اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ١٣ تموز ٢٠٢٥
لم يكن الاتفاق الأخير لوقف إطلاق النار في قطاع غزة سوى محطة جديدة في سجل طويل من محاولات إخماد نار التصعيد المستعر بين المقاومة الفلسطينية من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى. فبينما جاءت هذه التهدئة بعد أيام دامية خلّفت وراءها عشرات الشهداء والجرحى، ودمارًا واسعًا في البنى التحتية والمساكن، فقد عكست أيضًا جملة من الحقائق المريرة المرتبطة بطبيعة الصراع وتعقيداته، وبدور الأطراف الإقليمية والدولية في صياغة مخرجاته.
لقد جاء هذا الاتفاق الذي رعته وسطاء إقليميون ودوليون في مقدمتهم مصر وقطر محمّلًا بقدر غير قليل من الهشاشة، ذلك أن الوقائع على الأرض، فضلًا عن غياب أفق سياسي حقيقي يعالج جذور القضية الفلسطينية، مما يجعل من وقف إطلاق النار أقرب إلى هدنة اضطرارية تفرضها موازين القوة والمصالح المؤقتة، أكثر من كونها مدخلًا لتسوية مستدامة.
وما يزيد المشهد تعقيدًا أن هذا الاتفاق تزامن مع سياق إقليمي مضطرب، وفي ظل متغيرات كبيرة تشهدها المنطقة، بدءًا من تطورات الملف الإيراني، مرورًا بالانشغالات الدولية بأزمات أخرى، وصولًا إلى ارتباك البيت الإسرائيلي ذاته بفعل أزماته السياسية الداخلية. كل ذلك أضفى على مشهد وقف إطلاق النار طابعًا تكتيكيًا، لا يغير كثيرًا من جوهر المعادلة القائمة منذ سنوات وفي المقابل، لا يمكن إغفال الأبعاد الإنسانية الملحّة التي عجّلت بإنضاج هذا الاتفاق، حيث بدا الضغط الشعبي والدولي كبيرًا لتجنب كارثة إنسانية أوسع في غزة
ومع ذلك، فإن القراءة المتأنية لهذا الاتفاق، ولما سبقه وتلاه من تحركات، تكشف عن أن ما جرى لا ينفصل عن تشابكات معقدة من الحسابات السياسية والأمنية والاعتبارات الإقليمية والدولية. وهنا تتبدّى الحاجة الملحّة لتحليل المشهد ضمن أربعة مشاهد أساسية، قد تبدو في ظاهرها متناثرة، لكنها في الحقيقة مترابطة بعمق، ولا بد من تفكيكها وإعادة تركيبها لفهم أدق لمسار الأحداث، وجعل ترابطها أكثر منطقية.
المشهد الأول، لقاء ترامب ونتنياهو في واشنطن والذي يهدف بالأساس إلي نسب نجاحات التحول الحاصل في الشرق الأوسط لترامب ونتنياهو، ورسم مسار التحركات المقبلة. إلا انه وعلى الرغم من انفتاح مختلف الأطراف في الشرق الأوسط على التفاوض في ظل تغير الظروف وموازين القوى، فإن نجاح الرئيس ترامب في إحلال السلام في المنطقة ما زال يعتمد على تعاون نتنياهو وحماس وإيران، وهو تعاون يرتبط بمصالح كل طرف التي دائماً ما تكون متعارضة.
وبالتالي فأن نتنياهو عاد إلى إسرائيل يوم الجمعة 11 يوليو بعدما أنهى زيارته إلى الولايات المتحدة، دون التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، ولم يتحقق أي تقدم واضح، كما أرجئ المبعوث الأمريكي ويتكوف وصوله إلى الدوحة بعد أن اتضح أن المفاوضات لم تصل بعد إلى نقطة يمكن عندها إعلان اتفاق لوقف إطلاق النار.
لكن رغم ذلك رغم الضغوط التي مارسها ترامب خلال 3 اجتماعات على نتنياهو، فإن الأخير نجح في إدارة علاقته مع ترامب وفي التعامل مع هذه الضغوط بما مكنه من عدم تقديم تنازلات جوهرية في المفاوضات، بما في ذلك مسألة انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة التي أكدت تقارير أنها العقبة الوحيدة التي تقف في طريق التوصل إلى اتفاق. ويبدو أن نتنياهو من خلال هذا الموقف يفضل الحفاظ على دعم حلفائه من اليمين المتطرف الذين يرفضون وقف الحرب ويصرون على الاستمرار فيها.
المشهد الثاني، تكثيف المواجهات الميدانية إذ وسعت إسرائيل عملياتها العسكرية في أحد آخر معاقل حركة حماس في غزة وفي مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة وفي عمق خان يونس مما اسفر عن استشهاد 98 من المدنيين منهم34 من طالبين الغذاء بينما تدرس الحركة مقترحاً أمريكياً بهدنة لمدة 60 يوماً يتم خلالها إعادة 10 رهائن إسرائيليين و18 جثة وحسب قناة N12 التلفزيونية الإسرائيلية فأنه تم نشر نحو 50 ألف جندي في جميع أنحاء القطاع خلال الأسبوع الأول من يوليو 2025 ، وأبرزت تصريح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أن عملية تفكيك 'حماس' ستستمر وستمتد إلى جميع أنحاء مدينة غزة
وبشأن خصوصية المناطق التي تشهد تصعيدا، فقد يعد خان يونس تحولت إلى نقطة استنزاف مفتوحة بفعل فشل الاحتلال في التوغل داخلها، بينما تُعد الشجاعية وبيت حانون موقعاً مكررا لعمليات فاشلة، رغم خضوعها سابقا لعدة اجتياحات ضمن خطط عسكرية متعاقبة.
ومع تفنيد هذا المشهد تحديدا، فقد تسعى إسرائيل إلي تكثيف عملياتها في غزة في هذا الوقت إلى تحقيق أهداف عدة، أهمها، ممارسة مزيد من الضغوط العسكرية على 'حماس' لدفعها إلى تليين موقفها وتقديم تنازلات في المفاوضات المحتملة، والسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأرض في غزة بغرض ملاحقة أعضاء 'حماس' والقضاء عليهم، وإرضاء اليمين المتطرف الذي يرفض بشدة إنهاء الحرب قبل القضاء تماماً على حماس وهو ما برز جلياً خلال الخريطة التي رفعها نتنياهو والتي تحتفظ بحوالي 40% من مساحة قطاع غزة، والتي جاءت كرسالة سياسية هدفها كبح تقدم المسار التفاوضي وليس تأسيس واقع ميداني جديد، خاصة أن توقيت عرضها تزامن مع تصاعد مباحثات حول تسوية محتملة.
المشهد الثالث، هو تكثيف العمليات المتزامنة التي تنفذها المقاومة الفلسطينية في كل من خان يونس جنوب قطاع غزة والشجاعية شرقي مدينة غزة، وهو ما يؤكد تمسكها بمبدأ التخطيط المركزي والتنفيذ اللامركزي، وهو ما يدل على تماسك منظومة القيادة والسيطرة لديها.
وخلال تحليل للمشهد العسكري والميداني بقطاع غزة أن التزامن الزمني والدقة في اختيار المواقع يعكسان قدرة المقاومة على تشكيل مسرح عمليات متعدد المحاور رغم مرور أكثر من 640 يوما من الحرب، وهو بدوره ما يُنتج واقعا ميدانيا جديدا يتمثل في تشكيل مثلثات جغرافية عملياتية تُعيد رسم البيئة القتالية.
وبالتالي أن فرض المقاومة لواقع عملياتي جديد عبر رسم بيئة ميدانية مغلقة يحاصر قوات الاحتلال ويستنزفها، وخاصة الفرقة 99 التي تم الاستعاضة عنها مؤخرا بالفرقة 252 في المحور الشمالي، لذا أن المقاومة نجحت رغم تكرار اجتياح منطقة خان يونس الغربية من الفرقة 98 المظلية.
المشهد الرابع، النقاشات المعمقة في جلسة خاصة على الحسابات المتضاربة التي تواجهها الولايات المتحدة وايران وإسرائيل منذ الهجمات الإسرائيلية والأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية الشهر الماضي بين نتنياهو والرئيس الأمريكي ترامب، أنه إذا استأنفت إيران التحرك نحو امتلاك سلاح نووي، فستنفذ إسرائيل ضربات عسكرية إضافية، وهو ما عارضه ترامب نسبياً اعتبارا من تفضيله لتسوية دبلوماسية مع طهران، لكنه لم يعترض على الخطة الإسرائيلية.
وقد ينظر إلي المسلك بأن ترامب يبدو أنه قد يسعى من خلال هذه التلميحات إلى وضع مزيد من الضغوط على إيران لدفعها نحو المفاوضات والقبول بالشرط الأمريكي الخاص بإنهاء برنامج التخصيب، واضعاً معادلة صريحة، وهي إما التخلي عن هذا البرنامج أو التعرض لمزيد من الضربات.
ختاماً، إن السياق الذي جاء فيه هذا الاتفاق يشي بقدر كبير من التعقيد، إذ لم يكن وليد ديناميات محلية بحتة، بل جاء نتاجًا لتداخل عوامل إقليمية ودولية متشابكة، فضلاً عن اعتبارات داخلية تخص كل طرف على حدة، فإسرائيل تعيش حالة من الاضطراب السياسي والتصدعات المجتمعية بفعل صراعاتها الداخلية الممتدة، في حين يجد الفلسطينيون في قطاع غزة بين الحصار وتنامي الانقسام السياسي الذي أضعف قدرتهم على صياغة موقف وطني موحد. أما الفاعلون الإقليميون والدوليون، فيسعون إلى تجنب انفجار أوسع قد يخلط أوراق التوازنات الدقيقة في المنطقة.
هكذا، يظهر الاتفاق الأخير لوقف إطلاق النار في غزة كما لو كان مشهدًا آخر في مسرح مفتوح على احتمالات عديدة، يحمل في طياته بذور تهدئة مؤقتة، لكن من دون ضمانات صلبة لسلام مستدام. ولعل الأجدى لفهم حقيقة هذا الاتفاق وتقدير أبعاده الحقيقية أن نقارب المشهد عبر أربعة مشاهد أساسية، قد تبدو للوهلة الأولى متناثرة ومتباعدة، لكنها عند التحليل العميق تكشف عن ترابط يعين على تكوين رؤية أشمل وأكثر منطقية لمسار الأحداث وتعقيداتها.