اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٦ أيلول ٢٠٢٥
مرت علاقة المصريين بالنحت بمحطات متباينة اختلفت بحسب طبيعة العصر أبرزها تحريمه من قبل بعض الجماعات الدينية وآخرها تمثال جديد وضع قرب المتحف المصري الكبير وأثار كثيراً من الجدل
مرت علاقة المصريين بالنحت بفصول عدة، فمنذ أقدم العصور كانت منحوتات مصر القديمة عنواناً لحضارة عظيمة بقيت مستمرة آلاف السنين، ومع تعاقب العصور تباينت علاقة المصريين بالنحت صعوداً وهبوطاً، فشهدت فترات ازدهار، وأخرى تميزت بأفول الإبداع نسبياً في هذا الفن، وبين هذا وذاك بقي النحت حاضراً بصور مختلفة عند المتخصصين والعوام على السواء.
وحتى بعيداً من المتخصصين ارتبطت المنحوتات بالفن الشعبي بصور مختلفة، وأوجد لها المصريون علاقات وثيقة ببعض المناسبات والاحتفالات، مثل عروسة المولد في المولد النبوي، وتماثيل العذراء والقديسين في الاحتفالات المسيحية، والقلة الفخار في سبوع المولود، فالمنحوتات حاضرة في الفنون الشعبية التي يبدعها الناس بالفطرة في مجتمعاتهم المحلية البسيطة.
وعلى مدى أعوام طويلة زينت شوارع وميادين مصر تماثيل، سواء كانت لزعماء أو شخصيات شهيرة أثرت في تاريخ مصر، أو كانت معبرة عن رمز أو فكرة معينة، ومن أشهرها تمثال إبراهيم باشا، وتمثال طلعت باشا حرب، وتمثال سعد زغلول، ومن الكتاب والشعراء تماثيل نجيب محفوظ وأحمد شوقي وطه حسين، كما يعد تمثال نهضة مصر قرب جامعة القاهرة من أشهر تماثيل العاصمة، وتعتبر أسود قصر النيل على الكوبري الشهير من أشهر التماثيل التي يعرفها سكان القاهرة وزوارها، الأمر ذاته في كل المحافظات التي لا تخلو ميادينها من تماثيل لأعلام المحافظة من المشاهير والسياسيين.
وباعتبار أن تماثيل الشوارع والميادين تكون ظاهرة للعيان يشاهدها القاصي والداني فإنها أحياناً تثير الجدل والنقاشات، باعتبار أنها عمل يستهدف الجمهور العام بالأساس، وتتوجه إليه الأنظار، ففي الفترة الأخيرة حدثت سجالات ونقاشات حول تمثال مستوحى من الحضارة المصرية القديمة وضع في طريق مصر الإسكندرية الصحراوي قرب المتحف المصري الكبير المتوقع افتتاحه قريباً.
التمثال الذي نفذه الفنان ضياء عوض الأستاذ بكلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا أصبح حديث الناس الذين انبروا متخصصين وغير متخصصين في النقد الفني للتمثال وانتقاد التكوين والكتل والدمج بين الطابع المصري القديم والمعاصر ونقد المدرسة التكعيبية، وتقديم مقترحات لما كان يجب أن يحدث، وما كان يفضل أن يتبعه الفنان، وهل يتوافق وضع التمثال في هذا الموضع مع تصميمه أم أنه كان يفضل أن ينصب في موضع آخر يتناسب مع حجم التمثال وأبعاده الفنية، ضجت السوشيال ميديا بعدد ضخم من المنشورات التي تحلل وتفند، حتى إن البعض تندر بأن مصر أصبح بها 100 مليون ناقد فني.
الظاهرة السابقة اعتبرها البعض صحية ومفيدة، فأن يثير عمل فني الجدل ويدفع الناس إلى إبداء الرأي فهذا في حد ذاته نجاح، وإن دل فإنما يدل على أن الفن لا يزال حاضراً عند المصريين، بخاصة النحت، الذي يعتبر إحدى العلامات المضيئة للتاريخ المصري القديم وواحد من أهم السبل التي تعرفنا من خلالها إلى عظمة وبراعة الفن المصري القديم.
تطورت علاقة المصريين بالنحت، ومرت بمحطات مختلفة اختلفت بحسب طبيعة العصر، وكان لكل منها ما يميزها سواء في العصر القديم أو الحديث، ففي رأي الفنان سيد عبده سليم أستاذ النحت والعميد السابق لكلية التربية النوعية بجامعة كفر الشيخ 'كان النحت من أهم الفنون في مصر القديمة، وكان مسخراً لخدمة العقيدة، والمنحوتات الكبرى في المعابد وغيرها كانت بمثابة المشروعات القومية التي تتبناها الدولة، وتعمل فيها أعداد ضخمة، ولهذا كان الفن يحظى بتقدير كبير في هذه الحقبة، بنهاية عصر مصر القديمة تدهورت حال النحت، وبدأ العصر اليوناني الروماني الذي مزجت بعض منحوتاته بين الأسلوب المصري القديم الذي اعتاده الناس والطابع اليوناني الروماني، لاحقاً ومع انتشار المسيحية كان طراز الفن الطاغي عموماً يشبه الفن الشعبي'.
وفي رؤية أستاذ النحت فإنه 'مع العصر الإسلامي لم يكن النحت هو الفن السائد، إنما ظهرت أنماط فنية أخرى وبعض العصور الإسلامية في مصر مثل فترة الحكم العثماني تراجعت فيها الفنون عموماً، بسبب أن العثمانيين أرسلوا أمهر الفنانين والحرفيين المصريين إلى عاصمتهم للاستفادة منهم هناك، ولم يبدأ ظهور أعمال فنية ذات قيمة إلا بعد الحملة الفرنسية مع انتشار المستشرقين'. موضحاً 'مع بدايات القرن الـ20 كان لبعض أمراء الأسرة الحاكمة اهتمام بالفنون فأسس الأمير يوسف كمال مدرسة الفنون الجميلة وبدأت حركة فنية في كل فروع الفن ومن بينها النحت وظهر نحاتون عظماء من أمثال محمود مختار الذي جمع في أعماله بين الطراز المصري والروح الأوروبية، ظهرت في هذا العصر طفرة فنية في كل المجالات ومن بينها النحت وكان هناك تقدير لقيمة الفن حتى إن المصريين اكتتبوا لإنشاء تمثال نهضة مصر، والأعمال النحتية في الشوارع والميادين واحدة من عوامل رفع الذوق العام والعين تحتاج إلى رؤية الجماليات، لكن إسناد الأمر لغير أهله يجعلنا نشاهد أعمالاً دون المستوى تعتادها عين الناس مع الوقت حتى إنها لا تدرك أن هناك خللاً أو مشكلة، ومصر بها فنانون كبار وأجيال شابة تخرج أعمال على أعلى مستوى'.
شهد فن النحت بعض الأزمات في الفترات التي كان فيها سيطرة لأفكار بعض الجماعات الدينية التي حرمت النحت، وبدأت في بث هذه الأفكار بين الناس بخاصة في المناطق التي اتسع فيها نفوذها مثل بعض المناطق الريفية فحدثت عند البعض حال من عدم قبول النحت باعتبار ما جرى الترويج له من أن المنحوتات تشبه الأصنام وما إلى ذلك من الأفكار المتشددة.
لكن من المفارقات أن هذه الفترات شهدت ظهور نحاتين مبدعين وفنانين على مستوى متميز قدموا أعمالاً نحتية لا تزال تمثل قيمة عند التأريخ للنحت المصري في العصر الحديث.
يتفق الفنان سيد عبده سليم مع هذا الرأي، قائلاً 'عندما تخرجت في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية أواخر السبعينيات ورجعت إلى قريتي بمحافظة كفر الشيخ كان هناك حال من عدم التفاعل مع النحت بدرجة كبيرة، وعملت على كسر حاجز الصمت بين الناس والنحت بإقامة مسبك للبرونز اعتبر هو الأول من نوعه في المنطقة، وخرجت منه كثير من المنحوتات لي ولغيري من النحاتين، وبدأ فكر الناس يتغير تدريجاً، فبالأساس المصري ابن الفن، وهو يبتكر الفنون في كل مكان، وبأبسط الأشياء مثل الزخارف الموجودة على أبواب المنازل الريفية، وتزيين عربات بيع المأكولات في الشارع والجداريات التي يرسمها الناس في مناسبات معينة مثل الحج فالمصري محب للفن بالفطرة'.
للنحات سيد عبده سليم نحو 16 تمثالاً في ميادين ومواقع مختلفة في كل محافظات مصر إلا أن أحدها الذي يعد من الأشهر أثار أزمة في حينه يحكي عنه قائلاً 'عندما قمت بتنفيذ تمثال نجيب محفوظ القائم حالياً في ميدان سفنكس بمحافظة الجيزة كان هدفي من التصميم أن يوضع على الرصيف، وكأنه يمشي بين الناس ليتفاعلوا معه بصورة مباشرة، ويلتقطوا معه الصور، ويكون هناك علاقة مباشرة بينه وبين الناس، لم يتوافق هذا مع القائمين على المحافظة حينها وقرروا وضعه في ميدان الكيت كات، وكان في هذا الميدان مسجد كبير للجمعية الشرعية رفضوا رفضاً قاطعاً أن يوضع التمثال في هذا الموقع، بخاصة مع الموقف الذي يتخذونه من نجيب محفوظ، وأعتقد أن القائمين على اتخاذ القرار حينها آثروا السلامة، وقرروا وضع التمثال في ميدان سفنكس الذي لا يزال قائماً فيه حتى الآن'.
بعض السجالات التي تثور بين حين وآخر مع ظهور عمل نحتي جديد للناس تثير تساؤلاً عما إذا كان من المفترض أن يسير الفنان وراء رؤيته وإبداعه المجرد ومشروعه الفني الذي يتبناه، الذي قد لا يصل بالضرورة لذائقة الشخص العادي غير المتخصص، الذي غالباً لن يستوعب المدارس الفنية أو الأطر التي استند إليها الفنان في رؤيته للعمل، أم أنه في هذه الحال من الأفضل أن يقدم عملاً يتوافق مع الذائقة العامة للمجتمع المحلي الذي سيشاهد التمثال في ذهابه وإيابه بصورة يومية في حال كان التمثال سيوضع في الشارع أو في ميدان أو مكان عام.
وفي الوقت نفسه هل من المفترض أن يقتصر النقد لهذه الأعمال على أهل التخصص أم أنه ما دام عُرض العمل على الناس فمن الطبيعي أن يشاركوا في تقييم العمل حتى وإن كانوا غير متخصصين.
من وجهة نظر النحات عمر طوسون 'الفنان ليس دوره أن يسير وراء ذائقة الناس فالإبداع هو اختلاق شيء غير موجود ودور الفنان أن يأخذ المخاطرة وما يتبعها من قبول أو رفض، لكن لا يجب تحجيم الإبداع، لكن في حال إذا كان العمل يصنع خصيصاً للعرض العام مثل التماثيل التي توضع في الميادين على سبيل المثال فلا بد من مراعاة قيم المجتمع وطبيعة الموقع الذي سيوضع فيه التمثال واحترام العادات والتقاليد والثقافة فما يعرض لجمهور عام يختلف عما يعرض في الجاليريهات وقاعات العرض، وهذا في كل الفنون وليس فقط النحت فالأمر نفسه في السينما على سبيل المثال'.
وفي ما يتعلق بالأعمال النحتية الكبرى التي تعرض في مواقع جماهيرية يرى طوسون أن 'الأعمال القومية أو الضخمة أو التي تنفذ بغرض أن توضع في الميادين عادة تتم بأسلوبين في العالم كله إما الإسناد المباشر في حالات محدودة للفنانين الكبار في هذا المجتمع، وإما المسابقات التي تقدم اقتراحات متعددة تقيمها لجنة متخصصة، ويتم اختيار الأفضل، وأعتقد أننا نحتاج إلى أن نتوسع في هذا الأمر في مصر، بصورة عامة ظاهرة صحية أن يثير عمل فني الجدل وتحدث نقاشات حوله من متخصصين وغير متخصصين، فالنحت المصري لا يزال متميزاً، ولدينا فنانون يقدمون أعمالاً عالية الجودة معروضة في مصر وخارجها، فالأزمة لدينا ليست في عدم وجود الفنانين فما أراه هو أن لدينا فنانين ولكن ليس لدينا حركة فنية'.
وفي رأي الفنان عمر طوسون 'مصر سوق فنية كبيرة في كل مجالات الفنون، ولدينا أعداد كبيرة من الفنانين وقاعات العرض زادت، وانتشرت في الفترة الأخيرة، كما أصبح هناك كثير من المسابقات التي تستهدف الشباب في كل مجالات الفنون، ونتج من هذا أن هناك أعمالاً متميزة وأعمالاً تخاطب السوق ويهدف أصحابها وعارضوها إلى الربح في المقام الأول، لكن كثيراً من الأعمال الجيدة تتوه في وسط هذا الزحام، ولهذا لا بد من إبراز الأعمال الجيدة من النقاد، فالأزمة ليست في ما ينتجه الفنانون، وهو كثير ومميز، لكن في ما يراه الناس وفي كثير من الأحيان لا يعبر عن مستوى النحت المصري، ولذلك أي عمل جيد يعرض للناس يمثل إضافة'.
في عصرنا الحالي أصبحت السوشيال ميديا لاعباً فاعلاً في كل مجالات الحياة ووسيلة غير مسبوقة للانتشار في جميع المجالات، ومن بينها الفنية، ففي ما يتعلق بالنحت كلما يظهر عمل فني جديد في أي موقع جماهيري عام سواء كان جيداً أو سيئاً تحتدم المناقشات ويثور الجدل سواء بين المتخصصين أو عوام الناس، لهذا جانب إيجابي باعتباره يتيح للناس الاطلاع على الجديد دائماً وإثراء ثقافتهم البصرية إذا كان العمل جيداً، لكنه في الوقت نفسه يتسبب في انتشار كبير للأعمال الرديئة التي تظهر بين الحين والآخر.
وفق رؤية الفنانة شيماء درويش، مدرس النحت بكلية التربية الفنية جامعة حلوان، 'مع انتشار السوشيال ميديا فظهور أي تمثال رديء ينتشر انتشاراً كبيراً، ويجري تداوله بين الناس فيثير إحساساً بأن هناك أزمة في النحت، لكن على أرض الواقع هذه الأعمال الرديئة محدودة للغاية عند مقارنتها بمجمل الأعمال النحتية في مصر، لكن السوشيال ميديا دائماً ما تركز على السيئ، العمل الفني لا بد من أن يكون له أوجه عدة، ويثير مناقشات، فيمكن أن يتقبله البعض ولا يستسيغه آخرون، وينطبق هذا على المتخصصين والعوام وعلى النحت أو على أي نوع آخر من الفنون، والفن الجيد هو ما يبقى في النهاية ويتذكره الناس والمتخصصون، فيمكن أن يثير عمل وقت ظهوره ضجة كبيرة، ولا يبقى فنياً لأن مستواه الفني محدود'، فيما ترى أن 'هناك علاقة وطيدة بين المصريين والنحت في كل العصور، فقطاع كبير من الناس يزين منزله بمنحوتات بسيطة حتى ولو كانت ذات قيمة فنية بسيطة وفي الاحتفالات الشعبية مثل سبوع المولود كثيراً ما توزع منحوتات بسيطة اشتهر بها هذا الحدث، وفي كثير من المحافظات يوجد نحاتون بالفطرة يقدمون أعمالاً مستوحاة من بيئتهم، فالنحت مستمر في ثقافة المصريين، وفي الوقت نفسه التماثيل التي تزين الميادين منتشرة ومعظمها على مستوى عال وارتبط الناس بها على مدى الأعوام'.
مع نهاية كل عام دراسي وبالتواكب مع انتهاء طلاب كليات الفنون المختلفة من مشروعات تخرجهم تنتشر كثير من الصور ومقاطع الفيديو لأعمال شديدة الجودة نفذها الطلاب بمستويات يصل بعضها لأعمال المحترفين، ليثور تساؤل دائم عن لماذا لا تستغل هذه الأعمال؟ وأين يذهب هؤلاء الطلاب؟ ولماذا لا يشعر الناس بوجود مثل هذه المواهب؟
في رأي الفنانة شيماء درويش 'لا يزال هناك كثير من المواهب في مجال النحت تظهر بصورة مستمرة في كليات الفنون المختلفة، مصر دائماً غنية بالمواهب في كل المجالات والأعمال الجيدة موجودة ومستمرة، لكن قطاعاً كبيراً من هؤلاء الطلاب عندما يدخل لسوق العمل يتجه إلى الأعمال التي تحقق الربح أو تنفذ وفقاً لطلب عميل معين فلا تستغل المواهب بالقدر المناسب وتتوه وسط الأعمال التجارية'.وتوضح درويش 'التحدي الأكبر الذي قد يواجه فن النحت مستقبلاً هو دخول التكنولوجيا لهذا المجال، فهي وإن كانت قادرة على تسهيل واختصار بعض الخطوات فإنها في الوقت نفسه قد تساعد غير الموهوبين من النحاتين على تقديم أعمال تفوق مستواهم الحقيقي، ولا تناسب قدر موهبتهم، وهذا تحد كبير تواجهه كثير من الفنون حالياً لا فقط النحت'.