اخبار اليمن
موقع كل يوم -الأمناء نت
نشر بتاريخ: ٢٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
تعيش الثورات في العالم لحظات تحوّل دقيقة بين صعودها الهادر نحو التغيير، وبين تآكل بنيتها بفعل العوامل الذاتية والموضوعية. وفي التجربة الجنوبية، يبدو هذا المسار واضحًا، حيث تتقاطع معركة التحرير مع تحديات بناء التنظيم السياسي القادر على الحفاظ على زخم الثورة وتحويله إلى مشروع دولة.
الثورة ليست مجرد لحظة غضب شعبي، بل مسار طويل من النضال والتضحيات، لا يكتمل إلا بتحقيق أهدافه النهائية. لكن الخطر الأكبر على أي ثورة لا يكمن فقط في العدو الخارجي، بل في حالة 'اللا دولة' و'اللا ثورة' التي تقود إلى تشتيت القيادات، وتآكل التنظيم من الداخل، وتحويل الرفاق إلى خصوم سياسيين أو حتى أعداء، عندما تغيب الرؤية وتضعف أدوات المراجعة والتصحيح.
إن إعادة الهيكلة المتكررة في أي تنظيم ثوري، دون معالجة عميقة لحالة التهميش أو غياب الشفافية، لا تعني التطوير، بل قد تتحول إلى أداة للتفكك والانقسام. إذ يشعر كثير من القيادات الميدانية والمناضلين بأنهم خارج دائرة القرار، وبأن المناصب أصبحت بلا طعم ولا قيمة، خاصة عندما يصل إليها أشخاص بلا تاريخ نضالي أو كفاءة، في مرحلة ما تزال أقرب إلى 'الثورية' منها إلى الدولة.
هذا الانزلاق يفقد التنظيم هيبته، ويُحوّل بنيته من أداة قيادة إلى عبء ثقيل، ويخلق فجوة بين القيادة والقاعدة. ومع غياب مراجعة نقدية حقيقية، تتكرر الأخطاء، وتتآكل الشرعية الثورية من داخلها، ويضيع الهدف الأساسي: استعادة الدولة الجنوبية وتحقيق تطلعات الشعب.
في الحالة الجنوبية، نحن بحاجة اليوم إلى مراجعة شجاعة، تقرأ الواقع دون مكابرة، وتعمل على تصحيح مسار التنظيم كأداة لتحقيق الهدف، لا كغاية بحد ذاتها. إعادة الاعتبار للمناضلين الحقيقيين، ودمجهم في المشهد، والاستفادة من الطاقات المؤمنة بالمشروع الوطني الجنوبي، أولوية وطنية قبل أن تكون قرارًا تنظيميًا.
لكن، وللأسف، كل عملية إعادة هيكلة في المشهد الجنوبي غالبًا ما تترافق مع انشقاقات، بدلاً من أن تؤسس لوحدة الصف. وذلك بسبب غياب الفهم المشترك لطبيعة المرحلة، وافتقاد التنظيم لآليات التواصل الداخلي، مما يفتح الباب أمام الشعور بالتهميش وتراكم الاحتقان، ليتحول إلى صراع داخلي بدلاً من تركيز الجهد على العدو الحقيقي.
ووسط هذا المشهد، يتحول التنظيم السياسي إلى كيان هش، غير قادر على صناعة القرار أو التأثير في الواقع، لا يملك الفاعلية ولا القدرة على تقديم حلول اقتصادية أو اجتماعية. ويتراجع عن موقع المبادرة إلى موقع التبرير، فيما يزداد الضغط الشعبي وتُطرح الأسئلة بمرارة: إلى أين نحن ذاهبون؟ ومن يقودنا فعليًا؟
في هذا السياق، يصبح استمرار الفعل الثوري ضرورة، وليس ترفًا. فكل تراجع في الأداء السياسي أو الميداني، يُضعف القضية أمام الإقليم والعالم. علينا أن ندرك أن العالم لا يتعامل مع الشعارات، بل مع الواقع. ومتى ما شعر المجتمع الدولي بضعفنا أو تراجعنا، سيعيد ترتيب أولوياته ومصالحه بعيدًا عنا.
إن فرض واقع جنوبي قوي على الأرض، هو الوسيلة الوحيدة لجعل العالم يصغي لنا. حتى لو تظاهر الإقليم والدول الكبرى بعدم الرغبة، فإن منطق المصالح سيجبرهم على التعاطي مع ما نفرضه من توازن جديد. لكن ذلك لن يحدث إلا عندما نملك القوة والوحدة والقدرة على الفعل، لا عندما نغرق في الصراعات الهامشية ونُدار بنفس الأدوات البالية.
الأمر لا يحتاج فقط إلى الإرادة، بل إلى فهم استراتيجي للموقع الذي نقف فيه اليوم. نحن بين عدو يستعد لمعركة جديدة، وشركاء يديرون المشهد بخيوط خفية لإبقاء الجنوب في حالة اللا سلم واللا حرب. يرفضون أن تُحسم الحرب مع الحوثي، ويرفضون في ذات الوقت السلام معه، ويمنعون الجنوب من استعادة دولته، رغم أن الشعب الجنوبي هو من حرر أرضه ويديرها بقواته.
هنا تكمن الخطورة. فالمخطط الإقليمي يسعى لخلق وضع هش، لا هو دولة ولا هو ثورة، ليُبقي الجميع تحت السيطرة. وبدلاً من دعم الحلول الحاسمة، يتم تدوير الصراع إلى أجل غير مسمى، بينما يُنهك المواطن في الجنوب، وتُستنزف قواه في معارك يومية من أجل الخبز والكهرباء والماء.
الحل لا يكون بالصمت أو الاكتفاء بالنقد، بل في العودة إلى الميدان، وصناعة الفعل، واستنهاض كل القوى الحية. الوقت لا يحتمل التردد، والقضية لن تنتظر. فإما أن نعيد ترتيب بيتنا الجنوبي على أسس وطنية عادلة، تشمل الجميع دون إقصاء أو تهميش، أو نخسر الفرصة التاريخية التي اقتربنا منها كثيرًا.
على المجلس الانتقالي أن يُبادر، وبسرعة، لقيادة عملية تصحيح داخلية حقيقية، تواكب المتغيرات، وتُعيد الثقة للمناضلين، وتفتح الباب لشراكة واسعة مع كل القوى الجنوبية المؤمنة بالاستقلال.
نحن اليوم بحاجة إلى تنظيم فاعل، لا شكلي. إلى قيادة منتجة، لا مكررة. إلى وحدة ميدانية وشعبية، لا مجرد بيانات سياسية. الثورة مستمرة، لكن الحفاظ على جذوتها مرهون بقدرتنا على إدارتها بوعي، وبالقدرة على التحول من الثورة إلى الدولة، دون أن نفقد الهدف أو نفقد بعضنا.













































