اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٠ أيلول ٢٠٢٥
صغار المودعين في رحلة للبحث عن بدائل تقي أموالهم خطر التآكل وسط تحديات وضغوط
خرج الرجل بعصاه يتلمس طريقه بخطى أثقلها التعب صوب باب البنك مغادراً بعد محادثة قصيرة مع موظف الاستقبال، وقد تبدلت ملامح الوجه وتبدت الحيرة والارتباك جليين فيما العزم معقود على إخراج ما تبقى من 'تحويشة العمر' صوب وعاء ادخاري آخر بعدما ذهبت عن أسعار الفائدة ما كانت عليه من الجاذبية طوال الأعوام الأخيرة في مصر.
كغيره من صغار المودعين، لم يسر الحاج وجيه شرف، الستيني المثقل بأوجاع المرض والتضخم وفواتيرهما المؤجلة، بقرار خفض البنك المركزي المصري أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض للمرة الثالثة عام 2025، بواقع 200 نقطة أساس في اجتماع لجنة السياسة النقدية الأخير في أغسطس (آب) الماضي، فالقرار ينضم لقرارين سابقين مماثلين بخفض الفائدة بإجمال 5.25 في المئة، ويلقي بتبعات غير سارة على تلك الفئة من ذوي المدخرات المتواضعة في بنوك مصر.
لكن ثمة من استقبل هذا القرار بحفاوة بالغة، إذ يخدم خفض الفائدة فئة المستثمرين والمقترضين وأصحاب المشروعات متناهية الصغر، عبر جعله المال رخيصاً عبر الهبوط بكلفة الاقتراض، وهو ما يتوقع أن يحفز الإنتاج ويدعم الأنشطة الصناعية والتصديرية والخدمية، إلى جانب خفض أعباء فاتورة الاقتراض عن كاهل الموازنة العامة للدولة، بما يوفره كل خفض بـ100 نقطة أساس من تقليص لعجز موازنة البلاد بما يراوح ما بين 75 و80 مليار جنيه (1.56 و1.66 مليار دولار).
ومع ذلك سيعني القرار الأخير أن العوائد على مدخرات وجيه التي تناهز 300 ألف جنيه (6023 دولاراً)، هي جل ما يملكه الرجل في أحد البنوك الحكومية بالبلاد، ستفقد نحو 15750 جنيهاً (327.31 دولار)، والفقد هنا مرشح للزيادة مع التكهنات بمزيد من الخفض في أسعار الفائدة بحلول نهاية العام الحالي.
في الاجتماع الأخير، خفض 'المركزي المصري' أسعار العائد الأساسية بواقع 200 نقطة أساس، ليصل سعرا عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسة للبنك المركزي إلى 22 و23 و22.5 في المئة، على الترتيب، وذلك بعد خفض 225 نقطة أساس في اجتماع أبريل (نيسان) و100 نقطة أساس في اجتماع مايو (أيار) من العام الحالي.
وأمام جاذبية الفائدة المرتفعة كانت الشهادات والودائع في بنوك مصر ذات شعبية واسعة، بما تخلقه من أرباح تعين آلاف الأسر في البلاد على مقاومة خطر تآكل الجنيه وتغول التضخم، خصوصاً مع انطلاق ماراثون أسعار الفائدة المرتفعة بنحو 1900 نقطة أساس في الفترة ما بين مارس (آذار) 2022 حتى مارس 2024، قبل أن تتقلص الفائدة وصولاً إلى المستويات الحالية.
على مقربة من البنوك، كانت أسواق الذهب في البلاد وجهة مثالية لتدفقات الأموال في الآونة الأخيرة، فالاتجاه صوب خفض 'الفيدرالي الأميركي' أسعار الفائدة خلف أسعاراً مرتفعة للأونصة عالمياً، مما انعكس بدوره على السوق المحلية التي لامس فيها غرام الذهب من العيار 21 مستوى 5 آلاف جنيه (103.91 دولار) للمرة الأولى.
كانت حركة تدفق الأموال على الصاغة في البلاد لافتة لانتباه محمود الرفاعي، أحد تجار الذهب، الذي يرى أن المعدن الأصفر يلمع مع صعوده المحلي تزامناً مع الارتفاع العالمي التاريخي في أسعاره، حتى إن تراجع سعر صرف الدولار أمام الجنيه قبل أيام إلى ما دون الـ48 جنيهاً للمرة الأولى منذ أكثر من عام، بدعم من الأموال الساخنة لم يؤثر في سوق الذهب.
ويعتقد الرفاعي في حديثه إلى 'اندبندنت عربية' أن الصعود اللافت في سعر الأونصة عالمياً كان حافزاً للشراء لدى كثيرين، وسط تقارير عالمية تؤشر إلى ضعف الدولار مع قرب تيسير السياسة النقدية الأميركية والاتجاه صوب خفض الفائدة في الولايات المتحدة.
مؤسسات عالمية كبرى مثل بنك 'يو بي أس' و'أي أن زد' رفعت توقعاتها لمتوسط سعر الذهب المستهدف بنهاية العام إلى حدود 3800 دولار للأونصة، مع ترجيحات بأن يقترب المعدن الأصفر من حاجز 4 آلاف دولار بحلول 2026 إذا استمرت سياسات التيسير النقدي وتفاقمت الاضطرابات الجيوسياسية.
وأمام مكاسب سوق المعدن النفيس المغرية، كان وجيه يراقب باهتمام ما تولده بضع غرامات الذهب من المكاسب في وقت قصير، وهو ما استرعى اهتماماً واسعاً وإقبالاً متزايداً بحسب المتحدث لـ'اندبندنت عربية' مشيراً إلى أن تجربته المصرفية مع حساب العائد اليومي غير مجزية في ظل تراجع العائد إلى مستوى 9.75 في المئة من 20 في المئة قبل أقل من عامين.
لكن الرجل ليس وحده من يفكر بتلك العقلية، فهناك آخرون يستشعرون بمرارة خفض الفائدة على جنيهاتهم القليلة في البلاد، ومن بينهم مصطفى السعيد، موظف حكومي في منتصف العقد الثالث من العمر، الذي يمتلك نحو 170 ألف جنيه (3053 دولاراً) في أحد البنوك الخاصة يدخرها في شهادة ادخار متغيرة العائد.
ظل عائد الشهادة التي يملكها السعيد في تناقص مستمر منذ بداية العام، وعلى رغم أن هذا الصنف من الشهادات متغيرة العائد كان خيار الرجل منذ البداية، فإنه لم يألف وتيرة الخفض المتواصلة، فثمة أوعية ادخارية أخرى أكثر جذباً للعوائد، كما هي الحال في بعض الأسهم التي حققت طفرات صعودية ببورصة مصر، بحسب حديثه إلى 'اندبندنت عربية'.
وأسواق المال وجهة أخرى محتملة لتدفقات صغار المودعين، في ظل ما توفره من ربحية مرتفعة بعض خفض أسعار الفائدة، فالعلاقة العكسية بين كليهما تجعل من الأسهم من بين الرابحين بعد قرار 'المركزي المصري'، وسط توقعات بارتفاع نشاط الاستثمار في بورصة مصر خلال الفترة المقبلة.
لكن أكثر ما يخشاه المتحدث، كما يوضح، التقديرات بمواصلة 'المركزي المصري' خفض أسعار الفائدة بحلول منتصف عام 2026 في الأقل، مثلما تتحدث عن ذلك تقارير اقتصادية عدة، وسط خطط لـ'المركزي' بخفض التضخم إلى مستوى سبعة في المئة (± 2 نقطة مئوية) في الربع الرابع من العام المقبل، وهو ما يعني مزيداً من العوائد الأقل على ماله المدخر.
ليس هذا كل شيء، فنزف الفائدة يتوقع استمراره، بحسب تقديرات اقتصاديين من بينهم رئيس قسم البحوث في شركة 'عربية أون لاين' مصطفى شفيع الذي يرى أن لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري، قد تواصل خفض الفائدة بإجمال 700 نقطة أساس في العام الحالي، مشيراً إلى أن خطوة الخفض مرجحة من قبل اللجنة في اجتماعيها في نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول) المقبل.
وجهة نظر شفيع تتوافق مع ما ذهب إليه بنك 'دويتشه' الألماني من أن 'المركزي المصري' قد يمضي نحو خفض يصل إلى 725 نقطة أساس بحلول نهاية العام، في حال واصل التضخم التراجع، وهو أيضاً ما يتشابه وتقديرات بنك 'غولدمان ساكس' التي ترى أن الربع الأخير من العام قد يحمل وحده خفضاً بـ400 نقطة أساس في أسعار الفائدة، مدفوعاً بتعافي الوضع الاقتصادي وتراجع الأخطار الجيوسياسية.
وخفف التضخم قبضته في مصر، إذ تشير تقديرات 'المركزي' إلى أن معدله العام للحضر على أساس سنوي تراجع صوب 12 في أغسطس (آب) الماضي، من 13.9 في المئة في يوليو (تموز) الماضي، فيما سجل معدل التغير الشهري في الرقم القياسي الأساس لأسعار المستهلكين، الذي يعده البنك، 0.1 في المئة في أغسطس، مقابل سالب 0.3 في المئة في يوليو السابق عليه، ومقابل 0.9 في المئة في أغسطس 2024.
ويذهب البنك المركزي، في بيان لجنة السياسة النقدية الأخير، إلى أن التضخم سيواصل مساره النزولي ليراوح ما بين 14 و15 في المئة في المتوسط خلال عام 2025، بعدما انخفض بواقع 1.3 نقطة مئوية عن الربع السابق ليصل إلى 15.2 في المئة في الربع الثاني من العام الحالي.
ومع غياب الخبرة الاستثمارية، يتوقع أن يصبح أصحاب الودائع الصغيرة على رأس المضارين من قرار لجنة السياسة النقدية بخفض الفائدة، بحسب ما تشير إليه المتخصصة المصرفية سهر الدماطي، فالودائع والشهادات والمنتجات المصرفية الادخارية حظيت بأموال هؤلاء لأعوام.
لكن الدماطي ترى أن خسارة هؤلاء إثر خفض العائد على المدخرات ستظل محدودة بالنظر إلى تباطؤ التضخم في مصر، خلال الأشهر الأخيرة، ووسط توقعات بمواصلة المسار النزولي في أسعار المستهلك، مما يعوض الفارق بين الأمرين.
وثمة أمر آخر تلفت المتحدثة الانتباه إليه، إذ تعتقد أن العائد على أدوات الدين الحكومية (أذون وسندات الخزانة) لا يزال مغرياً للمستثمرين الأجانب خصوصاً مع المقارنة بالدولار الأميركي، وتستدل على وجهة النظر تلك بأن قرارات 'المركزي المصري' السابقة بالخفض لم تؤثر سلباً في استثمارات المستثمرين في أدوات الدين المقومة بالجنيه المصري.
ومع كل تلك التقديرات والتوقعات المتباينة، يبقى صغار المودعين في مصر عالقين بين سندان تآكل العوائد على مدخراتهم ومطرقة البحث عن بدائل أكثر أماناً وربحية، فهل يغامرون بالاتجاه نحو الذهب الذي لا يهدأ بريقه، أم يلجأون إلى بورصة تضج بالمفاجآت، أم يكتفون بما تجود به شهادات الادخار في زمن الفائدة المتراجعة؟ سؤال معلق على قرارات 'المركزي' المقبلة، وقدرة المصريين على التوفيق بين قلق الغد وحاجة اليوم.