اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١ كانون الأول ٢٠٢٥
استقطاب واتهامات متبادلة بين أصحاب خطاب التنوع الحضاري والثقافي ومن يعتبرون القومية المصرية هوية فرعونية ليست بحاجة إلى روافد أخرى
تجاوز النقاش المحتدم حول الهوية المصرية أخيراً فكرة تبادل الآراء ومحاولة الاستيضاح ليصبح معركة كاملة وصراعاً، وكأنّ هناك نية مبيّتة لإشعال حرب بين الفرق المتناقضة الولاءات.
القصة بدأت باتهامات متواترة لبعض علماء التاريخ والمصريات المشهود لهم، بأنهم ينكرون فكرة الهوية المصرية الخالصة لمجرد أنهم يشككون في مسألة 'نقاء العرق' المتعلقة أساساً بالجينات، إذ يشيرون إلى أن الثقافة المتبناة هي التي تحدد الهوية، وأن أمر الجينات يضر أكثر مما ينفع، ثم انفرط العقد وأصبحت هناك قائمة طويلة من الاتهامات توزّع ضد كل من يحاول أن يفتح الباب لآراء أكثر تنوعاً.
وصل الأمر إلى اتهام من يرفض وجهة النظر المحددة حول الهوية المصرية، بدعمه بوجهات نظر الأفروسنتريك القائلة إن الحضارة المصرية القديمة لم تبن على أيدي المصريين، إنما قبائل أفريقية أخرى أسهمت بها، أو أنه يمتثل لأجندة خارجية مغرضة ينفذ بنودها بدقة، وآخرون يعتبرون أن الامتداد العربي والإسلامي أضر بالبلاد، وعلى هذا الانتماء أن يحجّم.
واعتبر هؤلاء أن ظهور عبارة جمهورية مصر في مؤتمر شرم الشيخ للسلام في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي دون 'العربية' كان دلالة واضحة على السير في الطريق الصحيح، وذلك على رغم عدم وجود خطاب رسمي يتبنى تلك الفرضية المتخيلة، وعلى رغم أيضاً ظهور اسم الجمهورية كاملاً كما هو في السجلات الرسمية في محافل أخرى في ما بعد.
أبناء كيميت، وكيميت هو اسم مصر باللغة الهيروغليفية ويعني الأرض السوداء، أو الأرض الخصبة، باتوا بالنسبة إلى البعض بمثابة فصيل افتراضي ليس له وجود واقعي يشكك في وطنية كل المختلفين، وبالنسبة إلى آخرين هو تيار مهم يُسهم في نشر الوعي بقيمة العودة إلى الجذور والأصول، وتمجيد التراث المصري الذي لطالما جرى إهماله، حيث أخيراً بات هناك من يحاول نشر التوثيق بالنسبة إلى الأجيال الجديدة التي لا تعرف قيمة ما تمتلك بلادها.
على رغم أن جدلية الهُوية في هذا السياق على وجه التحديد جرى استدعاؤها مراراً، إذ حدق الأمر إبان حكم الإخوان المسلمين، حينما كان هناك تيار يحاول تدرجاً إلغاء فكرة الدولة لمصلحة 'الأمة'، وقبلها بقرون تصدى لها مفكرون كثر بعضهم كانوا أصحاب آراء معتدلة وبينهم من وصفت توجهاتهم بالعنصرية.
لكن الأمر يبدو مختلفاً كثيراً هذه المرة، وأثار اهتمام غير المتخصصين الذين دخلوا بحماسة وطنية وروّجوا لآراء بعضها غير دقيق، إضافة إلى مفكرين ومهتمين بالشأن الثقافي بعضهم يعتقد أنه آن الآون للتمسك بفكرة العرق المصري، وآخرون يحذرون من هذه التوجهات ويعتبرونها دعوة إلى الانعزالية التي تضر ولا تنفع في ظل عالم تحكمه الأعراف الدبلوماسية والمصالح المشتركة، في ظل التهديدات التي تحيط بالمنطقة.
وكان هناك من هم أكثر حزماً ويدفعون بعدم منطقية ولا علمية قصة الأصول والجينات في هذه المرحلة من تاريخ البشرية في كل أنحاء العالم لا مصر فقط، التي هي بدورها ذات هوية متنوعة تزيدها ثراء، لكن لماذا بات النقاش صدامياً واتخذ مستويات غير مسبوقة من التشكيك والتخوين، بل والإرباك بين بعض المنتمين إلى الطرفين هذه المرة، حيث كانت السخرية هي السائدة للتسفيه من آراء كل فريق، والآن وصل الأمر إلى مرحلة من الاتهام بعدم الانتماء الوطني والعمل لمصلحة الأعداء؟
وفقاً لكتاب 'هُـوية مصر بين العرب والإسلام'، لأجرشوني و ج جانكوفكسي، فإن أول من صاغ سؤال الهوية وطرحه للنقاش كان المفكر المصري رفاعة الطهطاوي الملقب برائد النهضة العلمية الحديثة في البلاد الذي وُلد في مطلع القرن الـ19، إذ بدأ الأمر أولاً باعتقاده أن سر النهضة يكمن في الاقتراب أكثر من الثقافة الغربية ومحاولة التوفيق بينها وبين الفكر الديني، ثم تدرجاً بات أكثر اهتماماً بجذور مصر الفرعونية، وبعدها جاء أحمد لطفي السيد ببلورة رؤيته حول هوية مصر الفرعونية بصورة أكثر وضوحاً، وأيضاً أسهم علي مبارك في صياغة مشروع ثقافي يتخذ من علم المصريات أساساً له.
بينما تغيّرت توجهات زكي نجيب محمود في هذه المسألة، إذ كان يتبنّى التوجه للفكر الغربي تماماً رافضاً التراث، ثم في ما بعد صاغ أفكاراً تحتكم إلى الأصالة والمعاصرة معاً، معتبراً أن الحضارة الفرعونية جزء مهم من الإرث الحضاري الذي يشكّل هوية الأمة، ودعا إلى إحياء التراث الإسلامي في شقه العلمي أيضاً دون أن يتنكر له أبداً.
هذه المراجعات التي قادها مفكرون مصريون كبار في ما يتعلق بنقاش الهوية تبدو بعيدة عن النبرة الاستقطابية الحادة التي يتبناها كثير ممن يدلون بدلوهم في هذا المضمار في الفترة الحالية.
يرى الباحث في علم المصريات والروائي حسين عبدالبصير أنه من الجيد أن تكون هناك صحوة للعودة إلى الأصول الحضارية الضاربة في الجذور كأن يعتز المصري بمصريته واللبناني بفينيقيته، والخليجي بتقاليد شبه الجزيرة العربية، لكنه يحذّر أيضاً من الخطاب المتبنى حالياً من قِبل بعض الفرق، واصفاً إياه بأنه يحمل شططاً ومبالغة ومغالاة.
ويضيف، 'الارتكاز إلى رافد واحد سواء كان حضارياً أو دينياً أو ثقافياً أو عرقياً أو تاريخياً وإهمال الأبعاد الأخرى يشبه الطير الذي يطير بجناح واحد، فبحسابات الواقع والمشتركات لا يجب التخلي أبداً عن المحيط العربي والإسلامي أو العمق الأفريقي، فجميعها أبعاد مكونة للشخصية المصرية'.
ويوضح الأثري حسين عبدالبصير، صاحب 'موجز الحياة في مصر القديمة، مصر الخالدة: الماضي والحاضر، وقصة الحضارة في أرض مصر'، أن الروح التي باتت تسيطر على كثر بعد افتتاح المتحف المصري الكبير وقبلها موكب الحضارة وغيرها من المشاريع التي تعيد تقديم الحضارة المصرية القديمة للعالم، ينبغي استغلالها بصورة إيجابية، وبخاصة أنها تؤكد حتى للمحيط العربي الذي يرى البعض ضرورة التنصل منه، عمق الحضارة وأصالتها وريادتها، مشيراً إلى أن الترويج للحضارة المصرية القديمة جعل كثراً يريدون اكتشافها، فهذه الروح، في رأيه، أحدثت حالة شديدة الإيجابية، حتى إن المؤسسات الدينية دخلت على الخط بتغريدات متنوّعة تتحدّث عن أهمية السياحة والإرث الحضاري، بل منها من أشار إلى التوحيد في أديان المصرية القديمة، وهو تغير في الخطاب يسهم في تشكيل الوعي.
يوجد بالفعل صحوة على مستويات عدة في ما يتعلق بالإدراك لقيمة الحضارة المصرية القديمة تمثلت في أمور شتى مثل تنظيم الرحلات المتوالية للمتاحف، أبرزها المتحف المصري الكبير، وأيضاً التدوينات المتكررة من غير المتخصصين حول طرقهم لاكتشاف هذا العالم الذي لم تنصفه كتب التاريخ المدرسية، وحتى محاولات نشر ثقافة الأطباق الفرعونية والعادات المجتمعية في هذه الفترة الممتدة لآلاف الأعوام، وكذلك تدشين خطوط إنتاج محلية للمنتجات تحمل رموزاً فرعونية، سواء إكسسوارات أو ملابس، أو استعمال بعض مفردات اللغة الهيروغليفية وتعلمها، إضافة إلى الاهتمام الملحوظ بحملات استرجاع الآثار المنهوبة.
لكن الأمر في نظر البعض يتحوّل إلى نوع من الشوفينية، ثم في مرتبة أخرى يصبح عنصرية، فالاعتزاز بالأصول وإعادة اكتشاف حضارة عريقة لطالما أُهملت دون قصد في الوعي الجمعي، شيء ودعوات الانعزالية شيء مختلف تماماً، فأدبيات السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع، تقول إن الانعزالية بداية الضعف، فكل دول العالم تترابط في كيانات وتنخرط في مؤسسات لتشكل قوة وحائط صد، وتبحث عن المشترك بينها وبين البلدان الأقرب لها ثقافياً، لأن هذا في صميم المصلحة القومية لا العكس.
وصل الأمر إلى محاولة إثبات أن المصريين جينياً لديهم مواصفات معينة، وأنه عرق نقي خالص حتى اليوم، وهو أمر شديد الصعوبة بالنسبة إلى أي دولة في هذه الحقبة الزمنية بعد مرور قرون على نشأة الدول الحديثة والانصهار والتقارب والنسب والهجرات المتوالية، حيث يعتقد الدكتور حسين عبدالبصير، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، أنه لا يوجد منطق بصورة عامة بفكرة النقاء العرقي، مشيراً إلى أنه، وفقاً للعلم، هذا أمر غير موثوق، والانعزالية فكرة يتجاوزها الواقع الحالي، ولا تصلح للنظام الحديث.
غير أنه يضيف أيضاً، 'لكن المؤكد أن الهجرات إلى مصر على مدار الحقب التاريخية المختلفة تشكّل نسبة ضئيلة جداً مقارنة بعدد السكان الضخم، والحقيقة أيضاً أن هذه العناصر كانت تذوب في عمق الشخصية المصرية، والنسيج الحضاري للمجتمع، فهناك تداخل لكن بنسبة ضئيلة، حيث تؤثر الشخصية المصرية فيهم ولا تتأثر، فقد جاء الفرس والعرب والرومان والأتراك وجميعهم ذابوا في النسيج المصري، ولهذا فالدخلاء أقل بكثير من بلدان أخرى، مع ذلك يجب أن يكون هذا مدعاة للفخر لا العنصرية بل على العكس تماماً التنوع الحضاري مع رسوخ الإرث يدل على القوة والقدرة على الاستيعاب'.
ويختم عبدالبصير حديثه بتأكيد أن مصر عبارة عن سلسلة من الحضارات المتتابعة، فرعونية وبيزنطية وقبطية ورومانية وإسلامية والعصر الحديث، مستشهداً بحديث المفكر الراحل ميلاد حنا عن الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، وآراء جمال حمدان عن عبقرية المكان وأهميته في تكوين الشخصية المصرية، مشيراً إلى ضرورة عدم إغفال البعد المكاني وكذلك التاريخي والزمني، حينما تناقش جدلية الهوية المصرية.
آراء كثيرة ترى أن اختزال الهوية المصرية في رافد واحد هو إغفال لأهمية التنوع الذي تتمتع به البلاد، ويمنح تاريخها الحضاري قوة وفرادة مما ينعكس مباشرة على منجزاتها في المعمار والتراث الثقافي ويظهر بصورة مباشرة على الفنون والعلوم والآداب، وبالطبع الشخصية المصرية نفسها، فيما كانت قد تفجّرت أزمة جانبية تصدرت المشهد تدرجاً، وتتعلق بالهجوم المباشر على آراء عالمة المصريات البارزة الأكاديمية مونيكا حنا، التي تعتبر أنه ينبغي الاعتماد على الثقافة المصرية، باعتبارها أصلاً للهوية وليس التطابقات الجينية أو لون البشرة أو أي صفات فيزيائية أخرى، مشيرة إلى أن هذه نقطة قوة وليست ضعفاً عكس ما يروّج البعض.
وتعتقد حنا أن التفسير العرقي يسعى إلى اختزال تاريخ المصريين، وهو مدخل خاطئ في رأيها، ويزايد على أي أفكار لها إثباتات علمية ووثائق توضح أن الإسهام في البناء والحضارة المصرية جاء من خلال الهوية المصرية المركبة المتجذرة عبر آلاف الأعوام التي تشترك في ممارسات وتقاليد ثقافية.
اللافت أيضاً أن صراع الهوية اتخذ أبعاداً دينية وسياسية ودخل به متخصصون وغير متخصصين، وأصحاب مآرب أخرى، وبات وكأنه 'ترند' كامن يخرج وقت الحاجة يتأجج ويشتعل ويخفت، ثم يعود إذا ما اقتضى الأمر، حيث يعتقد أستاذ التاريخ علي ثابت الضبع أن بعض الأمور يجري النفخ فيها لتشويه أي حدث أو إنجاز يحدث، داعياً إلى الاعتزاز بالحضارة المصرية القديمة، جنباً إلى جنب مع الاحتفاء بتنوع الشخصية المصرية، ومضيفاً أن خصوصية مكوناتها وتناغمها هو سر بقاء أول دولة في التاريخ، مؤكداً أن تعدد الحقب وضع بصمته وتأثيره في كل مناحي الحضارة والثقافة.
وتابع الضبع، 'منذ العصر القديم ما بين مصري قديم ويوناني وروماني، مروراً بالعصر الوسيط قبطي وإسلامي، ثم العصر الحديث عثماني وغربي، فكلها انصهرت في بوتقة وباتت مصدر ثراء وغنى إنساني وحضاري، لا ينبغي التفريط به أبداً، فمصر هي أول دولة في التاريخ وبطبيعة الحال أول مجتمع إنساني متكامل ومتنوع'.


































