اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ٢٠ تموز ٢٠٢٥
منذ استقلاله عام 1956، ظل السودان ساحةً مفتوحة للصراعات المسلحة، والانتكاسات السياسية، والانقلابات المتتالية، حتى أصبح نموذجًا مؤلمًا لما يمكن أن تؤول إليه الأوطان حين تفشل النخب السياسية في بناء دولة المواطنة والقانون.
ومن بين أكثر الفصول مأساوية في التاريخ الأفريقي الحديث، برزت الحرب الأهلية السودانية، التي امتدت على مدى 22 عامًا، كعلامة دامغة على عمق الانقسام وغياب التوافق الوطني.
بدأت الحرب الأهلية الثانية عام 1983، بعد أن تبنى نظام الرئيس جعفر النميري، بمساندة من القيادي الإسلامي حسن الترابي، فكرة تحويل السودان إلى دولة إسلامية. لم يكن ذلك مجرد تحول فكري، بل كان هروبًا من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، وهو ما أجج الغضب في الجنوب، الذي شعر بالتهميش الثقافي والديني والسياسي.
ومع انقلاب عمر البشير على الحكومة المنتخبة عام 1989 ووصول 'جبهة الإنقاذ' إلى الحكم، تحولت الحرب إلى أكثر مراحلها دموية. حيث اكتست المعركة بلبوس ديني واضح، وخرجت خطب الجمعة في الخرطوم لتتحدث عن 'ملائكة تحارب مع الجيش'، في مشهد يختلط فيه الدين بالسياسة، وتتلاشى فيه الحدود بين الدولة والمقدّس.
خلفت هذه الحرب الدامية ما بين مليون ونصف إلى مليونَي قتيل، أغلبهم من المدنيين الذين سقطوا تحت وطأة الجوع، والأوبئة، والقصف الجوي، والاقتتال القبلي. أكثر من أربعة ملايين نازح داخليًا، ومليون آخرون فرّوا إلى دول الجوار.
وفي ظل غياب السلطة المركزية، عادت ممارسات الرق والعبودية في بعض المناطق، وتم تسجيل انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، في مشهد مظلم لم يعرف له السودان مثيلًا منذ الاستعمار.
في يناير 2005، وقّعت حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية السلام في نيفاشا، بكينيا، معلنة نهاية أطول وأعنف حرب في أفريقيا. لكن الاتفاق كان بمثابة هدنة مؤقتة، لم تحسم جذور النزاع. ومع حلول عام 2011، صوّت الجنوب لصالح الانفصال، ليولد كيان جديد: دولة جنوب السودان، بينما بقي الشمال غارقًا في أزماته.
لم تدم طويلاً فرحة إسقاط نظام البشير في 2019، فقد دخل السودان مرحلة انتقالية هشة، شهدت قيام حكومة مدنية قصيرة العمر، قبل أن تنقلب المؤسسة العسكرية على المسار الديمقراطي من جديد.
ثم اندلعت الحرب الأخيرة، التي تختلف في طبيعتها عن سابقاتها، إذ لم تقم على خلفيات عرقية أو دينية، بل باتت صراعًا مكشوفًا على السلطة والثروة والنفوذ. حرب بلا هوية وطنية، ولا أهداف نبيلة، سوى الصراع على من يحكم ومن ينهب أكثر.
في عام 2013، شكّل نظام البشير «قوات الدعم السريع» من مليشيا الجنجويد التي ظهرت في دارفور مطلع الألفية. شُكلت هذه القوة لتكون ذراعًا عسكرية موازية تشبه الحرس الثوري الإيراني، واعتُمد عليها في عمليات القمع والقتال الداخلي.
وبعد الثورة، طالبت قوات الدعم السريع بمكان لها في الحكم، وهو ما رفضه الجيش السوداني الذي سعى إلى دمجها، مما أدى إلى تفجر الصراع الدموي بين الطرفين.
اليوم، يعاني السودان من أزمة إنسانية حادة، حيث تشير التقديرات إلى مقتل عشرات الآلاف، وتشريد نحو 13 مليون مواطن داخل وخارج البلاد، إضافة إلى جرائم إبادة موثقة في غرب دارفور، وأكثر من مليون لاجئ يعيشون أوضاعًا مأساوية.
السيناريو الأسوأ بات مطروحًا على الطاولة: انقسام السودان مجددًا إلى أكثر من كيان، بعد أن كان وطنًا واحدًا منذ 1956. تلك نتيجة طبيعية لفشل النخب السياسية في بناء دولة شاملة، خالية من المحاصصة والانقسام.
السودان لا ينزف اليوم بسبب الاحتلال أو التدخلات الخارجية فقط، بل لأن أبناءه اختاروا تمزيق أنفسهم بأنفسهم.
لم يكن الصراع من أجل العِرق أو الدين أو الحرية، بل من أجل كراسي الحكم ومصالح ضيقة.