اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٣ أيار ٢٠٢٥
آثرت القاهرة عدم التعاطي مع الرئيس الأميركي ومصادر تتحدث عن رفع القناة 'تقديراً شاملاً' للموقف وتأثيراته في إيرادات الممر الملاحي للقيادة السياسية
تأبى القاهرة حتى اللحظة أن تتعاطى رسمياً 'سلباً أو إيجاباً' مع تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب التي دعا فيها إلى السماح لسفن بلاده الحربية والتجارية بالمرور 'مجاناً' ومن دون أية رسوم في قناتي السويس وبنما، وتكليفه وزير خارجيته ماركو روبيو 'التعامل مع الوضع على الفور'، على رغم ما أثارته تلك الدعوة من موجة واسعة من الرفض والجدل معاً في الأوساط غير الرسمية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي لما تمثله من 'مساس بالسيادة المصرية' بحسب تعبير عدد كبير من المصريين، ولا سيما بعد زعم ترمب أن 'هاتين القناتين ما كانتا موجودتين لولا الولايات المتحدة الأميركية'.
وبينما لم تكُن تصريحات الرئيس الأميركي في شأن قناة السويس هي الإشارة الأولى من نوعها الآتية من واشنطن منذ تولي الإدارة الجمهورية الراهنة مهمات عملها في الـ20 من يناير (كانون الثاني) الماضي، إذ سبقها قبل أسابيع تسريب نقاشات لشخصيات أميركية بارزة شملت مستشار الأمن القومي مايك والتز ووزير الدفاع بيت هيغسيث حول هجماتهم على الحوثيين في اليمن، فيما عرف بـ'فضيحة سيغنال'، ألمحوا فيها إلى ضرورة أن 'تدفع مصر وأوروبا' ثمن ذلك الجهد العسكري الأميركي في تأمين الملاحة العالمية، أثار 'التجاهل' المصري للرد علي تصريحات ترمب، كثيراً من الأسئلة والنقاشات حول أسباب 'عدم التعليق' على الأمر وخيارات القاهرة لمواجهته في حال إصرار واشنطن على تحقيق رغباتها، فضلاًَ عن تبعات تباين الرؤى على العلاقات بين البلدين التي لا تمر بأفضل حالاتها في الوقت الحالي.
وتعتبر قناة السويس البالغ طولها 193 كيلومتراً أقصر الطرق البحرية التي تربط دول أوروبا في حوض البحر المتوسط مع دول المحيط الهندي وغرب المحيط الهادئ، وتمر عبرها قرابة 10 في المئة من سفن التجارة العالمية ونحو 40 في المئة من إجمال التجارة الأوروبية، وتعتمد عليها القاهرة لتأمين العملة الأجنبية، إذ بلغت إيراداتها عام 2023 قرابة 9.4 مليار دولار بحسب ما أعلنت إدارة القناة، قبل أن تشهد تلك الإيرادات تراجعات كبيرة خلال الفترة الأخيرة إثر استهداف الحوثيين لسفن في البحر الأحمر يقولون إنها مرتبطة بإسرائيل 'دعماً لغزة' التي تواجه حرباً طاحنة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023.
لماذا 'تجاهلت' القاهرة الرد؟
حتى كتابة هذا التقرير، لم تصدر المؤسسات الرسمية المصرية، بخاصة وزارة الخارجية أو رئاسة الجمهورية أي تعليق على تصريحات الرئيس الأميركي في شأن قناة السويس، ذلك الشريان الملاحي الاستراتيجي على مستوى العالم.
وبينما لم تتمكن 'اندبندنت عربية' من الحصول على رد من المؤسستين، إلا أن مصدراً دبلوماسياً أخبرنا في حديث مقتضب بـ'إيثار القاهرة التريث والتمهل في أي تعاطٍ مع هذا الأمر'، قائلاً 'لم تتسلم القاهرة بعد أية طلبات رسمية في هذا الخصوص عبر القنوات الرسمية ليجري التعاطي معها'، مشدداً في الوقت ذاته على 'استراتيجية العلاقات بين البلدين وقدرتها على تجاوز أية تباينات أو اختلافات في الرأي تجاه كثير من القضايا'.
وعلمت 'اندبندنت عربية' من مصادر إن هيئة قناة السويس تقدمت بـ'تقدير موقف' شامل في ما يتعلق بحجم وعدد السفن الأميركية التي تمر في القناة سنوياً سواء التجارية أو العسكرية، وكذلك حجم الامتيازات الممنوحة، فضلاً عن تأثيرات تفعيل الطلب الأميركي من عدمه في إيرادات القناة وفي طبيعة عملها، مشيرة إلى أن الأمر الآن أصبح 'في يد القيادة السياسية للتعاطي معه بما تراه مناسباً'.
وقال لنا أحد المصادر في قناة السويس، طالباً عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول بالحديث حول هذا الأمر 'هناك امتيازات بالفعل تمنح من قبل إدارة القناة لخطوط ملاحية وجهات مختلفة من بينها الجانب الأميركي في ضوء التسعير المرن لنظام المرور وإدارة التشغيل لذلك الشريان الملاحي المهم'، مشدداً على 'ضرورة وجود رسوم للعبور لأية سفينة تمر من خلال قناة السويس لضمان استمرارية التشغيل وبقاء القناة على قيد الحياة كشريان استراتيجي يخدم التجارة العالمية'.
ومن بين أمثلة المزايا والمرونة السعرية التي تنتهجها القناة، قررت إدارتها في يونيو (حزيران) من عام 2024، مد العمل بالخفض الممنوح لناقلات البترول الخام (المحملة بالبترول الخام أو الفارغة) العاملة بين مناطق الخليج الأميركي ومنطقة الكاريبي وأميركا اللاتينية من جهة وموانئ آسيا من جهة أخرى.
إلى ذلك ربط مراقبون 'التجاهل' المصري للرد على تصريحات الرئيس الأميركي حول قناة السويس وطبيعة العلاقات الراهنة بين البلدين التي تشهد ما يشبه 'توتراً مكتوماً'، على وقع رفض القاهرة سيناريو تهجير الفلسطينيين الذي تبناه ترمب ودعا إليه، إضافة إلى قلق واشنطن من التقارب المصري مع موسكو وبكين.
ويوضح مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية وعضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب سابقاً عماد جاد أن 'تجاهل مصر للمسألة لا يعني أنها تقلل من أهمية تصريحات الرئيس الأميركي، بل يبدو أنها آثرت عدم الدخول رسمياً في اشتباك مع تصريحات غريبة في منطقها وطرحها'، قائلاً في حديثه إلينا 'أتصور أن القيادة المصرية اتخذت قراراً بتجاهل هذه التصريحات تماماً وتأجيل أي تعاطٍ معها لحين طرحها رسمياً من قبل الجانب الأميركي'، ورجح أن يكون كلام ترمب 'يأتي ضمن التصريحات التي تعتقد القاهرة بأن سرعة التعامل معها لن يكون مفيداً وسيخلق مشكلات جانبية على صعيد العلاقات بين البلدين'.
ورأى أن 'القيادة السياسية اعتبرت في التوقيت الحالي أن الخيار الأفضل للتعاطي مع تصريحات ترمب تجاهلها وعدم أخذها بجدية، إذ إن الدخول في أي نقاش حولها يعني أنها فكرة قابلة للجدل (الأخذ والرد)، وعليه فإن التمهل وعدم التسرع هو الخيار المناسب بالنسبة إلى القاهرة، ولا سيما أن العلاقات مع واشنطن لا تمر بأفضل أحوالها في الوقت الراهن'، مشيراً إلى ترجيح بعضهم 'احتمال تراجع الرئيس الأميركي عنها' في ضوء شخصيته ومواقفه السابقة تجاه كثير من القضايا الخارجية للولايات المتحدة التي صعد فيها ثم تراجع عنها في وقت لاحق.
من جانبه يرى عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية السفير محمد أنيس سالم أن 'التجاهل المصري لتصريحات ترمب هو تمهل في حد ذاته'، موضحاً في حديثه إلينا 'أهمية دراسة الموضوع بطريقة دبلوماسية هادئة وعدم التعامل معه بطريقة تستثير الرئيس الأميركي'.
وأضاف أنه 'لا ينبغي أن نخلق أزمة في العلاقات بين البلدين على ضوء الدعوة الأميركية إلى المرور المجاني في قناة السويس'، معتبراً أن موضوع قناة السويس ونظام تشغيلها وإدارتها واضح للجميع، وقال 'تقع القناة ضمن الجغرافيا المصرية وتخضع لسيادتها وتنظم عملها اتفاقية دولية مقرة منذ عام 1888 (اتفاقية القسطنطينية) وهي معاهدة راسخة ومتوافق في شأنها بين جميع دول العالم ولم يبدِ أحد اعتراضه عليها، وعليه فإن مصر لن تغير هذا الواقع الجغرافي والقانوني من أجل دولة واحدة'. وأكد أن هناك أهمية 'لتنشيط القاهرة لقنوات الحوار مع واشنطن التي تبقى المسارات الأنجع لتجاوز أية تباينات في الرأي تجاه أيّ من القضايا'.
بدوره رأى مساعد وزير الخارجية المصري السابق السفير رخا أحمد حسن أن الرد المصري على تصريحات الرئيس الأميركي عبرت عنه بالفعل أوساط النخبة ورجال السياسة والقانون عبر كتاباتهم وفي وسائل الإعلام المختلفة، وقال 'صحيح أنه لم يصدر موقف رسمي سواء من الخارجية أو الرئاسة، لكن تعليقات عدد من الخبراء والمعلقين ورجال السياسة وحتى الرأي العام عكست جوهر الموقف المصري'.
وذكر أن التفاعل غير الرسمي في مصر كان غاضباً ليس فقط بسبب نوايا الرئيس الأميركي تجاه قناة السويس، بل لحجم 'المغالطات التي تضمنها طرحه'، سواء على صعيد تحميل مصر لا إسرائيل كلفة حربه على الحوثيين في اليمن لتهديدهم الملاحة البحرية، وزعمه وجود دور تاريخي في إنشاء القناة وحمايتها، مما لم يحدث مطلقاً، فضلاً عن تجاوز الأطر القانونية الدولية الحاكمة لعملية تشغيل القناة.
وإجمالاً يشير المراقبون إلى أن تصريحات ترمب تأتي في إطار محاولته الضغط على الدول المالكة للممرات الملاحية العالمية، بما في ذلك قناة السويس، لخفض رسوم المرور للسفن الأميركية.
أية خيارات قد تسلكها القاهرة؟
ووسط تباين واسع في الرأي بين من يعتبر دعوة الرئيس الأميركي في شأن قناة السويس لا تعدو كونها 'بالون اختبار' لتحقيق مزيد من الضغط على القاهرة في ملفات أخرى، وأخرون يرون أنها تأتي ضمن مساعي ترمب لما يسميه 'إعادة التوازن' لاقتصاد بلاده ضمن شعاره الذي رفعه منذ اليوم الأول لدخوله إلى البيت الأبيض 'أميركا أولاً'، من دون النظر إلى أية قواعد أو قوانين واتفاقات حاكمة للنظام الدولي طوال العقود الماضية، تبدو خيارات القاهرة محصورة بين تمسكها في الحفاظ على 'سيادتها وأمنها وعدم تجاوز خطوطها الحمراء' ورغبتها في عدم توتر العلاقات الاستراتيجية التي تربطها بواشنطن وأهمية البلدين لبعضهما بعضاً، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط.
ويقول السفير رخا أحمد حسن 'بالنسبة إلى القاهرة ففي مسألة قناة السويس ليست هناك خيارات'، موضحاً أن 'القضية في قانون ينظم المرور في هذا الممر الملاحي ويطبق على جميع الدول في العالم، ولا يمكن تفصيل قانون خاص لسفن الولايات المتحدة سواء التجارية أو العسكرية'، ورأى أن مثل هذا الأمر 'غير مقبول موضوعياً وقانونياً، ويعني أن هناك ممارسة استعمارية جديدة على مصر'.
وحذر من خطورة تطبيق الأمر وتداعياته على وظيفة قناة السويس برمتها، مرجحاً أن يؤدي استثناء للولايات المتحدة من رسوم المرور إلى فوضى في عمل القناة، فعلى سبيل المثال، هناك بعض الدول لا تملك سفناً تجارية، لكن يمكنها أن ترفع علم دولة أخرى مثل بنما وقبرص واليونان، وعند تطبيق الاستثناء على الولايات المتحدة فمن الممكن أن يتحول الأمر وترفع الشركات الملاحية علم الولايات المتحدة لتفادي دفع الرسوم، هذه كلها عوامل تجعل من تطبيق الأمر صعباً للغاية'.
من جانبه يقول السفير محمد أنيس سالم أن التعاطي المصري مع الأمر ينبغي أن 'يتحلى بالهدوء والموضوعية، بعيداً من الإثارة التي لن تفيد'، مشيراً إلى ضرورة أن توضح القاهرة لواشنطن عبر قنوات الحوار في ما بينهما موقفها بكل موضوعية وشفافية والتعاطي مع المسألة وفق ما يخدم المصالح المصرية.
إلى ذلك يحذر عماد جاد من 'خطورة منح واشنطن هذا الاستثناء' لأنه سيمثل 'سابقة خطرة' على صعيد نظام المرور في القناة قد تنذر بما بعدها، موضحاً أن 'الرئيس الأميركي يتعامل مع القضايا كافة بمنطق التجار، ولم ينظر إلى الأمور بصورة استراتيجية، فضلاً عن أنه عندما يتحدث عن قضايا حساسة يلجأ إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في حين أن مثل تلك القضايا تناقش خلال المحادثات الثنائية وقنوات الحوار مع الدول المعنية'، وتابع أنه 'في حال إصرار واشنطن على طلبها وتلبية الجانب المصري له ستكون هناك ذريعة لدول أخرى للضغط من أجل الحصول على مثل تلك الامتيازات، مما سيشكل قيداً على أجيال مقبلة في مصر'.
ورأى أن 'على القاهرة التعامل بحرص وذكاء سياسي ودبلوماسية وألا تتعامل مع تصريحات إعلامية تصدر عن الرئيس الأميركي'، معتبراً أنه في حال 'طرح الأمر بصورة مباشرة على مصر، فعلينا امتصاصه بهدوء ومناقشته بما يحافظ على المصالح المصرية'، وأوضح أن الأمر يختلف بالكلية عن قناة بنما التي شيدها الأميركيون في السابق.