في قاعة تكتنز من الذكريات ما يُعسر سرده، اجتمع وجدان السياسة والتاريخ، بالتأم الفريقان الاستقلاليان للوحدة والتعادلية بمجلسي النواب والمستشارين اليوم الأربعاء، في لقاء فكري ـ برلماني غير عابر، كانت مناسبته تقديم كتاب “صوت الشعب القوي في البرلمان”، للمناضل الوطني، النقيب والوزير الأسبق، الأستاذ مولاي امحمد الخليفة.

بدا واضحا أن القاعة المغربية للبرلمان لا تستضيف أمسية عادية، بل تفتح دفاترها لتحتفي بسيرة رجل استثنائي، أجمع المتدخلون، الذين من بينهم فتح الله ولعلو، ومولاي عبد العزيز العلوي الحافظي، والمصطفى الرميد، وسعيد أمسكان، ونبيلة منيب، وسعد العلمي، على أنه جمع في مساره بين الحكمة السياسية، والنزاهة الأخلاقية، وصدق الكلمة، وجرأة الموقف، والتزام رجل الدولة الذي خدم الوطن من مواقع متعددة بكفاءة ووفاء.

مواقف الرجال

عندما تناول مولاي امحمد الخليفة الكلمة، في ختام اللقاء، أن موقع البرلماني داخل الأغلبية أو المعارضة لا ينبغي أن يؤثر على وفائه لواجباته وتعاقده مع الشعب، مستحضرا في هذا السياق تجربته الشخصية قائلا إنه دخل إلى البرلمان في وقت كان فيه حزب الاستقلال ضمن الأغلبية الحكومية، ومع ذلك التزم بأداء واجبه كاملا، مشددا على أن المواقف السياسية النبيلة لا تُبنى على التموضع الظرفي، بل على المبادئ الراسخة التي تظل ثابتة سواء كان البرلماني في الحكومة أو في صفوف المعارضة، قائلا، ' المواقف تنبثق من المبادئ كيفما كانت المواقع'.

ولم يخفي الخليفة سعادته لسماعه إعلان رئيس مجلس النواب، راشيد الطالبي العلمي، نيته الشروع في كتابة مذكراته، معتبرا ذلك خطوة محفزة نحو توثيق التجارب السياسية والبرلمانية، مؤكدا أن كتابة المذكرات قد تبدو مهمة صعبة في ظاهرها، غير أن الإرادة الصادقة كفيلة بأن تدفع الفاعلين السياسيين ممن عاشوا تجارب غنية، إلى تقاسمها مع الباحثين والأجيال القادمة، مبرزا أن ما ينقص البحث العلمي في المغرب هو توفر المادة الخام المستقاة من شهادات مباشرة ومصادر أولية.

أما عن عنوان الكتاب فلم يقترحه الكاتب ولم يفكر فيه، وإنما نحت “اسْمَه نضال شبيبة حزبنا في مدينتي مدينة مراكش قبل ولادته وخروجه للوجود بسنين عديدة..! هكذا كان قدره في حمل اسمه قبل ميلاده”، مشيرا أنه في إحدى الحملات الانتخابية البرلمانية تفاجأ بشبيبة الحزب وقد صَنَعَتْ مجسما لرمز الحزب رمز الميزان في كفته اليمنى مولاي امحمد الخليفة، وفي الكفة اليسرى مكتوب صوت الشعب القوي في البرلمان.

خلال افتتاحه وتسييره للقاء، قال المستشار البرلماني والقيادي الاستقلالي عبد القادر الكيحل إن كتاب 'صوت الشعب القوي في البرلمان' ليس مجرد سجل برلماني، ولا حكاية عابرة في دروب السياسة، بل هو صوت خرج من رحم الشعب، متوشحا بمواقف الرجال، وموثقا لمعركة الكلمة الحرة وسط صمت كاد يبتلع الحلم، موضحا أن هذا الكتاب يحمل بين طياته ترانيم نضال، وأصداء مداخلات سُطرت تحت قبة البرلمان، حين كان للكلمة ثقل السيف، وللصمت ثمن يُدفع من كرامة الوطن.

وأضاف أن الأستاذ مولاي امحمد الخليفة لم يكتب ليخلّد اسمه، بل ليزيح الغبار عن لحظات سكنها الشرف، وليقول للآتين من بعده: 'هكذا كان النبض حين صدحنا بالحق في وجه العاصفة'، داعيا إلى قراءة الكتاب بعيون تعشق الحقيقة، وسماعه بآذان تستوعب أنين أمة، وهدير شعب، وصدى رجال آمنوا أن الوطن يُبنى بالصبر والمواقف لا بالشعارات.

وتابع قائلا، 'إن مولاي امحمد الخليفة اسم حين يُذكر، تستيقظ في الذاكرة صور النقاء السياسي، والصدق الوطني، والموقف الذي لا تحكمه المصلحة، بل تمليه الكرامة، معتبرا إياه من القامات التي لا تُقاس بالمناصب ولا يُحيط بها ضوء الكاميرات، بل يُشرق أثرها في الوجدان، كما تشرق الشمس على الجبال الصامدة'.

مرجع للأجيال

من جانبه أكد رئيس مجلس النواب، راشيد الطالبي العلمي، في مستهل مداخلته، أن هذا اللقاء يشكل لحظة التقاء خاصة حول أحد الإخوة الذين شاركوا زملاءهم المسار السياسي والممارسة البرلمانية والروح الأخوية، سواء داخل حزب الاستقلال أو الفريق البرلماني، مضيفا أن الحاضرين لا يلتقون فقط لتقديم كتاب جديد، بل للاحتفاء بأحد الفاعلين البارزين الذين بصموا ذاكرة العمل البرلماني في المغرب، بالحضور والعطاء والبذل، والمساهمة الفعلية في بناء المؤسسات الوطنية وتعزيز الثقافة السياسية والممارسة الديمقراطية.

وأشار إلى أن اللقاء، بغض النظر عن طابعه الاحتفائي، يسلط الضوء على قيمة الذاكرة في المسار التاريخي للأمة المغربية، وعلى أهمية ربط الجذور بالآفاق، وتعميق الوعي الوطني الذي دشّنته الحركة الوطنية منذ بداياتها في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، عبر التحام بين بطل التحرير الملك الراحل محمد الخامس ورموز الوطنية المغربية، واستمر هذا الوعي بتلاحق أجيال الكفاءات الفاعلة في عهد الملك الحسن الثاني، ويستمر اليوم تحت قيادة الملك محمد السادس، في إطار من التراكم والتكامل بين الجهود الوطنية، وتفاعل الإرادات الخيرة من مختلف الحساسيات السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية.

وشدد الطالبي العلمي على أن مولاي امحمد الخليفة كان له حضور متميز، وإسهام بارز في التراكم السياسي والتشريعي الذي يعتز به المغرب اليوم، معتبرا أن هذا الإسهام يضعه في مصاف كبار قادة العمل البرلماني من مختلف المشارب، ممن ساهموا بشكل ملموس في تطوير النموذج البرلماني المغربي، الذي أصبح محط تقدير في الساحة البرلمانية الجهوية، الإقليمية والقارية، ويُشار إليه في الأدبيات الدولية باعتباره نموذجا مرجعيا يحظى بالاحترام.

وأضاف أن ما تحقق من تطور في هذا النموذج المغربي، ما كان له أن يتم لولا الروح الوطنية العالية، والالتحام الصادق بين العرش والشعب، ولولا وجود رجال ونساء أدركوا قيمة العمل التراكمي، وحرصوا على الأداء المتواصل في مختلف المحطات الوطنية والمنتديات البرلمانية، داخل المغرب وخارجه، دون كلل أو ملل. وضمن هؤلاء، يبرز الأستاذ مولاي امحمد الخليفة بما أبان عنه من حرص على التوثيق والنشر وكتابة المذكرات.

واعتبر رئيس مجلس النواب أن كتاب 'صوت الشعب القوي في البرلمان' يمثل نموذجا ملموسا لهذا الحرص، ومرجعا يتيح للأجيال الجديدة إمكانيات المعرفة التاريخية، ويسهم في توفير المادة الأولية الضرورية لكتابة، أو إعادة كتابة، تاريخ المغرب السياسي والتشريعي، والاطلاع على خبرات وعطاءات وتضحيات الأجيال السابقة.

ديوان البرلمان

وعبّر وزير العدل السابق، المصطفى الرميد، عن سعادته الكبيرة بالمشاركة في احتفال جماعي بشخصية وصفها بالنادرة، مستشهدا بقول الشاعر القديم: 'وكن رجلا إذا مرّوا بعده يقولون مرّ وهذا الأثر'، مشيرا إلى أن مولاي امحمد الخليفة، ابن مدينة مراكش الحمراء، هو واحد من بين قلة من الرجال والنساء الذين مروا من المؤسسة البرلمانية، وتركوا فيها أثرا عميقا يبرر هذا اللقاء ويمنحه رمزيته، مؤكدا أن الأجيال القادمة ستذكر هذا المؤلف الموسوم بـ'صوت الشعب القوي في البرلمان'.

وأوضح الرميد أن الكتاب جمع أغلب التدخلات البرلمانية التي قام بها الخليفة، وكل ما له علاقة بمهمته كنائب ورئيس فريق برلماني متميز، في مبادرة تكرّس ريادته السياسية المتفردة، وتسجّل حضوره اللافت في الحياة السياسية، من خلال فصاحته وجرأته النادرة، وصفات قيادية قلّ نظيرها، مما يجعله نموذجا يُحتذى.

وختم الرميد مداخلته بالقول إن العرب قالت قديما 'الشعر ديوان العرب'، واليوم، فإن كتاب 'صوت الشعب القوي في البرلمان' هو بحق ديوان البرلمان، بل وديوان السياسة المغربية خلال مرحلة الثمانينيات والتسعينيات، لما يؤرخ له من دور محوري للمعارضة البرلمانية، وكيفية تعاطيها مع قضايا الناس والوطن.

من جانبه أكد الأمين العام لحزب الاستقلال، نزار بركة، أن كتاب 'صوت الشعب القوي في البرلمان' يوثق لتجربة قوية في المعارضة البرلمانية، من خلال إبراز تدخلات الأستاذ مولاي امحمد الخليفة كرئيس للفريق الاستقلالي، خاصة أثناء مناقشة قوانين المالية والملفات السياسية الكبرى، مبيِّنا قدرة الرجل على الربط بين الموقف الحزبي والانشغال الوطني.

وأشار إلى أن الكتاب يكشف عن منهج سياسي واضح في ممارسة الوظيفة الانتدابية، يقوم على الاستقلالية والشجاعة الفكرية، مع اعتماد التحليل العميق للأحداث، والنقد البنّاء للسياسات العمومية، والاحتكام المستمر إلى المصلحة العليا للوطن.

واعتبر بركة أن هذا الإصدار يمثل مرجعا مهما للأجيال القادمة، ومصدرا خصبا في الذاكرة البرلمانية الوطنية، لما يتضمنه من وثائق وخطب وشهادات وتدخلات تُؤرخ لمرحلة حاسمة من تاريخ المغرب السياسي والتشريعي.

وشدد على أن الأوطان يصنعها رجال ونساء مشهود لهم بالوطنية الصادقة، والتضحية والبذل والعطاء، من الأوفياء المخلصين لوطنهم وثوابت أمتهم، والذين رفعوا صوت الشعب القوي في البرلمان وأدوا الأمانة، ونهضوا بالمسؤولية في مختلف المحطات، ومن طينة هؤلاء الأستاذ مولاي امحمد الخليفة.

واعتبر أن هذا اللقاء لا يقتصر على تقديم كتاب جديد، بل يشكل لحظة للتوقف عند تجربة غنية ومتعددة بصمت الحياة السياسية والبرلمانية والحزبية في المغرب، وأغنت الأدبيات النيابية بمواقف راسخة، ومقاربات جريئة، ومرافعات قوية داخل المؤسسة التشريعية، كانت الوطنية والصدق والديمقراطية والدفاع عن قضايا المواطنين، هاجسها الأول ومحورها الأساس.

تفرد الكتاب

فيما أكد رئيس الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية بمجلس النواب، علال العمراوي، أن الأستاذ مولاي امحمد الخليفة سيظل عنوانا بارزا في المرحلة الذهبية من الحياة البرلمانية، سواء كنائب برلماني خلال فترات نيابية متعددة، أو كرئيس للفريق الاستقلالي، وهي المهمة التي حملت مواقف مسؤولة، ملتزمة، وبنّاءة، ذات بعد سياسي وطني متميز.

وأوضح أن رئاسة الخليفة للفريق تميزت بحضور قوي في أشغال مجلس النواب، سواء على مستوى اللجان النيابية الدائمة أو الجلسات العامة، حيث شكلت تدخلاته المعبرة والحاسمة نموذجا في الترافع والدفاع عن قضايا الوطن والمواطنين. واستحضر في هذا السياق مداخلته المتميزة سنة 1990، خلال مناقشة ملتمس الرقابة الذي تقدمت به فرق المعارضة، وما حملته من دلالات عميقة في الممارسة البرلمانية.

وأشار العمراوي إلى أن الكتاب الذي يُقدم في هذا اللقاء يشكل شهادة حقيقية على عصره، متمنيا للأستاذ مولاي امحمد الخليفة دوام الصحة والعافية، ومزيدا من التوفيق والسداد في مساره النضالي والفكري والثقافي.

نائب رئيس مجلس المستشارين، أحمد اخشيشن، أكد أن أهمية كتاب 'صوت الشعب القوي في البرلمان' تكمن في كونه شهادة حية على عمل برلماني زاخر بالعبر والمواقف، صادرة عن فاعل قلّ نظيره، اجتمعت فيه خصال رجل الدولة، ورجل السياسة، ورجل القانون، مبرزا أن المؤلف يستمد قيمته من كونه يوثق تجربة داخلية خاضها صاحبه عن دراية ومعايشة، ومن منبر تحمّله بشجاعة الرأي، وصدق الكلمة، وبلاغة الحجة، فجعل من صوته صدى لصوت الأمة.

وأوضح اخشيشن أن تفرد هذا الكتاب ينبع من مضمونه الغني، الذي يجمع بين المعايشة المباشرة والتحليل المنهجي الدقيق، ويعكس وعيا سياسيا ومؤسساتيا نابعا من تجربة نضالية صادقة. كما اعتبر أن المؤلف يمنح القارئ مفاتيح أساسية لفهم تحولات العمل البرلماني، مشيرا إلى أن فرادته تبدأ من عنوانه نفسه، 'صوت الشعب القوي في البرلمان'، وهو عنوان يتجاوز حدود الاجتهاد اللغوي لأنه، كما أوضح الكاتب، وُلد من قلب الفعل السياسي، ونبع من رحم التجربة الحية.

ويشار إلى حفل تقديم كتاب 'صوت الشعب القوي في البرلمان' عرف حضورا وازنا، عكس مكانة المؤلف وقيمة التجربة التي يوثقها العمل، وضم الحضور شخصيات وازنة من مختلف الهيئات والمؤسسات، إلى جانب عدد من أعضاء البرلمان بغرفتيه، وفاعلين حكوميين سابقين، ومسؤولين إداريين، وممثلين عن الهيئات السياسية والفكرية. كما عرف اللقاء مشاركة مكثفة من قيادات برلمانية سابقة وحالية، ونخب حزبية، وشخصيات وطنية بارزة ساهمت في مسار العمل السياسي والتشريعي بالمغرب.