الدلالات السياسية العميقة لفوز زهران ممداني بانتخابات نيويورك

في الخامس من نوفمبر ٢٠٢٥، دوّى اسم زهران ممداني في أرجاء نيويورك كما لم يحدث منذ عقود. واستطاع نجل المهاجرين (والده إكاديمي أوغندي، ووالدته مخرجة من أصول هندية) البالغ من العمر ٣٤ عامًا، شق طريقه من صفوف الناشطين التقدميين إلى قمة السلطة المحلية، وانتزع منصب عمدة أكبر مدينة أمريكية بعد أن أطاح بالحاكم السابق أندرو كومو والمرشح الجمهوري كيرتس سليوا، ووصفت الانتخابات التي خاضها بأنها 'زلزال سياسي' أعاد رسم الخريطة الحزبية في الولايات المتحدة، وأطلق مرحلة جديدة من التحدي داخل الحزب الديمقراطي نفسه.

ووصفت شبكة سي بي إس نيوز نتائج الانتخابات بأنها 'اكتساح ديمقراطي في سباق مفصلي'، مؤكدة أن فوز ممداني لا يعكس فقط صعود التيار التقدمي، بل يثبت أن هذا التيار بات اليوم قوة جماهيرية قادرة على قلب المعادلات التقليدية من داخل المؤسسة الحزبية.

نهاية سلالة سياسية تقليدية وبداية عهد جديد

لم يتأخر ردّ أندرو كومو، الحاكم السابق والمرشح المستقل، في التعبير عن غضبه. فقد وصف خسارته بأنها 'حرب أهلية داخل الحزب الديمقراطي'، مشيرًا إلى الانقسام العميق بين الجناحين المعتدل والتقدمي. وفي تصريحات لصحيفة ذي سيتي، قال: 'ما حدث ليس انتخابات عادية، بل انقلاب على المؤسسة الحزبية التي خدمتُها لعقود'.

أما زهران ممداني، فقد اختار أن يجعل من خطاب النصر إعلانًا صريحًا عن سقوط 'السلالة السياسية'. وقف وسط آلاف المؤيدين في ساحة يونيون سكوير، وقال بصوت حازم: 'لقد أنهينا عهد الامتيازات السياسية، وأعدنا السلطة إلى مالكيها الأصليين: الشعب. هذا الفوز ليس لي، بل لكل من حُرم صوته في السابق'. وأكد أن فوزه يمثل تفويضًا شعبيًا لإطلاق مرحلة جديدة من السياسات الجذرية في الإسكان، والعدالة الاجتماعية، ومحاسبة الشرطة.

تحوّل ثقافي يتجاوز السياسة

يرى الخبراء أن فوز ممداني لا يمكن اختزاله في إطار حزبي أو انتخابي، بل يتجاوز ذلك إلى تحوّل ثقافي عميق. البروفيسور مايكل ساندل، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة هارفارد، قال في حديث لصحيفة يو إس إيه توداي: 'هذا الفوز يعكس أزمة ثقة عميقة في الديمقراطية التمثيلية التقليدية. الناس لم يعودوا يثقون بالسياسيين الذين يتحدثون بلغة المؤسسات، بل يبحثون عن وجوه حقيقية تتحدث بلغتهم وتشاركهم غضبهم وأحلامهم'.

وأضاف ساندل أن ممداني 'لا يمثل فقط تيارًا يساريًا جديدًا، بل تحوّلًا ثقافيًا في فهم السلطة، إذ باتت تُمنح لمن يملك الجرأة على تحدي النظام لا لمن يجيد التعايش معه'.

عاصفة في الصحافة الإسرائيلية

الجدل حول ممداني لم يبقَ داخل حدود الولايات المتحدة، بل امتد إلى الصحافة الإسرائيلية التي شنّت عليه هجومًا حادًا. صحيفة جيروزالم بوست نشرت مقالًا بعنوان 'فوز ممداني يعني أن معاداة السامية باتت قابلة للانتخاب'، واتهمته بتبني مواقف 'معادية لإسرائيل' و'متعاطفة مع الإرهاب'، لكن والد عمدة نيويورك الجديد صرح من قبل بأن ما يتصاعد باضطراد هو معاداة الصهيونية.

الكاتب الإسرائيلي دانييل جورديس كتب: 'ممداني لا يخفي دعمه لحركة المقاطعة بي دي إس، ولا يتردد في وصف إسرائيل بدولة فصل عنصري. فوزه يثير قلقًا حقيقيًا في أوساط الجالية اليهودية داخل الولايات المتحدة وخارجها'، ولكن منظمة 'يهود من أجل العدالة' ردّت سريعًا ببيان ناري قالت فيه: 'اتهام ممداني بمعاداة السامية ليس إلا محاولة لتكميم الصوت التقدمي الذي يدافع عن العدالة في فلسطين'. وأكدت أن انتقاد سياسات إسرائيل 'لا يساوي الكراهية الدينية'.

انقسام داخل الجالية اليهودية

بحسب تقارير نشرتها واشنطن بوست ووكالة أسوشيتد برس، أحدث فوز ممداني انقسامًا غير مسبوق داخل الجالية اليهودية في نيويورك، وهي الأكبر خارج إسرائيل. أكثر من ألف حاخام وقّعوا رسالة مفتوحة عبّروا فيها عن 'قلقهم العميق' من مواقفه تجاه إسرائيل، معتبرين أنها 'تُهدد أمن وكرامة اليهود في المدينة'.

في المقابل، رحّب جيل جديد من اليهود التقدميين بوصول ممداني إلى منصب العمدة، معتبرين أن 'الجرأة في نقد إسرائيل باتت جزءًا من الوعي الأخلاقي الجديد في أمريكا'. صحيفة ذا جارديان البريطانية رأت أن هذا الانقسام يعكس 'تراجع هيمنة اللوبي التقليدي المؤيد لإسرائيل أمام جيلٍ يهودي شاب يرى في الدفاع عن الفلسطينيين امتدادًا للقيم الإنسانية التي نشأ عليها'.

'نيويورك ليست للبيع'.. خطاب النصر يهزّ القاعة

وفي خطاب النصر الذي وصفته صحيفة ذي سيتي بأنه 'تاريخي وصادق إلى حد الجرأة'، قال ممداني أمام آلاف المؤيدين: 'نيويورك ليست للبيع، ولا يجب أن تكون ملعبًا للأثرياء على حساب من يكدّون لتأمين لقمة العيش'. ودعا إلى إعادة توزيع الثروة، وتوسيع الخدمات العامة، ومحاسبة الشرطة التي 'تتصرف أحيانًا كدولة داخل الدولة'.

وعلقت الناشطة الحقوقية ليندا صرصور قائلة: 'ممداني أعاد تعريف وظيفة العمدة. لم يعد مجرد مدير للمدينة، بل أصبح ضميرها السياسي وصوت المهمشين فيها'.

عمدة تقدمي بلمسة واقعية سياسية

ينتمي زهران ممداني إلى تيار الاشتراكية الديمقراطية، الذي يرفع شعارات العدالة الاقتصادية والاجتماعية، والرعاية الصحية الشاملة، والتعليم المجاني. لكنه، بخلاف الصورة النمطية عن اليسار الثوري، أظهر قدرة لافتة على بناء تحالفات واقعية مع نقابات العمال، ومنظمات المجتمع المدني، وحتى بعض رجال الأعمال التقدميين.

وفي حديث لصحيفة إيكونوميك تايمز الهندية، قال: 'أنا لا أؤمن بالشعارات المجردة. الإصلاح الحقيقي هو الذي يتحقق على الأرض ويتحوّل إلى سياسات ملموسة يشعر بها الناس في حياتهم اليومية'.

هل يمتد تأثيره إلى واشنطن؟

ويرى محللون أن ما حدث في نيويورك قد يكون بداية تحوّل وطني داخل الحزب الديمقراطي. صحيفة يو إس إيه توداي أشارت إلى أن فوز ممداني 'قد يشعل موجة جديدة من المرشحين التقدميين في انتخابات ٢٠٢٦ للكونغرس وربما في السباق الرئاسي المقبل'، في ظل صعود جيلٍ شاب وأقلياتٍ تشعر أن المؤسسة الحزبية لم تعد تعبّر عنها.

وقال الاستراتيجي الحزبي جوناثان كوهين: 'ما جرى في نيويورك هو اختبار لمزاج وطني جديد. فالجمهور الأمريكي لم يعد يرى في دعم إسرائيل أو الشركات الكبرى معيارًا للولاء الوطني، بل في الدفاع عن العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية'.

اللوبي الصهيوني أمام واقع جديد

منذ عقود، كان دعم إسرائيل شرطًا شبه مقدس في السياسة الأمريكية، خصوصًا في نيويورك التي تضم واحدة من أقوى شبكات النفوذ المالي والإعلامي المؤيدة لتل أبيب. لكن فوز ممداني كسر هذه القاعدة. فهو أول عمدة في تاريخ المدينة يرفض علنًا 'استخدام المال العام لدعم الاحتلال أو تبرير جرائم الحرب'، كما قال في مناظرة انتخابية.

هذا التحوّل يضع اللوبي الصهيوني أمام معضلة استراتيجية، إذ لم تعد الورقة الإسرائيلية تضمن التأثير السياسي الذي تمتعت به سابقًا. ويشير مراقبون إلى أن ممداني قد يفتح الباب أمام جيل جديد من الساسة الأمريكيين الذين يرون في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين موقفًا أخلاقيًا لا سياسيًا.

ما بعد ممداني.. نيويورك في عهد الجرأة

فوز زهران ممداني لم يكن مجرد تبديل في الأسماء، بل دشّن بداية عهد جديد في طريقة التفكير السياسي داخل مدينة نيويورك. لقد تحدّث بلسان الناس العاديين، وواجه اللوبيات المالية، وانتقد علنًا سياسات إسرائيل، دون أن يخسر ثقة الشارع أو يتراجع أمام الضغوط. وفي مدينة طالما مثّلت قلب الرأسمالية العالمية، نجح في تحويل شعار 'العدالة أولًا' إلى عنوان المرحلة الجديدة.

ويرى مراقبون أن سياساته الجذرية قد تصطدم بجدار الواقع الاقتصادي، وبشبكات النفوذ التي تتحكم في مفاصل التمويل والإعلام داخل المدينة. فإعادة توزيع الثروة، وتوسيع الخدمات العامة، ومحاسبة الشرطة، ليست مجرد شعارات انتخابية، بل معارك مؤسسية تتطلب صبرًا سياسيًا، وتحالفات مدروسة، وقدرة على المناورة داخل أروقة السلطة.

ومع ذلك، يؤكد محللون أن ممداني يمتلك أدوات المواجهة. فهو لا يكتفي بالخطاب الثوري، بل يجيد بناء التحالفات مع النقابات، والمجتمع المدني، وحتى بعض رجال الأعمال التقدميين. كما أنه يتقن فن التواصل الجماهيري، ويستثمر في سردية سياسية جديدة تربط بين العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، بعيدًا عن لغة الامتيازات والصفقات.

صحيفة واشنطن بوست وصفت فوزه بأنه 'لحظة مفصلية في تاريخ المدينة'، مشيرة إلى أن ممداني 'لا يطرح شعارات فقط، بل يقدم سياسات قابلة للتنفيذ، ويعيد تعريف دور العمدة كقائد أخلاقي لا مجرد إداري محلي'.

وفي مدينة طالما مثّلت قلب الرأسمالية العالمية، نجح ممداني في تحويل شعار 'العدالة أولًا' إلى عنوان المرحلة الجديدة. وبينما يترقّب خصومه أول اختبار حقيقي لقدرته على الحكم، يراهن أنصاره على أنه سيحوّل الزخم الشعبي إلى إصلاحات ملموسة، وأن نيويورك ستدخل عهدًا جديدًا من الجرأة السياسية، حيث لم يعد التوافق مع المؤسسة هو معيار النجاح، بل القدرة على تحدّيها، ومخاطبة الناس بلغتهم، والدفاع عن قضاياهم دون مواربة.