ازدادت عتمة الاقتصاد'.

الأحداث الأخيرة في واشنطن أعادت إنتاج هذه القاعدة. فشل المشرعين في الكونجرس لم يؤثر فقط على عمل مؤسسات الدولة، بل بعث برسالة ضعف إلى الداخل والخارج.

هذا الارتباك انعكس في صورة ضغوط جديدة على قيمة الدولار وعوائد السندات، وهو ما جعل المستثمرين يتدافعون نحو الذهب لتأمين أموالهم. وبحسب وكالة رويترز، فإن صعود الذهب في مثل هذه الظروف ليس مفاجئًا، بل هو جزء من ديناميكية معروفة: كلما زاد الشلل السياسي في واشنطن، كلما ارتفع الطلب على المعدن النفيس.

وفي أوروبا، الصورة لم تكن أقل توترًا. فقد نقلت لو موند الفرنسية أن المخاوف من ركود اقتصادي في منطقة اليورو، خاصة في ألمانيا وفرنسا، دفعت المستثمرين كذلك إلى تعزيز حيازاتهم من الذهب. ضعف العملة الموحدة أمام الدولار وارتفاع تكاليف الطاقة جعل صناديق الاستثمار المدعومة بالذهب تستقطب تدفقات جديدة خلال الشهر الجاري.

وهذا التوجه الأوروبي يعكس توازيًا مع ما يحدث في الولايات المتحدة، حيث تتقاطع الأزمات السياسية مع المخاوف الاقتصادية لتعيد الذهب إلى الواجهة.

أما على الصعيد العالمي، فقد أشارت بلومبرج إلى أن البنوك المركزية، خصوصًا في آسيا والشرق الأوسط، كثفت مشترياتها من الذهب كجزء من استراتيجيات تنويع الاحتياطيات بعيدًا عن هيمنة الدولار. هذا التحرك يعكس وعيًا متزايدًا بأن الأزمات الأمريكية الداخلية قد لا تكون عابرة، وأن النظام المالي الدولي في حاجة إلى بدائل أكثر صلابة.

ورغم الأداء القوي للذهب، لا يمكن تجاهل المقارنة مع بقية الأسواق. فقد أغلقت الأسهم الأمريكية على تراجع ملحوظ بقيادة مؤشر 'ناسداك' و'داو جونز'، وهو ما فسرته نيويورك تايمز بكونه نتيجة مباشرة لخيبة الأمل من عجز الكونجرس عن التوافق. هذه التراجعات وفرت أرضية إضافية لصعود الذهب، الذي بدا كأنه يحصد ثمار إخفاق الآخرين.

التاريخ يقدم سوابق توضح أن ما يحدث اليوم ليس جديدًا. في أزمة الديون الأمريكية عام 2011، ارتفع الذهب بشكل حاد مع فقدان الثقة في قدرة الكونجرس على إدارة سقف الدين. وفي جائحة كورونا عام 2020، تجاوز الذهب حاجز 2000 دولار للأونصة مع تعطل الاقتصاد العالمي. واليوم، يعيد الإغلاق الحكومي إنتاج نفس المشهد: معدن واحد يتألق كلما غرق العالم في الغموض.

وعلى الصعيد العربي، انعكس هذا المسار أيضًا. في دول الخليج، أدى فائض عائدات النفط إلى زيادة الاستثمارات في الذهب كأداة للتحوط من تقلبات الدولار.

أما في مصر، فقد شهد السوق المحلي اندفاعًا شعبيًا نحو شراء الذهب كملاذ لحماية المدخرات في ظل تراجع العملة المحلية. هذه التحركات تثبت أن الذهب لم يعد مجرد أداة للمؤسسات العالمية، بل خيارًا شعبيًا في مواجهة الأزمات، وفقًا بلومبرج.

ويتساءل المراقبون إلى أين يتجه الذهب بعد هذا الصعود؟ وهل يتخطى علامة 4000 دولار للأوقية؟ بعض المحللين يرون أن الأسعار قد تواجه تصحيحًا قصير الأجل إذا هدأت الأسواق وتمكن الكونجرس من التوصل لاتفاق سريع. لكن آخرين، وفقًا لـ فاينانشال تايمز، يؤكدون أن الاتجاه طويل المدى ما زال صعوديًا، لأن الأزمات الأمريكية الداخلية لم تنته بعد، ولأن النظام المالي العالمي يبحث عن بدائل آمنة.

ويظهر الذهب اليوم ليس فقط كسلعة استثمارية، بل كشاهد على إخفاق السياسات والأنظمة. وبينما يفشل الكونجرس في التوافق ويستمر الشلل في واشنطن، يلمع المعدن النفيس عند مستويات غير مسبوقة ويتداول عند 3888 دولار للأوقية.

أما سجل الإغلاقات الحكومية في الولايات المتحدة، فيكفي لتوضيح العلاقة المتكررة بينها وبين أداء الذهب. فالإغلاق الشهير عام 2013، الذي استمر 16 يومًا وكان الأطول في تاريخ البلاد آنذاك، تزامن مع ارتفاع حاد في الطلب على الذهب كوسيلة تحوط من عجز الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها.

وفي 2018-2019 شهدت البلاد إغلاقًا جديدًا استمر 35 يومًا، وهو الأطول على الإطلاق، دفع المستثمرين إلى إعادة تقييم استقرار الدولار وسط شلل سياسي غير مسبوق. وبينما لم ترتفع الأسعار حينها بشكل انفجاري بسبب قوة الدولار النسبية، إلا أن الذهب ظل محافظًا على مكانته كأداة لحماية الثروة.

وفي أزمة الديون عام 2011، حينما اقتربت واشنطن من حافة العجز عن السداد، قفز الذهب إلى مستويات قياسية قاربت 1900 دولار للأونصة، في دلالة على أن إخفاق الكونجرس لم يعد مجرد حدث سياسي داخلي، بل صدمة تهدد النظام المالي العالمي بأسره.

هذه المحطات التاريخية تؤكد أن كل إغلاق حكومي يترك بصمته على الأسواق، وأن الذهب يظل دومًا المستفيد الأكبر من حالة انعدام اليقين السياسي، وفقا لصحيفة نيويورك تايمز.