اخبار مصر
موقع كل يوم -الدستور
نشر بتاريخ: ٩ شباط ٢٠٢٥
قبل نحو عام، وتحديدًا فى شهر رمضان ٢٠٢٤، احتدمت النقاشات فى المجتمعات العربية حول الطائفة النزارية التى تناولها مسلسل «الحشاشين»، وسلط الضوء بالتحديد على سيرة زعيم الطائفة الحسن بن الصباح.. كان هذا هو المشهد الأول والصاخب فى الحكاية.
أما المشهد الثانى والهادئ تمامًا، فيدور على شط النيل فى مدينة أسوان، حيث العصافير تتقافز فوق الأشجار المزروعة حول ضريح الآغا خان الثالث، السلطان محمد شاه، المتوفى عام ١٩٥٧، وهو الإمام الثامن والأربعون للطائفة الإسماعيلية النزارية، وهو جد الآغا خان الرابع كريم الحسينى، الإمام التاسع والأربعون للطائفة، الذى رحل عن عالمنا ودفن فى ذات الضريح، أمس، تنفيذًا لوصيته، التى استجابت لها مصر، وصدر قرار من رئاسة الوزراء بالترخيص بدفن الأمير كريم بالضريح، وسط تيسيرات من الجهات المختصة.
فمن هو كريم الحسينى؟ وما علاقته بالطائفة النزارية الإسماعيلية؟ وما علاقة كل ذلك بشيخ الجبل حسن الصباح الذى تناوله مسلسل الحشاشين؟.. وما الذى قدمه الأمير الراحل لمصر؟
لفهم الحكاية نعود إلى أواخر القرن الحادى عشر الميلادى، حيث تأسست الطائفة الإسماعيلية النزارية بعد انقسام حدث داخل الطائفة الإسماعيلية الفاطمية.
القصة بدأت بعد وفاة الإمام الفاطمى المستنصر بالله عام ١٠٩٤م، حيث وقع خلاف حول من سيخلفه كإمام، واختار جزء من الطائفة ابنه الأكبر «نزار» كإمام شرعى، وهو الذى كان ولى العهد الشرعى وفق التقاليد الإمامية، بينما دعم آخرون الابن الأصغر «المستعلى»، الذى حصل على دعم الوزير القوى الأفضل بن بدر الجمالى فى القاهرة.
أنصار «نزار» فروا من مصر بعد هزيمتهم على يد أتباع «المستعلى»، واستقروا فى مناطق مختلفة من بلاد فارس والشام، وهنا بزغ نجم الحسن الصباح الذى عيّن نفسه إمامًا نزاريًا فى إيران وأسس قاعدة قوية له فى قلعة آلموت عام ١٠٩٠م، وتحت قيادته أصبحت الطائفة النزارية حركة دينية وسياسية قوية، عُرفت بحركة «الحشاشين».
ورغم سقوط قلعة آلموت على يد المغول عام ١٢٥٦م، استمر الأئمة النزاريون، وأشهرهم راشد الدين سنان، فى قيادة الطائفة فى مناطق مختلفة، وانتقل مركز الإمامة لاحقًا إلى الهند، ثم أوروبا، حيث برزت عائلة الآغا خان كقادة للطائفة.
الباحث والمؤرخ حسن حافظ، يحكى فى لقائه مع بودكاست «ميكروفون» فى مؤسسة «الدستور»، أنه بعد أن انتقلت الإمامة إلى عائلة الآغا خان، أجرت العائلة تغييرات جذرية فى الفكر والتوجهات العامة للطائفة، فتحولت من المنهج الثورى والعنيف إلى منهج إصلاحى تنموى يركز كل الطاقات والجهود على الأعمال الخيرية والإعمار ومساعدة الفقراء والمحتاجين.
واستمر سلسال الإمامة حتى وصلت إلى الإمام كريم الحسينى المعروف بلقب الآغا خان الرابع، الذى وُلد فى ١٣ ديسمبر ١٩٣٦، وتوفى فى ٤ فبراير ٢٠٢٥.
و«كريم» حفيد الإمام الإسماعيلى الثامن والأربعين السلطان محمد شاه الآغا خان الثالث، وهو ابن الأمير على خان والدبلوماسى الشهير، وزوجته الأولى هى الأميرة جوان إيفون بلانك، وهى بريطانية الأصل.
ونشأ «كريم» فى بيئة متعددة الثقافات، حيث جمع بين التعليم الغربى والقيم الإسلامية الإسماعيلية، وتلقى تعليمه فى مدارس النخبة بسويسرا، ثم التحق بجامعة هارفارد فى الولايات المتحدة، حيث درس التاريخ الإسلامى وتخرج بمرتبة الشرف.
وفى ١١ يوليو ١٩٥٧، وبعد وفاة جده الآغا خان الثالث، تولى الإمامة وهو فى سن العشرين فقط، وكان ذلك قرارًا غير تقليدى، حيث تخطى والده الأمير على خان الذى لم يُختَر للإمامة بشكل فاجأ الجميع.
وفى خطاب توليه الإمامة، أشار «الآغا خان الرابع» إلى ضرورة تكييف قيادة الطائفة الإسماعيلية مع التغيرات العالمية السريعة، وقال إنه سيركز على تعزيز التعليم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لأتباع الطائفة.
وكإمام للطائفة الإسماعيلية النزارية، لم يقتصر دوره على الأمور الدينية، بل شمل التنمية الشاملة لأتباع الطائفة والمجتمعات التى يعيشون فيها، حيث يشير الإسماعيليون إلى الإمام باعتباره قائدًا روحيًا يمتلك معرفة باطنية مستمدة من النبى محمد وأئمة أهل البيت.
وتحت قيادته، تأسست العديد من المؤسسات التعليمية فى آسيا وإفريقيا، بما فى ذلك مدارس وجامعات توفر تعليمًا عالى الجودة للأجيال الجديدة، كما أسس مستشفيات ومراكز صحية تهدف إلى تحسين جودة الحياة فى المجتمعات النامية، كما أسس شبكة الآغا خان للتنمية «AKDN»، وهى واحدة من أكبر المنظمات التنموية فى العالم، وتشمل مشاريع فى مجالات الصحة، والتعليم، والإسكان، والثقافة، والتمويل الصغير.
وكانت لمؤسسة «شبكة الآغا خان» إسهامات بالغة فى تنفيذ مشروعات تنموية فى مصر، وأبرزها تطوير حديقة الأزهر، التى حوّلتها من مكب للنفايات فى قلب القاهرة التاريخية إلى واحدة من أجمل الحدائق العامة، والتى تغطى مساحة ٧٤ فدانًا، وأصبحت متنفسًا بيئيًا وثقافيًا، وأسهمت فى تحسين البنية التحتية للمناطق المحيطة.
كما شاركت المؤسسة فى ترميم العديد من المعالم الإسلامية التاريخية فى القاهرة، مثل أسوار القاهرة الفاطمية، تعزيزًا للتراث الثقافى المصرى، كما دعمت برامج تهدف إلى تحسين جودة التعليم، والصحة، وتطوير المهارات المهنية لسكان المناطق الفقيرة.
وكان «كريم» شخصية بارزة على الساحة الدولية، ومدافعًا قويًا عن التعددية والتعايش بين الأديان والثقافات المختلفة، كما عرف بحياته الشخصية المتعددة الأوجه، حيث كان من عشاق رياضة الفروسية وتربية خيول السباق، وحقق نجاحات كبيرة فى سباقات الخيول العالمية، كما خصص جزءًا كبيرًا من ثروته لدعم المشاريع التنموية والخيرية.
وتزوج مرتين، الأولى من سالى كروكر بول عام ١٩٦٩، وأنجب منها ثلاثة أبناء، بينهم الأمير رحيم آغا خان، الذى خلفه فى زعامة الطائفة الشيعية الإسماعيلية، والزوجة الثانية هى جابرييلا زوكاردى.
وبسبب إنجازاته العالمية، حصل الآغا خان الرابع على العديد من الجوائز والأوسمة، منها جائزة الهند للتنمية الريفية، والدكتوراه الفخرية من العديد من الجامعات حول العالم، ووسام جوقة الشرف الفرنسى.
ويُعتبر «كريم» من أكثر القادة الدينيين تجديدًا، فكان يؤمن بأن الدين والعلم يمكن أن يتكاملا من أجل تحقيق التنمية، فركز على دعم التعليم وتمكين المرأة والشباب، ودعا إلى نبذ العنف وتعزيز الحوار بين الثقافات.
وكان من أوائل القادة الدينيين الذين فهموا أهمية التكنولوجيا والابتكار فى التنمية الاجتماعية، فأسس مشاريع تعتمد على التكنولوجيا لتحسين جودة التعليم والخدمات الصحية فى المجتمعات النائية.
وقدرت مجلة «فوربس» الأمريكية المختصة بالأعمال، ثروة «كريم» بنحو مليار دولار فى عام ٢٠٠٨، مشيرة إلى أن قيمة ثروته الموروثة، تعززت أيضًا من خلال العديد من الاستثمارات التجارية، بما فى ذلك تربية الخيول، حيث يقال إنها وصلت إلى ١٣ مليار دولار.
وحسب تقرير لمجلة «فانيتى فير» الأمريكية عام ٢٠١٣، فإنّ الإمام الراحل كريم كان يمتلك طائرة خاصة وقصرًا وشركة ضخمة يتم تشبيهها بمبنى الأمم المتحدة.
وتشير مجلة «فانيتى فير»، أيضًا، إلى أن شبكة «الآغا خان للتنمية»، وعلى الرغم من أنها معروفة عمومًا بالعمل غير الربحى الذى تقوم به فى الأجزاء الفقيرة والتى مزقتها الحرب من العالم، فإنها تتضمن أيضًا مجموعة هائلة من الشركات الربحية فى قطاعات عديدة مثل الطاقة والطيران والأدوية والاتصالات والفنادق الفاخرة، مضيفة أنه فى عام ٢٠١٠، حققت هذه الشركات إيرادات بقيمة ٢.٣ مليار دولار.
ويبدو أن «كريم» قد أوصى بدفنه بجانب جده الآغا خان الثالث، الذى يقع ضريحه على ضفة النيل فى مدينة أسوان، وتم بناؤه من الحجر الجيرى الوردى على طراز المقابر الفاطمية فى القاهرة، وهو مصنوع من رخام كرارا الأبيض، وصممه المهندس المعمارى المصرى الدكتور فريد شافعى.
وهذا الضريح له قصة؛ فقد جاء الآغا خان الثالث إلى أسوان فى الخمسينيات، ووقتها كان يعانى من الروماتيزم وآلام العظام، ولم يقدر الأطباء على مساعدته، فنصحه صديق له بزيارة أسوان.
وبالفعل جاء الآغا خان على كرسى متحرك وأحضروا له أعلم شيوخ النوبة بأمور الطب.. فنصحه بأن يدفن نصف جسده السفلى الرمال ٣ ساعات يوميًا. واستجاب الآغا خان للنصيحة، وبعد أسبوع عاد يسير على قدميه، وبعدها أصبح يأتى إلى أسوان كل شتاء، وبنى فيلا شهيرة هناك، وأقام مقبرة فى المكان الذى كان يعالج فيه، ودفن فيها بالفعل، وصارت ضريح آغا خان.
فى النهاية سيسجل التاريخ كريم الحسينى كقائد استثنائى ليس فقط فى الطائفة الإسماعيلية، بل على مستوى العالم، حيث جمع بين الروحانية والتنمية، وكرّس حياته لتحسين حياة الملايين من الناس، وتظل إنجازاته فى مجالات التعليم والحوار بين الثقافات شاهدًا على رؤيته الإنسانية المتقدمة.