اخبار مصر
موقع كل يوم -الرئيس نيوز
نشر بتاريخ: ٣١ تشرين الأول ٢٠٢٥
في مشهد يعكس هشاشة التوازنات الجيوسياسية بين أكبر اقتصادين في العالم، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن 'صفقة كبرى' مع نظيره الصيني شي جين بينج خلال قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC) في بوسان، كوريا الجنوبية، نهاية أكتوبر ٢٠٢٥. وصف ترامب اللقاء بأنه 'مذهل'، مانحًا إياه تقييمًا '١٢ من ١٠'، في محاولة واضحة لتصوير الاتفاق كنصر تفاوضي داخلي، كما نقلت صحيفة نيويورك تايمز.
لكن خلف هذا الحماس، تكشف تفاصيل الاتفاق عن هدنة مؤقتة أكثر منها اختراقًا استراتيجيًا. فقد وافقت الصين على تعليق القيود المفروضة على تصدير المعادن الأرضية النادرة لمدة عام، وهي عناصر حيوية لصناعات التكنولوجيا والدفاع الأمريكية، بينما خفضت واشنطن الرسوم الجمركية على بعض الواردات الصينية، لا سيما تلك المرتبطة بمشتقات الفنتانيل، من ٢٠٪ إلى ١٠٪. كما تعهدت بكين باستئناف شراء فول الصويا الأمريكي، في خطوة تهدف إلى تهدئة المزارعين الأمريكيين المتضررين من الحرب التجارية، وفقًا لتقرير نشرته شبكة بلومبرج.
غير أن الاتفاق لم يتطرق إلى القضايا الجوهرية التي فجّرت النزاع التجاري في المقام الأول، مثل حماية الملكية الفكرية، ونقل التكنولوجيا القسري، وهيمنة الصين على سلاسل التوريد العالمية. كما أن غياب جدول زمني واضح أو آلية تنفيذية يثير الشكوك حول جدية الالتزام من الطرفين، وهو ما أشار إليه تحليل نشرته مجلة فورين بوليسي، التي وصفت الصفقة بأنها 'تراجع تكتيكي أكثر منه اختراق حقيقي'.
في المقابل، بدا الرئيس شي جين بينج أكثر تحفظًا في تصريحاته، مفضلًا التركيز على دور بلاده كـ'شريك موثوق في التجارة الحرة'، في وقت كان فيه ترامب يحتفل بالهالوين في واشنطن. هذا التباين في الخطاب يعكس تحولًا في الديناميكيات: فبينما تسعى بكين إلى ترسيخ صورتها كقوة مسؤولة في النظام العالمي، تبدو واشنطن متخبطة بين التصعيد والتراجع، ما يضعف من مصداقيتها أمام الحلفاء والخصوم على حد سواء، بحسب صحيفة واشنطن بوست.
ويشير تقرير نشرته فايننشال تايمز إلى أن الصين، رغم موافقتها على تعليق القيود، لم تتخلَّ عن ورقة المعادن النادرة، بل استخدمتها كأداة ضغط لإجبار واشنطن على التراجع دون تقديم تنازلات استراتيجية. فبكين تدرك تمامًا أن هيمنتها على هذه الموارد تمنحها نفوذًا لا يُستهان به في أي مفاوضات مستقبلية.
أما ترامب، فإن إعلانه 'الصفقة الكبرى' يأتي في توقيت حساس داخليًا، حيث يواجه الرئيس الأمريكي ضغوطًا سياسية واقتصادية متزايدة، من بينها الإغلاق الحكومي، وتراجع شعبيته في استطلاعات الرأي. لذا، فإن تصوير الاتفاق كـ'نصر تفاوضي' يخدم أهدافًا انتخابية أكثر منه إنجازًا دبلوماسيًا حقيقيًا، كما أشار تقرير لمجلة ذا أتلانتيك، التي ربطت بين توقيت الإعلان وحاجة ترامب إلى إنجاز خارجي يعزز موقفه الداخلي.
لكن هذا النهج يثير قلق حلفاء واشنطن في آسيا وأوروبا، الذين يرون في تقلبات السياسة الأمريكية تهديدًا لاستقرار النظام التجاري العالمي. كما أن غياب الشفافية حول تفاصيل الاتفاق يعزز الشكوك بشأن مدى استدامته، خاصة في ظل سجل ترامب وشي في التراجع عن التزامات سابقة متى ما تغيرت الظروف، وفقًا لتحليل نشرته مجلة إيكونوميست.
وفي الوقت الذي غاب فيه ترامب عن الجلسات الرئيسية لقمة APEC، استغل شي الفرصة ليعزز من حضور بلاده كقائد بديل للنظام التجاري العالمي. فقد عقد اجتماعات ثنائية مع قادة كندا واليابان وتايلاند، مؤكدًا على التزام الصين بتعزيز سلاسل التوريد وتخفيف الحواجز التجارية، في رسالة ضمنية موجهة إلى واشنطن مفادها أن العالم لا ينتظر أحدًا، كما نقلت وكالة رويترز.
لكن الهدنة الحالية، رغم أهميتها في تهدئة الأسواق مؤقتًا، لا تمثل نهاية للصراع الاقتصادي بين العملاقين. بل هي أقرب إلى 'وقف إطلاق نار تكتيكي' يتيح للطرفين إعادة التموضع، دون أن يعالج جذور الأزمة. فالمواجهة بين واشنطن وبكين لم تعد مجرد خلاف تجاري، بل صراع على النفوذ العالمي، تتداخل فيه الجغرافيا السياسية بالتكنولوجيا والطاقة والهيمنة الاقتصادية، بحسب تحليل نشره مركز كارنيغي للدراسات الدولية.
مقارنة مع الاتفاقات السابقة: تراجع أم إعادة تموضع؟
عند مقارنة هذه الهدنة باتفاق المرحلة الأولى الذي أبرمه ترامب مع الصين في يناير ٢٠٢٠، يتضح أن الاتفاق الحالي أقل طموحًا من حيث البنود الملزمة. ففي اتفاق ٢٠٢٠، التزمت الصين بشراء منتجات أمريكية بقيمة ٢٠٠ مليار دولار، وتعهدت بتحسين حماية الملكية الفكرية، وهي نقاط لم تُذكر في صفقة ٢٠٢٥. كما أن الاتفاق السابق تضمن آلية تسوية نزاعات واضحة، بينما يغيب هذا العنصر تمامًا في الاتفاق الجديد، كما أوضحت صحيفة وول ستريت جورنال.
من جهة أخرى، يرى بعض المحللين في مركز ستراتفور أن الصفقة الحالية تعكس واقعية جديدة في إدارة ترامب، إذ بات يدرك أن المواجهة المفتوحة مع الصين تضر بالاقتصاد الأمريكي أكثر مما تحقق مكاسب سياسية. ومع ذلك، فإن غياب الالتزامات الصارمة يجعل الاتفاق عرضة للانهيار في أي لحظة، خاصة إذا ما تغيرت الظروف الداخلية في أي من البلدين.
ورجح عدد من الخبراء أن 'الصفقة الكبرى' التي أعلنها ترامب ليست سوى هدنة مؤقتة تخفي تراجعًا تكتيكيًا أمام صبر صيني بدأ ينفد. وبينما تحاول بكين ترسيخ موقعها كقوة مسؤولة، تواصل واشنطن اللعب على حافة التوتر، في مشهد يعكس تحولًا عميقًا في موازين القوة العالمية.


































