يلاحظ المتابع لتغطية قناة الجزيرة القطرية وموقعها الإلكتروني “الجزيرة نت” لتطورات الوضع الميداني في اليمن، خصوصًا ما يجري في المحافظات الجنوبية والشرقية منذ مطلع ديسمبر الجاري، أن هذه التغطية تختلف عمّا اعتاد عليه خلال السنوات القليلة الماضية. ومن أبرز ملامح هذا التغير أن الشبكة القطرية، التي تمثل واحدة من أقوى أدوات القوة الناعمة في السياسة الخارجية لدولة قطر، باتت تتعامل مع المجلس الانتقالي الجنوبي بمسماه الرسمي، دون وصفه بكلمة “ميليشيات”، ودون ربطه بالدعم الإقليمي، ممثلًا بدولة الإمارات العربية المتحدة، التي ساهمت في رعايته ماليًا وسياسيًا وإعلاميًا منذ تأسيسه في مايو 2017.

ولا يمكن اعتبار هذا التغير مجرد توصيف لغوي أو التزام بخط تحريري جديد بدعوى الحداثة أو التطور المهني، بقدر ما يبدو انعكاسًا مباشرًا لتحسّن العلاقات بين الدوحة وأبوظبي، وهو ما انعكس بدوره على تهدئة إعلامية واضحة بين الجانبين، حيث لم نعد نرى هجومًا أو تصعيدًا أو تبادل اتهامات في الإعلام الرسمي أو الإعلام الممول، سواء في الملف اليمني أو في ملفات أخرى. فمنذ تحسّن العلاقات بعد انتهاء الأزمة الدبلوماسية التي نشبت بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى عام 2017، واستمرار هذا التحسّن عبر تبادل الزيارات بين قيادات البلدين وتطوير مجالات التعاون، انعكس هذا التحول بوضوح على المستوى الإعلامي.

ففي سنوات الأزمة الخليجية، كان الإعلام القطري، سواء قناة الجزيرة أو الصحف والمنصات القطرية الأخرى، يصف المجلس الانتقالي الجنوبي بالميليشيات، وهو توصيف يستند إلى حقيقة أن المجلس ليس حزبًا سياسيًا، ولا منظمة مجتمع مدني مرخصة من الجهات الحكومية ذات العلاقة كوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل أو لجنة شؤون الأحزاب. وهو، في أحسن الأحوال، تشكيل مسلح غير نظامي. وحتى بعد انضمامه إلى الحكومة بموجب اتفاق الرياض، الذي رعته المملكة العربية السعودية وحليفتها بعد المواجهات العسكرية بين المجلس من جهة والحكومة من جهة أخرى، والتي أسفرت عن سيطرة قوات المجلس على العاصمة المؤقتة عدن ومدن مجاورة، ثم لاحقًا عن حصوله على اعتراف ونفوذ أكبر ضمن السلطة المنبثقة عن مشاورات الرياض في أبريل 2022، والتي أفرزت ما يُعرف بمجلس القيادة الرئاسي، الذي يشارك فيه المجلس الانتقالي بثلاثة أعضاء، فإن ذلك لم يغير من حقيقة وضعه العسكري.

فالمجلس الانتقالي، رغم مشاركته السياسية، لا يزال يرفض دمج قواته العسكرية بموجب اتفاق الرياض ومشاورات الرياض، كما يرفض دمج أجهزته الأمنية والاستخباراتية ضمن جهاز أمن الدولة الذي جرى تشكيله. وبالتالي، ووفقًا للتوصيف الواقعي، فإن المجلس لا يزال يملك تشكيلات مسلحة غير نظامية، وإن كان سياسيًا جزءًا من السلطة اليمنية المعترف بها دوليًا، ممثلة بمجلس القيادة الرئاسي.

وعليه، فإن تغيير مسمّى التعاطي مع المجلس الانتقالي في تغطية قناة الجزيرة لا يدل على تحوّل جوهري في طبيعته أو موقعه، ولا يعني أنه أصبح فجأة طرفًا سياسيًا مدنيًا طبيعيًا، بل هو نتاج مباشر لتحسّن العلاقات بين الدوحة وأبوظبي. ولطالما كان الإعلام، في منطقتنا، أداة بيد مموليه وأجنداتهم، فكيف إذا كان هذا الممول طرفًا فاعلًا في الصراع نفسه؟

وقد كانت قناة الجزيرة، في مراحل سابقة، تفسح مساحات لتغطيات ومحتوى كان يُنظر إليه من قبل أنصار وقيادات المجلس الانتقالي على أنه معادٍ للمجلس، بل وذهب بعضهم إلى حد اتهامها بالتحريض على الجنوب انطلاقاً من سردية المجلس التي تقدّمه كممثل للجنوب، رغم أنه غير منتخب، وإنما استند في ادعائه إلى “التفويض الشعبي”، الذي هو عبارة عن مظاهرات لأنصاره، ثم القول إن الشعب فوّض القيادة. كما اتُهمت الجزيرة من قبل خبراء ومراقبين يمنيين بأنها توظف تغطية الانقسامات اليمنية في إطار تصفية حسابات سياسية بين الدوحة وجيرانها الخليجيين على الساحة اليمنية. وعندما يحدث تصالح، تتغير الأجندة الإعلامية، والعكس صحيح. وفي جميع الأحوال، يدفع اليمنيون الثمن، من تماسكهم الاجتماعي، ومن حالة الوئام، ومن فرص السلام الممكنة.

وبالعودة إلى ملامح هذا التغير في السياسة التحريرية للجزيرة وموقعها الإلكتروني، نلاحظ أنها لم تعد تربط المجلس الانتقالي بصفته أداة ممولة ومدعومة سياسيًا وعسكريًا من الإمارات، بل باتت تتعامل معه كطرف يمني مستقل بمشروع سياسي خاص، مع إغفال دور الداعم ومصالحه وأجنداته، وفي مقدمتها مشروع تقسيم اليمن، والطموحات الجيوسياسية المرتبطة بموقع اليمن الاستراتيجي، من مضيق باب المندب، مرورًا بجزيرة ميون، وخليج عدن، وصولًا إلى المحيط الهندي وأرخبيل سقطرى، الذي تتقاطع عنده أطماع القوى الإقليمية والدولية، وتؤدي فيه أطراف وظيفية، مثل الإمارات، أدوارًا واضحة.

هذه التغطية المجردة تنطوي على قدر كبير من التظليل، من خلال نقل صورة مبتورة للسياق، وإغفال تأثير الداعمين واللاعبين الإقليميين، وعلى رأسهم الإمارات، في تحريك المجلس الانتقالي لفرض خطوات انفصالية، بثقة وطمأنينة نابعة من ركونه إلى هذا الدعم. وهو ما يتعارض مع الثوابت الوطنية للشعب اليمني، وفي مقدمتها الوحدة الوطنية. فالمجلس الانتقالي يشكل اليوم أكبر تهديد محلي للوحدة، بما يمتلكه من قوة عسكرية تفرض أمرًا واقعًا، وبما يرتبط به من علاقات خارجية مع داعم لا يخفي أطماعه في اليمن.

ويتساءل اليمنيون، كما يظهر جليًا في نقاشاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، عن سر هذا التحوّل في خطاب الجزيرة، وكيف يمكن للإعلام أن يتلاعب بالحقائق على الأرض خدمة لحسابات سياسية، وعلى حساب مصلحة شعب بأكمله. وإذا كانت الجزيرة ملتزمة بالتهدئة الإعلامية الناتجة عن تحسن العلاقات بين الدول، فلا ينبغي أن يكون ذلك على حساب الحقيقة، ولا على حساب اليمنيين. فالمطلوب من أي وسيلة إعلامية مهنية هو أن تنقل الواقع كما هو، وأن تصف اللاعبين في اليمن، محليين كانوا أو خارجيين، بدقة وموضوعية، كما كانت تفعل سابقًا، التزامًا بقواعد العمل المهني، وإلا فإنها تخاطر بخسارة ثقة جمهورها اليمني، الذي يدفع ثمن هذا العبث بأرضه وحياته ومعيشته وأمنه.

والمعطى الثالث في هذا التغير أن الجزيرة باتت تتعامل مع المجلس الانتقالي كما لو كان تنظيمًا سياسيًا عاديًا، أو طرفًا لا يتبنى أجندة انفصالية، في تجاهل واضح لمشروعه الانفصالي الذي يدور حوله ويتحرك من أجله ليلًا ونهارًا. وهو ما يشكل صدمة لدى الجمهور اليمني، الذي كان ينظر إلى الجزيرة باعتبارها منصة تتمتع بسقف عالٍ من الحرية، وتعبّر عن مصالح الشعوب. غير أن هذه التغطية غير المهنية تمارس خداعًا وتضليلًا، وتقدم صورة مشوهة تخفي الحقائق، وتُظهر الفاعلين وكأنهم يتحركون انطلاقًا من مصالح مشروعة، في حين أنهم يفتقدون إلى السند الدستوري والقانوني، ويمسون الثوابت الوطنية والحريات العامة.

إن الجزيرة، بهذه التغطية، تخسر ما تبقى من رصيدها لدى الجمهور اليمني. ولا شك أن خسارة السمعة وفقدان الثقة بالنسبة لأي وسيلة إعلامية مسألة بالغة الخطورة، ولا يمكن تعويضها بسهولة، لأنها تمسّ جوهر الإرث الذي راكمته عبر سنوات التأسيس. وكلما اتجهت أكثر نحو إعلام مُسيّس ومُزيّف، ابتعدت عن الصورة التي قدمت نفسها بها كمنصة تعبّر عن الشعوب وتتمتع بمساحات واسعة من الحرية.

*يمن مونيتور