اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ٢٤ تموز ٢٠٢٥
ابراهيم سبتي*
تعتبر الاعمال السردية التي تتخذ من الحقب التاريخية الطويلة موضوعاً رئيسياً لأحداثها ، من الأعمال الروائية الشائكة و المعقدة التي تتطلب براعة وذاكرة يقظة من الكاتب في حياكة وبناء الأحداث والتعامل مع كثرة الشخصيات التي تتعاقب على المراحل الزمنية طيلة وقوع احداث الرواية. و تُعد رواية( كؤوس السنين ) للكاتب العراقي حسن عبد الرزاق سرداً يضمّ حبكة متراكبة وملتبسة من التقاطعات النفسية والاجتماعية والسياسية، تتجسد بمجملها في شخصية الراوي ( عظيم عبد الكريم ) والذي كان المحور الرئيسي في الرواية حين عبّر عن مأزق ومحنة الانسان وازمته في مواجهة تقلبات المجتمع الدائمة وغير المستقرة. فهو لا يكاد يتخلص من ازمة ما حتى يقع في اخرى اقوى واشد تنال من جسده وعزيمته وارادته في المواصلة. وهكذا ظلت معضلته تنمو وتكبر لأكثر من نصف قرن او اكثر من سبعة وخمسين سنة تحديداً ، فكان فيها رهناً للتغيرات السياسية التي اخذت قسطاً كبيرا من حياته اضافة الى محنته مع فضة عشيقة القلب والتفكير حين غادرت مضارب الغجر الى الجنوب وهي في حضن زوجها جبار. من هنا كان لابد لهذا الشاب اليافع ( في الصف الخامس الاعدادي ) ان يتصرف وفق اهوائه وما يأمره به قلبه بان يترك بغداد بعد ان سرق مبلغ مئتي دينار من ابيه التاجر البغدادي القاسي المنحدر من رمل البادية الساخن الجاف ، ليلحق بمعشوقته دون مبالاة لأي ظروف قد تصادفه وهو في مقتبل العمر « من أي طين الهي صنع هذا الجسد ؟» ص7. فهو اتخذ قراره وانتهى كل شيء.. تتخذ الرواية من الاحداث المتسارعة والعنيفة احياناً ، سجلاً تاريخياً متسلسلاً ومدوناً لكل ما جرى منذ سقوط الملكية وقيام الجمهورية مرورا بتفاصيل الوضع السياسي المرتبك ومرحلة تأسيس الاحزاب وما رافقها من عنف واستلاب للحريات في ازمان متشابكة تتلاحق للوصول الى حقب اخرى مرتبكة اكثر ومضطربة ، حتى وصول البطل الراوي الى ديترويت الاميركية لاجئاً ، ومن ثم العيش وحيدا فيها وقد كبر بالسن وهو معاق يتحرك على كرسي يتأمل الطيور والناس ولا يستطيع فعل شيء وقد فشل في كل شيء في بلده « احدق في الحياة اليومية المتكررة من على كرسي متحرك ولا اجني من التحديق سوى السكائر التي لا تطفيء نار اللوم الجهنمية» ص 162. لقد كانت حياته عبارة عن مأزق للإنسان في مواجهة سلطة المجتمع القوية ، وعنف الأب المتسلط الذي تزوج من امرأة تكره الابن ، وقسوة الانظمة السياسية في سياق اجتماعي واخلاقي مضطرب.
لعنوان الرواية عتبة تقوم على وظيفة رمزية دالّة على بؤس وخيبة وألم وهو استعارة لجأ اليها الروائي حسن عبد الرزاق باعتبار الكأس ليس اداة للشرب حسب ، بل تعبير عن مدى الانكسارات والابتلاءات والمعاناة التي واجهت الراوي ( عظيم عبد الكريم ) في كل سنة مرّت بها حياته بأيامها المريرة. وكل سنة منها حسب تفسير العنوان، بأنها تمثل كأساً مراً علقماً يضطر ان يشربه بطل الرواية كي يواصل العيش في دائرة من الخيبات والظلم والفشل. فيتراكم جبل الاسى والخذلان افقدته رغد العيش والشعور بإنسانيته. بهذا التوظيف الفني و الرمزي ، تقوم الرواية بوصفها سيرة تحطيم وابادة واتلاف للحلم والأمل داخل النفس.. وكتمهيد نجد ان السرد فيها يأخذ مساراً اخر عندما يجرد البطل الراوي من الوعي فيدخل الى مهاو سحيقة وهو يسير خلف شهواته وملذاته ، التي ستنمو طيلة صفحات السرد فيغدو انسانا مختلفاً جعلت منه اسيراً ذليلاً لنزوته وما لاقاه من عنف سياسي واجتماعي في مقتبل عمره. اضافة الى اختلافات في طريقة عيشه حين يهجر عائلته البغدادية ويذهب بعيداً عنها الى الجنوب. فيترك بغداد الى مدينة الناصرية التي كانت الرديف والمُعادل للشخصية الروائية الاولى فمثلت دوراً كبيراً في حضورها داخل السرد. ركّزت الرواية على الاوضاع السياسية المتغيرة والمضطربة وما آلت اليه امور الراوي على المستوى الشخصي ، فكان يدخل السجون ويتلقى ضربات وركلات رجال الشرطة والامن وهو يغوص في اجواء مدينة الناصرية التي تأكل وتشرب مع السياسة ومصائبها وخاصة في حقبة الستينيات اللاحقة لثورة الزعيم التي بدلت كل شيء.. كانت شخصيات الرواية تضج بكل ما تتصف به في تمثيل دوا مكملاً للمعاناة في حياة الراوي ( عظيم عبد الكريم ) فكانت تلعب ادوارا مكملة لبعضها. فبناء الرواية لا يستمر او يتكاتف مع عناصره دون وجود شخصيات تدير العمل المكتوب والذي يقف خلفه الكاتب كالمخرج المسرحي حين يدير شخوصه على الورق ويصنع سرداً متكاملاً فنياً لافتاً. ولكن تلك الشخصيات تحاول ان تتوزع خصائصها بين السلب والايجاب ، بين الفهم لطبيعة دورها في الرواية وبين دورها المضاد للنظم المتعاقبة. وتلعب تلك الصراعات دورا له اهمية الحكاية المكتوبة من قبل الروائي الذي تتصارع في دواخله تلك الرؤى فيحولها الى كلام سردي مكتوب بلغة فنية بالغة الاعتناء.
ففضة هي التي ساقته نحو حياة اخرى لم يكن يحلم بها مع دخول آخرين في طريق حياته مثل جبار زوج فضة ، والضابط سامي الباحث عن المتعة المحرمة مع شقيقة جبار ولاحقاُ اراد تكرار الشيء نفسه مع فضة نفسها ، ثم جعفر جواد الذي يستبدل اقنعته مع كل هبّة سياسية جديدة ، والشاب الوسيم خالد شريف القومي وفهيمة الطماعة ، وبشير بن عازر وامه زكية داود وعبد الكريم متعب والده القاسي ، والشاعر حسين المعقد والمعلم ياسر المهداد ، وسحر او ما يطلق عليها بريجيت ، وزهرة المعيدية بائعة الحليب ، وبشار عامل المقهى وكاظم الأشرم صاحب مقهى العمال ، وفهيمة الطمّاعة ، وشخصيات اخرى كانت تبدأ مع مشواره في حياته المليئة بالخيبات وتتلاشى مع اختفائه من المشهد. كان محور الرواية هو التحولات العنيفة للسياسة فتجبر من يهتم بها على الدخول في عواصف عاتية غير آمنة. فمثلت تحولات الحياة ذاتها من خلال تغير التاريخ بين زمن وزمن آخر. وهذا التاريخ ما يلبت ان يصبح عنواناً لمرحلة اخرى وهكذا تكون تلك التحولات الجذرية مؤثرة على ثبات الراوي البطل (عظيم ) ولم يملك ارادة البقاء قوياً تجاه تلك العواصف التي تُهدّم كل كل شيء في طريقها بحجج واهية للتغير وتحسين الاحوال. فعندما تُكتب الرواية ومن ثم تصدر ، فإنها قد تضيف شيئاً فنياً لافتاً على مستوى اللغة او السرد او الشكل عامة. وثمة امور كثيرة تكتشف بعد الانتهاء من كتابتها اولها الاقناع او ما نسميه اقتراب اللغة من الحدث وهو سؤال الكاتب لنفسه حين يشرع بالكتابة. لذا كان على الروائي او كاتب الرواية ان يظهر قدرته وينشر امكانياته ليراها الكل بوضوح. في غمار ( كؤوس السنين ) كانت الأحداث ظاهرة في معنى السرد وشكّلت جزءا مهما من التاريخ المعاصر.
ويتأتى ذلك الوضوح من عدة عوامل اهمها هو الاسلوب الذي يكتب به السرد الروائي باللغة الناعمة المقبولة. ومؤكد ان القارئ الذكي والحاذق وصافي الذهن والحصيف ، سيفضّل السرد المفتوح على الوضوح والبساطة والفهم. وهذا من اهداف الاسلوب الناجح في السرد الروائي بان يجعل القارئ او الناقد او المتابع كما في رواية الكاتب حسن عبد الرزاق، يستغرق في القراءة حتى السطور الاخيرة من الرواية ويتفاعل معها من خلال لغتها الهادئة. ولكل رواية شخوص تحرك الاحداث فيها وفق تخطيط الكاتب كشخصية جعفر جواد صاحب اول درس في تعليم (عظيم) الانحدار الى العالم السفلي «منذ ان قلت له السلام عليكم رسم لي خارطة الطريق المؤدي الى عالم الخمور» ص 24. فالشخصية مهما كان دورها ، تلعب دورا حيوياً وبالغ الأهمية في احماء وتوهج الاحداث كافة من بدايتها حتى نهايتها.
تبدأ الرواية بمستهل يحدد مصير متابعة القراءة من عدمها. لان صدمة قرار استمرار القراءة ، يأتي منذ اول سطور الافتتاح المقنع والمشبّع بلغة تنساب بكل هدوء ، مع تعاقب الجمل والمقاطع والمستوى اللائق من السرد الجذّاب، انه صراع عنيف داخل النفس التي تحاول مقاومة الظروف ولكنها دائما ما تقع ضحية ضعيفة امام اسواط الجلادين ومهاراتهم بالتعذيب الجسدي والنفسي لإرغام كل من تقع عليه الاعين بان يعمل عيناً للزعيم او جاسوساً او متعاوناً او تنتهي حياته في قعر السجون المظلمة. الرواية بمجملها تعكس الصراع الازلي بين الناس والسياسة وحبائلها من خلال قصة حياة الشاب اليافع (عظيم عبد الكريم ) الذي يدخل مدينة الناصرية باحثاً عن فضة فتتوالى على عمره سنوات الخيبات والانكسارات وهو يتحسر على لحظة سكون واستقرار مفقود. ان دوامة الحياة والبحث عن الامل وسط هيجان الظروف الصعبة افقدته ارادة المواجهة التي خذلته اكثر من مرة طيلة حياته التي بذلها منذ شهوته التي ادخلته عالم التمرد والعنف حتى ايامه الاخيرة قبل لجوئه الى امريكا برغم ظفره بحبيبته فضة والتي يتزوجها لكنه يفقدها الى الأبد بعد خروجه من آخر سجن قضى فيه اربع سنوات نالت منه كثيراً.
*كاتب عراقي