اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ١١ تشرين الأول ٢٠٢٥
في زمنٍ تتنافس فيه الدول على كسب العقول والقلوب قبل الأسواق، لم يعد النفوذ يُقاس فقط بما تملكه من ثرواتٍ أو جيوش، بل بما تمتلكه من قدرةٍ على تسويق صورتها الإنسانية والحضارية في وجدان العالم. ومصر، التي كانت وما زالت مهد الحضارات وموئل الثقافات، تقدم في الأسابيع الأخيرة نموذجًا متكاملًا لكيفية تحويل الأحداث الوطنية إلى رسائل عالمية تعبّر عن هوية متجددة وصورة ناضجة للدولة الحديثة.
فوز الدكتور خالد العناني بمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو لم يكن مجرد انتصار دبلوماسي، بل خطوة رمزية تعبّر عن عودة مصر لتقود الحوار الثقافي العالمي. هذا الفوز يعكس ثقة المجتمع الدولي في قدرة مصر على حماية التراث الإنساني وصون القيم الثقافية التي تُقرّب الشعوب بدل أن تفرّقها. لقد عرف العالم خالد العناني وزيرًا للسياحة والآثار، أدار ملف التراث المصري بعين المؤرخ وذهن المخطط، فحوّل الثقافة إلى طاقة جذب واستثمار. واليوم، حين يعتلي أعلى منصة ثقافية دولية، يرسل للعالم رسالة فحواها أن مصر لا تزال قادرة على قيادة الفكر الإنساني، ليس فقط بما تملكه من آثارٍ عريقة، بل بما تملكه من رؤية مستقبلية تجعل الثقافة أداة للتنمية والسلام.
وفي المشهد نفسه، يطلّ المنتخب المصري لكرة القدم في طريقه إلى كأس العالم بروحٍ وطنية تُعيد للأذهان فكرة “الهوية الجماعية” التي تتجاوز الانتماء الرياضي إلى انتماءٍ حضاري وإنساني. فالرياضة اليوم لم تعد ساحة منافسة بدنية فحسب، بل وسيلة لتسويق صورة الشعوب وبناء الجسور بين الأمم. كل هدف يسجله اللاعب المصري هو رسالة بأن هذا الشعب قادر على المنافسة والانتصار رغم التحديات. الملاعب تتحول إلى شاشاتٍ دعائية كبرى تَعرض روح مصر: الصبر، والإصرار، والفرح الجماعي الذي يختزل في لحظةٍ واحدة حكاية وطن بأكمله.
أما الوجه الأسمى في المشهد المصري الراهن فهو ذلك الدور الإنساني والدبلوماسي الذي تلعبه القاهرة في إحلال السلام بغزة. فبينما تتصاعد ألسنة اللهب في الإقليم، تظلّ مصر الصوت العاقل الذي لا يملّ من الدعوة إلى التهدئة وإعادة بناء الثقة. لقد نجحت القاهرة مؤخرًا في التوصل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار بعد عامين من المعاناة، وهو ليس إنجازًا سياسيًا بقدر ما هو تجسيد لموقفٍ أخلاقي وإنساني ثابت. فمصر، التي تعرف معنى الحرب أكثر من غيرها، تدرك أن السلام ليس ضعفًا، بل شجاعة مضاعفة. ومن هنا أصبحت صورتها في الإعلام الدولي مرتبطة بالمسؤولية والاتزان، حتى صارت “الوسيط الموثوق” الذي يلجأ إليه العالم حين تتعقد الطرق وتتعثر اللغات.
هذه الأحداث الثلاثة — الثقافية والرياضية والدبلوماسية — تبدو متباعدة في ظاهرها، لكنها في جوهرها نسيج واحد من القوة الناعمة المصرية. إنها دروس عملية في “التسويق الوطني”؛ فحين تفوز مصر في محفل ثقافي، أو تصعد في ميدان رياضي، أو تُسهم في صناعة سلام، فإنها تروّج لصورتها بأبلغ مما تفعله أي حملة إعلامية. فالتسويق هنا ليس إعلانًا يُشترى، بل قصة تُروى، وسلوك يُمارس، وتأثير يُترك في العقول قبل العيون.
اليوم، تملك مصر فرصة نادرة لإعادة صياغة سرديتها أمام العالم. فبدل أن تكون الدولة التي تُعرّف بتاريخها فقط، يمكنها أن تُعرّف بما تفعله الآن — بالثقافة التي تنفتح، وبالشباب الذي يصعد، وبالسلام الذي يصنعه العقل المصري في لحظات العتمة. العالم لا يحتاج إلى أن يُذكَّر بأن مصر هي أرض الأهرامات، بل يحتاج أن يرى أنها لا تزال قادرة على بناء “أهرامات جديدة” من الفكر والإنجاز الإنساني.
لقد آن الأوان أن تتحول النجاحات الأخيرة إلى استراتيجية تسويق وطني شاملة تستثمر في الرموز لا بوصفها أحداثًا مؤقتة، بل كركائز لهوية مستدامة. أن يُصبح فوز العناني قصة تروى في معارض السياحة الدولية، وأن يُستثمر صعود المنتخب في الترويج لمصر كدولة شابة نابضة بالحياة، وأن يُقدّم دورها في غزة كنموذجٍ للقوة المسؤولة التي تُوازن بين المصلحة والإنسانية.
بهذه الصورة، لا تعود إنجازات مصر مجرد أخبارٍ في نشرات المساء، بل علامات مضيئة في ذاكرة العالم. فالدول التي تُتقن فن تسويق نفسها، لا تكتفي بأن تكون حاضرة في الأحداث، بل تصنع الأحداث نفسها. ومصر، وهي تجمع بين عبق التاريخ وروح العصر، تبرهن اليوم أنها لا تزال قادرة على أن تكون رسالة للعالم — رسالة من حضارة تعرف أن القوة الحقيقية ليست في الصراع، بل في الإبداع، ولا في السيطرة، بل في التأثير.
وهكذا، حين تنظر الشعوب إلى مصر اليوم، تراها كما يجب أن تُرى: بلد يصنع الثقافة، ويمارس الرياضة، وينشر السلام؛ بلد لا يكتفي بالحديث عن مجده الماضي، بل يكتب كل يوم فصلًا جديدًا في مجده القادم.