اخبار تونس
موقع كل يوم -أنباء تونس
نشر بتاريخ: ١٠ كانون الأول ٢٠٢٥
رؤية للوضع في تونس : المرحلة الآن خطيرة تتطلّب صنفا من التعالي الوطني بالبحث عن قواسم مشتركة بين أكثر ما يمكن من العقلاء من الوطنيين و من الديمقراطيين من مختلف العائلات السياسية، دون إقصاء إلاّ من يقصي نفسه، قواسم تحمي ‘الظهر الوطني’ وتتصارع فوق مستوى ‘الحزام الديمقراطي’… بعيدا عن القواصم الداخلية و الخارجية على حدّ السواء. فهل نعقل؟ 'من أجل مبادرة عقلانيّة وطنيّة ضدّ الهستيريا السياسيّة الحاليّة'.
مصطفى العلوي *
1- لا أعتقد إنّه من الضروري الوقوف طويلا من أجل توصيف الوضع العالمي الكارثي على كل المستويات التي يشعر بها، في كلّ بلدان العالم، كلّ إنسان سويّ له اهتمام بسيط بالسياسة، خاصّة ونحن نعيش أزمة عالميّة حدّيّة مرتبطة بإعادة رسم خريطة العالم بكامله بالطرق السلمية، أحيانا، و العسكرية، أحيانا أخرى، وهي أزمة تطوّرت خاصّة مع تطوّر مجموعة ‘البريكس’ واحتداد صراعها مع مجموعة الدول الغربية. ولا بدّ من ربط إمكانات تأثير ذلك على تونس من خلال مؤشّرين يكفيان وحدهما، ربّما، لمعرفة أين يمكن أن نجد أنفسنا ‘فجأة’ في قادم الأيّام، إذ واهم من يحلّل الوقائع التونسية بمعزل عن العالميّة.
أزمة اقتصاديّة-ماليّة وعزلة دوليّة
إنّ البلد في أزمة داخليّة على كل المستويات، وأخطرها الأزمة الاقتصاديّة-الماليّة، كما برز من خلال نقاش البرلمان للميزانية، وفي عزلة دوليّة على كلّ الجبهات، بما في ذلك الجبهة الجزائريّة-الليبية كما برز ذلك في الموقف من التصويت على مشروع ‘الدولة الفلسطينية’ مع الجزائر، وكما يبرز من حين لآخر على نقاط التماس الحدودية الشرقية كلما اضطربت الأوضاع في ليبيا الغربية.
ولا داعي لتذكير أحد ببرود العلاقات مع جلّ باقي الأقطار العربية والإسلامية ذات التأثير، بمحاورها المختلفة (التركي-القطري، والمصري-السعودي والإماراتي)، ناهيك عن العلاقات مع أوروبا الغربية (التوتر الأخير مع سفير الاتحاد الأروبي) والولايات المتحدة الأمريكية (تصريحات ترامب حول الجزائر وتونس عند تنظيم أسطول الصمود)، خاصّة منذ انفجار الأوضاع الفلسطينية بعد 7 أكتوبر 2023 وما نتج عنها من مواقف واصطفافات جيواستراتيجية مخالفة للمواقف الرسمية و الشعبية التونسيّة. وهذا، مع تطوّر الأزمة السياسية الداخلية مؤخّرا بشكل يقترب من الهستيريا الجماعية، قد يؤدّي إلى نتائج كارثية إذا لم يقع علاجه بأفضل المقاربات العقلانيّة السياسية.
2- هنالك، بالتالي ، أزمة حدّيّة مركّبة الآن في تونس قد تؤدّي إلى نتائج خطيرة ،إن لم تكن كارثية، على البلد وعلى جلّ مكونات شعبه وجل مكونات حياته السياسية و المدنية الوطنيّة.
عقلية سياسيّة هستيرية داخلية
وفي داخل هذه الأزمة، لا بدّ من الانتباه إلى خطورة التعامل مع واقع وصولنا إلى أزمة سياسيّة حدّيّة فعليّة بآليّة العقلية السياسيّة الهستيرية الداخلية وإلا وصلنا إلى واحد من احتمالين؛ إما إلى حالة ‘انسحاقيّة جماعية’ أو، في أحسن الحالات، إلى حالة ‘انسحاقيّة فردية’، حتّى للمنتصرمن بيننا على الآخر لأنّه سوف يكون مضطرّا إلى التعويل على أطراف داخلية (غيرسياسية مدنية) و/أو خارجية (غير وطنية) لتحقيق انتصاره على الآخرأو للمحافظة عليه.
وتبدو الأزمة الاقتصادية-المالية في تونس بمثابة القاعدة السفلية التي تقع فوقها باقي الصراعات الظاهرة على ركح الحياة السياسية و النقابية والجمعياتية، ولكن التي يدار جزء منها أمام خلفيّة جيو-سياسية، يعمل البعض على إخفائها، هي عبارة عن صراعات دولية واقليمية.
ولذلك، في تونس، قد تشتغل رافعة الأزمة الاقتصادية-المالية وما تحمله فوق سطحها من صراعات سياسية، في وضعنا الراهن، بنفس الآليات المؤدّية إلى ما يمكن تسميته ‘الحرب الأهلية السلمية’ بحيث يقع العمل بالاقتصاد و المال و السياسة و الديبلوماسية على تحقيق ما تحققه، في بلدان أخرى، الحروب العدوانية الخارجية الواضحة أو الحروب الأهلية المدارة بالوكالة لصالح محاور أجنبيّة على حساب المصلحة الوطنيّة.
ويأتي التشابه في آليّات الحربين، العسكرية و السلمية، من وصول العالم، والمنطقة، وبالتالي تونس، إلى مرحلة مفصلية في إعادة هندسة خرائط جغرا-سياسية تتراوح بين سياستي ‘ليّ الذّراع’ السلمية و ‘كسر العظام’ العسكرية. وضمن هذا الوضع، لا بدّ من أمرين : دقة تقييم تعّقد الوضعية السياسية الداخليّة والشجاعة في اتخاذ مواقف سياسيّة عقلانيّة وطنيّة.
رسم الخارطة السياسية التونسية
3- بتبسيط أكثر من مخلّ، يمكن رسم الخارطة السياسية التونسية، كما تبدو لأوّل وهلة، وفق التقسيمات الآتية : في المحور، طبعا، نجد السلطة السياسيّة، المتمحورة حول سلطة رئيس الجمهوريّة، ثم، من ناحية، نجد قوى المساندة المطلقة فالمساندة النقدية فالحياد الإيجابي فالمعارضة الإيجابية، أي ‘الإصلاحية الإيجابية’ (في علاقتها بالسلطة)، و، من ناحية ثانية، نجد قوى المعارضة السلبية المطلقة، الجذريّة، ثم قوى المعارضة السلبية الجزئيّة، ‘الإصلاحية السلبية ‘، ثم قوى وجماهير’الحياد السلبي’، وهي احتياطي ما سبق من معارضتين سلبيّتيْن، وأخيرا نجد جماهير ‘الأغلبية الصامتة’ التي يوجد منها حتى من يمارس ‘الحياد المطلق’ اللامبالي بالسياسة وتجاه الجميع أصلا. وبين هذه القوى المتنوعة توجد، أو قد توجد، كل أشكال الوحدة و الصراع الممكن تصوّرها في أيّ حياة سياسيّة ارتباطا بأربعة أهداف سياسية كبرى هي المحافظة (على الوضع القائم) والإصلاح و التثوير(الإيجابي) والتثوير-المضادّ (السلبي)، وكلّ طبعا يضفي على هذه الأهداف صفات الإيجاب/السّلب حسب موقعه الاقتصادي/الاجتماعي وموقفه الفكري/السياسي وعلاقاته الإقليمية/الدولية. وهنا ‘مربط الفرس’ في ما يجب من وضوح الرؤية الموقفية وشجاعة الممارسة الموقعية، ولا يتمّ ذلك إلا في علاقة بقراءة طبيعة مشروع السلطة السياسية الحاليّة ودوره في توجيه مستقبل البلاد وفي رسم تموقعها في الخارطة الإقليمية والعالميّة.
شعبويّة بين يمين الوسط ويسار الوسط
4- هنالك شبه إجماع من قبل الكثيرين على اعتبار السلطة الحالية ‘سلطة شعبويّة’، ولكن هنالك اختلاف بعد ذلك على تصنيف هذه الشعبوية إن كانت يمينية أم وسطية أم يسارية، من ناحية، وإن كانت وطنية أم غير وطنية، من ناحية ثانية، وإن كانت ديمقراطية أم غير ديمقراطية، من ناحية ثالثة. و باختصار، يمكن قول ما يلي كموقف خاصّ لا يدّعي المعرفة اللدنيّة ولكن يدّعي الصدقيّة، مع الذات قبل مخاطبة النخب و الجماهير الافتراضيّة والواقعيّة:
أوّلا: نعم هنالك مصداقية ما لتقييم السلطة وفق شبكة قراءة سياسية تقرّ، على الأقل، بجملة من الخصائص الشعبوية لعلّ أهمها الحديث باسم عموم الشعب المبهم والتبرّم من الأحزاب والنخب السياسية ومحورة الحياة حول الشخصية الرئاسيّة.
ثانيا: ولكن هذه الشعبويّة هي إلى الآن شعبويّة وسطيّة؛ لا شعبوية يسارية كما يطلق ذلك النعت مثلا على تنظيم ‘فرنسا الأبيّة’، ولا يمينية كما يطلق على ممارسات ترامب في الولايات المتحدة الأمريكيّة. وتتميز هذه الشعبوية الوسطية بمحاولة المزج بين ليبرالية ما، بعدم طرح تجاوز للرأسمالية، وإسلامية ما، عبر التركيز على ‘مقاصد الشريعة’ الكلاسيكية مع إضافة مقصد الحرّيّة، وقوميّة عربية ما، تظهر جليّا في الموقف من القضية الفلسطينية، ويسارية اجتماعية ما، تظهر في مسائل مثل التمسك بالقطاع العام ومقاومة المناولة واقتراح تجربة ‘الشركات الأهلية’ في تقليد ما لتجارب تعاونيات أروبا الشمالية الاشتراكية الديمقراطية. وإن وسطية الشعبويّة، بهذه المواصفات، تجعلها تتأرجح بين يمين الوسط ويسار الوسط حسب الوضعيّة.
ثالثا: كما أنّ هذه الشعبوية الوسطية هي شعبوية وطنية إصلاحية من صنف خاصّ يبدو مزيجا من وطنية إصلاحية كلاسيكية، كانت تمثلها البورجوازيات الوطنية، ووطنية، لنقل،ولو بمبالغة، تقدّميّة، كانت تمثلها التنظيمات ذات الأصول الآتية من الطبقات الوسطى الكلاسيكية، ولكن المزيج خاصّ نسبيّا إذ له سمات تونسية عربية-إسلامية هي عبارة عن عملية ترميق، أي’بريكولاج’، بين مصادر تاريخية قديمة، عمريّة، وأخرى حديثة، ذات مرجعية إصلاحية دستورية ونقابية، وثالثة معاصرة متأثرة بأطروحات أجنبية عبارة عن مزيج بين روسّو وزاباتا وبعض مبادئء الاشتراكيات الديمقراطية.
رابعا: كما هي ديمقراطية بطريقتها الخاصّة الهجينة بين الديمقراطية التمثيلية و الديمقراطية المباشرة، ويتجلّى ذلك في النزعة الرئاسوية التي كأنما أرجعت تونس الى أولى المراحل البورقيبية قبل استحداث الوزارة الأولى بعد فشل التجربة التعاضدية، من ناحية، وفي ازدواج القوانين الانتخابية بين مجلسي النواب و الجهات مع واقع حلّ المجالس البديّة، من ناحية ثانية.وهي لذلك، وأيضا بسبب كونها وصلت بعد تعثر تجربة انتقال ديمقراطي استشرى فيها الفساد وسادت فيها كل أشكال الفوضي الحزبية والبرلمانية، وفي ظل أزمة كوفيد التي عقبت أزمة اقتصادية داخلية وتزامنت مع أزمة عالمية، وبسبب كيفية تعامل خصومها معها، بسبب كلّ هذا و غيره، تنزلق بسهولة من شكل ‘الديمقراطية الخاصّة’ المعلنة نظريّا الى ممارسةالتسلّطيّة السياسية واقعيّا، و التي تجعل البعض يقارنها، مبالغة، بالفاشية مثلا.
إنّ الشعبوية الوسطية هي عبارة عن عمليّة 'قصّ ولصق' سياسية من الناحية النظرية، ولذلك، وحسب ما يحيط بها من ظروف وطنية وإقليمية ودولية، قد تعرف سيناريوهات متعدّدة من الناحية العمليّة. وقد تلعب الشخصية المحورية فيها دورا كبيرا يحوي في طياته حتى ملامح السمات النفسية-السياسية الشخصية. وهو ما يجعل النتائج قد تتراوح بين المتناقضات أصلا، خاصة في ظل الأزمات العميقة المصاحبة بالفراغات المؤسساتية وبضعف الثقافة و الممارسة الديمقراطية وباختلال موازين القوى بين الدولة و نخب وتنظيمات المجتمع السياسي والمدني وبكثرة التدخلات الدولية و غيرها من العوامل السلبية.
كيفية إدارة المعارضة للأزمة
ومع الأسف، هذا بعض ما عرفته وتعرفه تونس وأثّر بالتأكيد في رسم ملامح التجربة التونسية مع الشعبويّة التي وصلنا معها، ولكن ليس بسببها وحدها، إلى الوضعية الحاليّة، كما يوهم بذلك خطاب قسم من المعارضة السياسية الحالية التي هي بعض سبب ما وصلنا إليه، ليس فحسب بسبب طريقتها في الحكم و المعارضة في السابق، بل كذلك بسبب كيفية إدارتها لفعل معارضة الشعبوية منذ وصول الأخيرة الى السلطة السياسية. ومن المهمّ هنا تحميل السلطة السياسية مسؤوليتها الأولى عما تصل إليه أية بلاد من أوضاع، ولكن لا بدّ أيضا من النظر إلى كيفية إدارة المعارضة للأزمة بجناحيها : المعارضة السياسية والنقابية.
5- إنّ الخصائص العامة المذكورة أعلاه للشعبوية التونسية وجّهت طريقة تعاملها الفعلية مع أزمة البلاد في كل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والديبلوماسية. ولكن الخصائص العامة للمعارضة التونسية ساهمت بدورها في النتيجة ولو بصورة تفاعلية، بل يمكن القول إن السلطة و المعارضة أدارتا الأزمة بصورة انفعالية أوصلتنا الآن إلى ما يسبه الحالة الهستيريّة. وتكفي بعض المؤشرات للدلالة على ذلك.
من ناحية السلطة، يكفي أن نلاحظ النزعة الرئاسوية دستوريا وعمليا، وبالتالي ضعف الحكومة و السلطتين التشريعية و القضائية. كما يكفي التذكير بالفراغات المؤسساتية الدستورية الكبرى مثل المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى وتحجيم دور المحكمة الإدارية و تدجين هيئة الانتخابات وتغييب هيئة المراقبة الإعلامية و الفراغات في بعض دوائر الهجرة وانعدام تمثيليتها إلى اليوم في الغرفة الأولى من السلطة التشريعية وحل المجالس البلدية والفراغات في البعثات الديبلوماسية على مستوى السفارات و القنصليات، من ناحية، ويكفي أن نلاحظ تراجع الفعل السياسي و الجمعياتي والإعلامي والتواصلي، من ناحية ثانية، وما نتج عن كل ذلك من مشاكل تمس سير مؤسسات الدولة ووضعية الحريات الفردية و الجماعية، كي ندرك التخبّط و الميل إلى التسلّط اللذين لا يعترف بهما إلا مكابر أو خائف من المنشور 54 أو من غيره بسبب ما يلاحظة من اختلاط الحابل بالنابل في المحاكمات والسجون التونسية.
ولكن من ناحية المعارضة، يكفي التذكير بترحيب قسم من المعارضة السياسية الحالية ب25 جويلية 2021 وإعرابه حتّى عن نيّة تقديم نقده الذاتي في ممارساته السابقة في السلطة وقتها بعد أن كان قسم آخر من المعارضة السياسية والنقابية الحالية هو من طالب اصلا بإجراء ما أصبح لاحقا يسميه انقلابا على الشرعية و على الديمقراطية.
كما يكفي التذكير باتباع المعارضة سياسة رفض كل شيء لاحقا بما في ذلك، ومن موقع معارض، المشاركة في الاستفتاء والانتخاب، مما ساهم في إفراغ بعض المؤسسات التمثيلية، وتعمّد القيام بتصعيد سقف الخطاب ‘الثوري’ عبر الاتهام السياسي بالدكتاتورية و الفاشية والاتهام الوطني بالانخراط في المخططات المصرية و السعودية والإماراتية و الاتهام الشخصي بأمراض التوحّد أو الهذيان والازدواجيّة.
هستيريا خطابية مزدوجة، سلطوية ومعارضة
وهذا في الوقت الذي كانت فيه أجنحة المعارضات الحالية نفسها تتهم بعضها البعض، سابقا، بالفساد المالي الداخلي والخارجي و بالارهاب و بالخيانة وبالفاشية و بالظلامية وبالانتهازية وبغيرها من أبشع النعوت السياسية، وبعضها، إلى اليوم، يعوّل على قوى إقليمية أو دوليّة يحرّضها ضدّ سلطة بلده، هي وحتى بعض المؤسسات المالية الدولية. وكلّ هذا شكّل جدار صدّ ضدّ إمكانية نجاح أية محاولة إصلاحية، ساهم قسم من المعارضة السياسية في بنائه منذ البداية، ثم التحقت به المعارضة النقابية و الجمعياتية.
‘هذا غيض من فيض’ السلطة و المعارضة على السواء، مع تكرارنا الإقرار بأن المسؤولية الأولى في حلّ الأزمات السياسية في أي مجتمع، تقع، دوما، في المقام الأوّل، على عاتق السلطة السياسية، بوصفها الفاعل الأوّل، ومن ثمة يأتي دور المتفاعلين من بين النخب المعارضة كفاعل ثان رغم عدم وجود ما يمنع المعارضة من المبادرة، نظريّا على الأقلّ.
والمهمّ أنّ النتيجة هي أننا اليوم في أزمة كبرى تتعمّق في كل المستويات بدءا من انعدام التوفير المنتظم لأبسط حاجيات المواطن في الغذاء و الدواء وصولا حتى عيش ما يشبه العزلة الدولية الفعلية عن الجميع تقريبا، بما في ذلك عن أقرب الأشقّاء. والأخطر من ذلك، حسب رأينا، هو وصولنا الى هستيريا خطابية مزدوجة، سلطوية ومعارضة، تعلن ‘حرب التحرير الوطني’ الداخلية من ناحية السلطة، وتطلب الثورة أو الانقلاب و رأس السلطة من ناحية المعارضة، وذلك في وقت أصيب فيه خيرة أبناء الشعب بالقرف الوطني المعمّم ويحاول فيه كل من يستطيع منهم ‘ترك الجمل بما حمل’، وكأنّ الصراع يدور حول من يفتك أرضا يبابا يابسة جامدة سيتركها أهلها بحثا عن الماء والكلأ والنّار في حين هي خضراء يمكن أن تكفي الجميع ممّن يحبّونها لو عرفوا كيف يديرون صراعاتهم ‘دون إفراط أو تفريط’، خاصة و العالم من حولهم تحوّل الى غابة يسودها قانون الغاب حتّى في زمن السلم وتشتعل فيها الحرائق من حين لآخر في زمن الحرب. فهل من ‘عقل جمعي’ ما يمكنه أن يعيد الرّشد إلى من يفترض أن يكونوا نخبة البلاد لإعادة تنظيم إدارة الحوار بعيدا عن وهم وسطية زائفة جديدة توهم بإمكانية إدارة الظهرعن وجود الصّراع؟
مبادرة وطنيّة يدعى إليها الجميع
6- يوجد ‘عقلان’ كبيران في تونس يمثّلان تعبيرين عن ‘عقل الشعب’ ،أو ‘روح الشعب’ إن شئنا؛ ‘عقل الدّولة’، الذي تمثله مؤسساتها السيادية، و’عقل النخبة’ الذي يمثّله مثقفوها الوطنيّون. وبين هذا وذاك يوجد عقل ثالث يمثّله أفضل تمثيل ‘عقل اتحاد الشغل’ وباقي المنظمات الوطنية، وهو الذي عليه أن يلعب دور همزة الوصل بين العقلين الأوّلين اليوم كما فعل سابقا. ولهذا العقل الثالث الأخير مهمّة استثنائية اليوم لا يجب عليه أن يفقدها في خضمّ الهستيريا السياسية الجماعية هو الآخر، بل عليه أن يلعب دوره الوطني بكل ما أوتي من عقلانية فكرية ومن شجاعة نقابية-سياسية و اخلاقيّة.
وعلى قيادة إتحاد الشغل، تحديدا، وعلى قيادات باقي المنظمات الوطنية، تباعا، تحمّل مسؤولياتها، من جديد، في اجتراح مبادرة وطنيّة يدعى إليها الجميع،إلا من أقصى نفسه بنفسه ، يكون هدفها حلّ الأزمة الحاليّة حماية للبلاد من الانسحاق وفتحا لباب أمل جديد في ترشيد الحياة السياسية التونسيّة عبر ‘مسك العصا من الوسط’ من أجل الالتقاء في ‘منتصف الطريق’ الممكّن من التقدّم عوض الدوران الحالي في مفترقه المأزوم الذي يؤخّر أكثر ممّا يقدّم.
وعلى هذه المبادرة أن تستنير بالمبادئ ‘البسيطة’ التالية : تقديم المصلحة الوطنية على كل مصلحة سياسية أو نقابية أو شخصية – التنازل المتبادل عن كلّ شيء يساعد التخلّي عنه في تحقيق تلك المصلحة الوطنية دون مغالبة فئويّة – الاعتراف المتبادل بحق الوجود و النشاط و الصراع في إطار الرابط الوطني التونسي الجامع – الاستعداد للحوارفي كلّ المواضيع دون محاذير سوى ‘الطعن في الظهر’ الوطني و’الضرب تحت الحزام’ الديمقراطي.
ويمكنها أن تبدأ بتبنّي ما يلي كدليل أوّلي على صدق النوايا:
7- الطّرف النّقابي: تعليق الإضراب العامّ وإقرار هدنة اجتماعية مفتوحة فسحا للمجال أمام كل محاولات إنجاح المبادرة الوطنية، مع فصل مسار الحوار الوطني عن مسارالحوار النقابي الداخلي في أفق المؤتمر المرتقب لاتحاد الشغل باعتبارهما مسارين مختلفين لا يجب أن يعرقل أحدهما الآخر تمييزا بين الشؤون العامة الوطنية والشؤون النقابية الداخلية.
– الطّرف السّياسي المعارض : الاعتراف بشرعية كل المؤسسات الحالية من الناحية الدستورية و القانونية، مع الحق في إبداء المؤاخذات المسموح بها في نقد جوانب المشروعيّة الشعبيّة، والالتزام بعدم تغييرها الا وفق الروزنامة الانتخابية القانونية، أو وفق أخر اتفاقية يفضي إليها الحوار في حالة الاتفاق على تسبيق استحقاقات انتخابية، مع حرية النّضال من أجل العمل على إجراء تعديلات أو تحسينات عليها بطرق شرعيّة وسلميّة دستورية بعيدا عن الإستعانة بأطراف أجنبية أو بأطراف داخلية غير مدنية، والالتزام العلني الصريح بمبدأ ضرورة تحييد المؤسسة العسكريّة في الخلافات السياسية و الدفاع عن استقلالية ودمقرطة المؤسسة الأمنيّة.
– الطّرف الرّئاسي: الالتزام باستكمال تشكيل المؤسسات الدستورية قبل نهاية المدّة الانتخابية الرئاسية وفق خطة تتم بالتشاور ضمن إطار المبادرة الوطنية مع إقرار أولويّة التعجيل بإصلاح السلطة القضائيّة، وإجراء عفو رئاسي على مساجين الرأي و السياسة، الذين لا علاقة لهم بجرائم الإرهاب والفساد، و لم تتجاوز أفعالهم الأنشطة الفكرية و السياسية و التنظيمية السلميّة وذلك بإطلاق سراح بعضهم نهائيا وبتخفيف عقوبة البعض الآخر وبتعويض العقوبة السجنية للبعض الثالث بأخرى تسمح لهم بالعودة إلى عائلاتهم وإلى أحزابهم ومؤسساتهم المهنية حتى يشارك الجميع، كلّ من موقعه، في إنجاح المبادرة الوطنية.
وإذا رأى اتحاد الشغل، و باقي المنظمات الوطنية، أنه من الممكن تبنّي هذه المبادرة وأنّه يوجد بعض تجاوب أوّلي معها، بعد الاتصالات الأوّليّة، فعليهم أن يكونوا للأمر لجنة حوار وقتية لإطلاقها تجمع بين بعض رجال الفكر و السياسة والنقابة وتحضّر لشكل تنظيمي وطني أرقى يناقش هيكله بصورة جماعية. وإذا فشلت المبادرة في ضمان الصفة الجماعية الوطنية فمن حق الملتزمين بها اعتبارها أرضية سياسية مشتركة بينهم توجّه أهدافهم السياسية في قادم الأشهر و السنوات السياسية.
عوضا عن الخاتمة : عود على بدء
لا بدّ أن نعترف جميعا، تونس في أزمة حقيقية، داخلية وخارجية، و المنطقة و العالم في مرحلة خطيرة جدّا تؤثثها أخطر الصراعات السلمية و العسكرية التي قد تصبح البلاد إحدى ضحاياها. وليس لتونس إلا أبناؤها في المقام الأوّل ثم أشقاؤها وأصدقاؤها في المقام الثاني، و’من لا خير لأهله فيه، لا خير للناس فيه’. ولا خير دون إعمال عقل، بعيدا عن كل أشكال الهستيريا القصوويّة باسم الوطنية أو الديمقراطية أوالثورية، أو أيّ راية أخرى قد تدّعي ‘اعادة اختراع العجلة’ من جديد، ولكن ليس بعقلانوية انهزاميّة أو انتهازية، بل بعقلانية وطنية و عقلانية ديمقراطيّة تحمي المكتسبات وتصلح الأخطاء وتستكمل النواقص وتستفيد من التجارب الوطنية والإنسانية برؤية تونسية.
وإنّ من أبسط مبادئ الممارسة السياسية، التي تغيب زمن الهستيريا، العمل على التمييز بين الأعداء و الخصوم والأصدقاء و المتردّدين و المحايدين، كما أنّ من أبسط مبادئ الحرب، بل مبادئ الصّيْد، التي تغيب زمن الهستيريا أيضا، عدم إطلاق النار في كلّ الاتجاهات في نفس الوقت.
وإنّه من المهم الامساك بالحلقة الأقوى من السلسلة الوطنية لجرّ باقيها في مسار التقدّم في التاريخ، وليس هناك من حلقة من سلاسل السياسة أفضل من ‘كتلة تاريخية’ كبرى ما أمكن من القوى السياسية والاجتماعية الأساسية التي تستنير ببرنامج ‘تسوية تاريخية ‘ تقدّميّة، حسب المرحلة. والمرحلة الآن خطيرة تتطلّب صنفا من التعالي الوطني بالبحث عن قواسم مشتركة بين أكثر ما يمكن من العقلاء من الوطنيين و من الديمقراطيين من مختلف العائلات السياسية، دون إقصاء إلاّ من يقصي نفسه، قواسم تحمي ‘الظهر الوطني’ وتتصارع فوق مستوى ‘الحزام الديمقراطي’… بعيدا عن القواصم الداخلية و الخارجية على حدّ السواء. فهل نعقل؟
هذا نداء ‘قلبي-عقلي’ من مواطن بسيط يحبّ بلده ويعي خطورة غياب العقل بين خيرة أبنائها من الوطنيين و من الديمقراطيين، و لا يطلب شيئا لنفسه، وأرجو ألاّ تكون الاجابة لا إجابة موتى بالقول ‘لقد أسمعت لو ناديت حيّا ‘، ولا إجابة يائسين بالقول ‘مرّ القطار’، ولا إجابة موتورين بالسخرية من مبادرة ‘إطفائي ثورة’ على هذا المقاس أو ذلك، كلّ حسب إحداثياته ..وليكن : تونس الآن تحتاج إلى إصلاحيين ناجعين وناجحين. وهم، حسب رأيي، واقعيّا، بالنظر إلى ما تعرفه البلاد و العالم، ‘هنا والآن’، لو أصلحوا فعلا، سيكونون، في حساب ميزان التاريخ، أفضل الثورييّن، لمن عندهم رؤيا ولا يكتفون بمجرّد الرؤية.
إلى تونس بقلوبكم وعقولكم.
أكاديمي ومحلل سياسي.
صفحة المؤلف على فيسبوك

























