اخبار تونس
موقع كل يوم -جريدة الشروق التونسية
نشر بتاريخ: ١٢ تموز ٢٠٢٥
لم تكد الحرب تضع أوزارها حتى أطلّ ترامب على نهج الوفاء بتصريحاته الغريبة مدليا بأنّ 'إيران خاضت الحرب بشجاعة'، وإذ لم يكن وجه الغرابة في مضمون التصريح فهو واقع لا يمكن إنكاره، فإنّ الغرابة وردت ملازمة لشخص من صرّح بذلك على اعتبار أنّه عدوّ سعى جاهدا إلى تقزيمها، و حيث ذهبت آراء بعض المحلّلين إلى ربط التصريح بالمجنون، فإنّ واقع السياسة الدولية وحساسية الجغرافيا السياسية لم تكن تسمح يوما بالتعامل بمنطق الجنون رغم أنّها يمكن أن تتراءى كذلك ولو لوهلة، ويدفع هذا التناقض بين التصريح والواقع، أيّ عاقل إلى اقتفاء أثر أسباب ومآلات الصراع في المنطقة وخلفيات التصريحات السياسية التي قد تبدو عشوائية، وعليه يأتي هذا المقال في اجزائه الثلاث كمحاولة للربط العقلاني بين أسباب ومسببات الديناميكية التي شهدها الشرق الأوسط في المواجهة العسكرية الأخيرة الإسرائيلية الإيرانية بنتائج ما آلت إليه الأوضاع بعد نهاية الأعمال العسكرية.
إثر الشروع في الهجمة العسكرية الإسرائيلية ضدّ طهران والتي شكّلت إعلانا مباشرا للدخول في حرب الإثني عشر يوما، خرج نتنياهو معلنا أنّ الهجمات التي شنّتها إسرائيل بتاريخ 13 جوان كان من المزمع الشروع فيها منذ أواخر شهر أفريل من السنة نفسها، غير أنّه و'لسبب ما' لم يكشف عنه تأخّر هذا التصعيد العسكري، ويذهب خبراء إلى أنّ الإعداد لمثل هذه الضربة العسكرية قد يرجعنا إلى سنة قبل هذا التاريخ كي يمكن فيها الإعداد لها وتنفيذها على الشكل وبالكيفية التي نفّذت بها، ومثل هذا الهجوم العسكري واسع النطاق على خطّ المواجهة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان لابدّ أن يسبقه تحديد هدف استراتيجي وسياسي واضح وقراءة عميقة تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الإقليم والتوازنات الكبرى في العالم، ويحيل هذا إلى أنّ قرار نتنياهو سواء في حالة تأخير العملية من شهر أفريل إلى شهر ماي أو قرار تنفيذها في تاريخ اندلاع المواجهة كان مدفوعا باعتبارات محدّدة قائمة على حسابات عقلانية تناسب مخطّطات وأولويات نتنياهو.
وبمجرّد انطلاق الردّ الإيراني اختلفت آراء المحلّلين، فهناك من أدرج الردّ الإيراني وصنّفه في الأيّام الثلاثة الأولى على أنّه لن يخرج عن خانة الردود الإيرانية السابقة التي عقبت كلّ اعتداء إسرائيلي، حيث يقتصر على توجيه موجة أو موجات محدودة من الصواريخ مدعومة ببعض التصريحات المحذّرة من مغبّة العودة من قبل إسرائيل، وهناك من رأى أنّ هذا الردّ ليس كسابقه، فما هو إلاّ بداية لردّ ذو نسق تصاعدي يتماشى وعمق القراءة الإيرانية لسياق الضربة الإسرائيلية هذه المرّة من حيث أهدافها إذ أنّها يمكن أن تؤول إلى حرب استنزاف، لكن مع بدء اليوم الرابع والخامس للحرب بدأ يرجح الرأي الثاني بعد بروز مشهد واضح لتغيّر نوعيّ في تكتيكات القصف الإيراني، وتطوّر الأسلحة المستعملة مقارنة بما تمّ استعماله سابقا في ردود طهران، وبالمحصّلة فإنّ التوجّه والمنحى العسكريّ التكتيكي والاستراتيجي الذي انتهجته طهران في هذه الحالة أعطى لكلّ الفاعلين الدوليّين انطباعا حقيقيّا أنّ النظام الإيراني يعي تماما ما يواجهه بل إنّه استوعب ذلك من مدّة طويلة قد تمتدّ لسنة خلت على أقلّ تقدير في سياق التطوّرات التي تفرضها الحرب على غزة في الشرق الأوسط عموما.
وبين دوافع إيران ودوافع نتنياهو اتّخذت الولايات المتّحدة الأمريكية موقعها ضمن دورها التقليدي في إدارتها لمثل هذه الأزمات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، مع الأخذ بعين الاعتبار المتغيّرات المتسارعة في المنطقة والتي تفرضها عديد الملفّات الأخرى مثل الحرب الأوكرانيّة وحرب باكستان والهند والحرب على غزّة وتصاعد منسوب التوتّر مع بيكين، بل حتى تمكّن هوس التفكير التجاري لترامب من مجريات القرار في البيت الأبيض، وتماشيا مع مستوى دور أمريكا بوصفها لاعبا دوليّا مؤثّرا في كلّ الملفّات أمام نظرائها الدوليين، تحتّم الواقعيّة السياسيّة اتّخاذ القرار في الدوائر السياسية والعسكرية في هذا الصنف من الدول ضرورة بناء الخيارات وفق توليفة تحفظ استقرار المصالح على مستوى جميع الملفّات المفتوحة دوليا عند التفاعل مع كلّ ملفّ بمفرده، وبذلك لا يمكن قراءة أيّ تفاعل من قبل واشنطن خلال الأيّام الإثني عشر للحرب دون اعتبار تأثير الملفّات الأخرى في ميزان التحليل والقراءة، وهو ما يتيح لكلّ متعمّق في تشريح هذه الحرب عقلنة القرارات والتفاعلات التي تمّت في سياقها.
عقيدة بيرغمان والعقل السياسي لنتنياهو
ورد في التلمود البابلي في صحيفة 'سنهدريم' عبارة 'إذا جاء أحد ليقتلك، فاستيقظ باكرا واقتله أوّلا'، وهي العبارة التي ترجمها رونين بيرغمان إلى الفلسفة التي ينبني عليها عمل جهاز الموساد الإسرائيلي في كتابه 'انهض واقتل أوّلا، التاريخ السرّي لعمليات الاغتيال الإسرائيلية' والتي سبق وكرّسها بصورة فعلية رئيس جهاز الموساد الأسبق مائير دغان كعقيدة للجهاز، بل إنّه لا يخفى على عاقل يقتفى أثر الوسائل التي يعتمد عليها الكيان لاستمراريّة وجوده أنّها فلسفة تمتدّ لكلّ هياكل الكيان، خاصّة وهو المهووس بهواجس الأمن التي يصدرها لشرعنة كلّ أفعاله في الداخل الفلسطيني المحتلّ أو في الخارج.
يعتمد بعض حلفاء إسرائيل على استعمال مصطلحات أخرى قد تبدو أقلّ حدّة من تلك العبرات المستقاة من التلمود، حيث وظّفوا مصطلح تحييد المخاطر عند إقدام إسرائيل على تصفية وضرب من تراهم خصومها وأعداءها، غير أنّ استعمال عبارات ومصطلحات أقلّ حدّة لا يغيّر من واقع أنّ كلّ من يمسك بزمام القرار صلب 'الكابينات' لم يشذّ يوما عن قاعدة هذه العقيدة، حيث أنّهم جميعا انتهجوا عمليات تصفية وضربات تحمل بصمات الكيان ضدّ قادة المقاومة المقيمين خارج فلسطين والبرامج النووية في سوريا والعراق تتميّز بنوع من الصمت وعدم تبنّيها العلني، إذ أنّ دأب الكيان قد استقرّ على عدم التعليق بعد كلّ عملية أو على الأقلّ الاكتفاء بتصريحات باهتة حمّالة للأوجه لا يمكن لأحد أن يثبت بها ضلوع الكيان أو إدانته إلا في ما ندر من الحالات.
مع بدء العمليات العسكرية يوم 7 أكتوبر ومع الإحراج السياسي الذي تعرّضت له حكومة الكيان وخاصّة بنيامين نتنياهو ومع الوجوم الذي اعترى الجيش الإسرائيلي وتجلّيه بوضوح على مستوى تأخّر ردّ الفعل العسكري والتخبّط السياسي الذي بدا عليه الكنيست الإسرائيلي، أخذت كرة الثلج في التدحرج لتعيد حسابات العقل السياسي لنتنياهو، وتدخل ترتيبا جديدا على أولويات رئيس وزراء الكيان الصهيوني والذي لم يعد يتحمّل المسؤولية العسكرية فقط بل كذلك المسؤولية السياسية التي باتت تهدّد وجوده السياسي على الساحة الداخلية والخارجية لدى المتحكّمين في اللوبيات الصهيونية الفاعلة في الحكومات الغربية بوصفه أحد أهمّ المقصّرين في الفشل الاستخباراتي والعسكري وتوقّع المخاطر المحدقة بالكيان.
لم يكن لأقرب الداعمين للكيان أن يتوقّع حجم تخبّط أولويّات نتنياهو وارتباكها إلاّ بعد القصف الأوّل لمستشفى المعمداني والذي خلق استهدافه حالة من الصدمة لدى الرأي العام الدولي من حيث بشاعة جرائم الاحتلال، وصدمة لحلفاء إسرائيل الدوليّين الذين بدأ يتبيّن لهم عدم امتلاك نتنياهو لاستراتيجية واضحة للتعامل مع الوضع في غزّة، ومع تتالي الانكسارات العسكرية الميدانية الإسرائيلية وعجزها الذريع في حسم التدخّل البرّي في غزّة أمام العمليّات الناجعة لفصائل المقاومة والتي مثّلت معول هدم لأسطورة الجيش الذي لا يهزم، ومع تضافر هذه العوامل فقدت عقيدة بيرغمان وجودها أو دورها التقليدي ونجاعتها في عقل نتنياهو، خاصّة مع تزايد حجم العجز الذي ظهر عليه هذا الأخير وغلبة التهوّر على خياراته، فبدأت تتعمّق خصوماته مع المحكمة العليا وأهالي الأسرى ويهود الحريديم، ما جعله يجد نفسه أمام حقيقة واضحة متمثّلة في تراجع شعبيّته في الداخل الإسرائيلي وتدحرجه نحو محاكمة داخلية من المرجّح أن تفضي إلى إدانته وتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في الكيان، ما قد يترتّب عنه حرمانه من تقلّد أيّ مسؤوليّات عليا لفترة لا تقلّ عن سبع سنوات.
وعند هذه النقطة بالذات تشكّل ترتيب جديد للأولويات لدى نتنياهو، في طليعتها ضمان استمرار البقاء بعيدا عن تحمّل أيّ مسؤوليّة ناتجة عن الأخطاء التي أفضت إلى الفشل الذريع لحكومته وإدارته، وهو ما توضّح لاحقا عند تسريب معطيات عن فضيحة تعلّقت بتورّطه في الضغط على موظّفين ومنتسبين للجيش وأجهزة الاستخبارات من أجل دفعهم إلى التستّر على ما آلت إليه التحقيقات بشأن الفشل الحكومي والاستخباراتي، وأمّا الأولويّة الثانية في عقل نتنياهو فكانت مواصلة الحفاظ على الدعم الخارجي بالزخم نفسه، خاصّة مع تجاوز الحرب شهرها الثالث، ومع بدء استنفاد إسرائيل لمخزوناتها الاستراتيجية من الذخيرة والعتاد دون بروز أيّ بوادر لنجاح أيّ من أهداف الحرب التي حدّدها، فلا الأسرى عادوا ولا الفصائل تمّ القضاء عليها، وفي هذا المستوى من المواجهة فإنّ تراجعه أو وقفه للأعمال العسكرية سوف يعني تنازله عن أوكد أولويّاته وهي البقاء بعيدا عن تحمّل المسؤوليّة، وهنا يجد نتنياهو نفسه أمام حتميّة لا مناص منها وهي أنّ تحقيق أولى أولويّاته لن يتمّ إلا بتحقّق الثانية وهي الانتصار في الحرب أو على الأقلّ إطالة أمدها إلى حين تشكّل فرصة سانحة تسمع له باستغلالها فتكون بمثابة طوق النجاة من التبعات والتتبّعات الداخلية والخارجية، الأمر الذي بات تحقّقه رهين توريط طرف ثالث يمثّل الداعم الذي يتحمّل نفقات الحرب في ما تبقّى من هذا الصراع الذي لا أفق لانتهائه.
استنادا للاستنتاج العقلاني، لا يمكن لأولويّات نتنياهو أن تتحقّق وفقا لمصالحه من خلال اعتماد عقيدة بيرغمان وحدها، لكن التحوير الذي أدخله عليها كان أساسه تحويلها في حدّ ذاتها إلى وسيلة لتحقيق أولويّاته لا كعقيدة مؤسّسة للفلسفة الأمنية للكيان، وقد كان التغيير الذي أدخله نتنياهو مبنيّا على صناعة وابتداع أسباب صراع قد تقنع الطرف الثالث وتجرّه إلى معترك الصراع ويتحمّل بذلك معه نفقاته وتبعاته ويعزّز من حظوظه في الظفر بأهدافه، الأمر الذي لم يحتج إلى اجتهاد كبير منه ليجد شمّاعة يعلّق عليها ذرائع انتهاج سياسة الهروب إلى الأمام.
-استهلاك الرصيد السياسيّ والعسكريّ الإسرائيليّ ودفع الولايات المتّحدة نحو إجراءات عيد الغفران
بتوسّط الشمس كبد السماء وفي الوقت الذي يتفاداه العسكريّون لبدء العمليات العسكرية انطلقت عملية المآذن العالية التي كسرت بنجاح خطّ بارليف في السادس من أكتوبر سنة 1973 وهو اليوم الذي يقابل يوم عيد الغفران اليهودي، وباستقرار القوات المصرية شرق قناة السويس بدأ الهجوم المضادّ بقوّات مدرّعة مشكّلة من عدد كبير من الدبّابات التي اصطدمت بفخّ هائل من أسلحة مضادّة للمدرّعات نتج عنه خسائر كبيرة في العتاد توازت مع خسائر ملحوظة في الطائرات، وبمجرّد بلوغ العلم الى واشنطن عن مدى تدهور وضع القوات الإسرائيلية تحرّك كسنجر وزير الخارجية الأمريكي حينها لبدء إجراءات تمكّن إسرائيل من جسر جوّي مفتوح يتيح لها تعويض العتاد المفقود جرّاء خسائرها وقد كان الجسر أحد أهمّ أسباب قدرة الكيان على إعادة التوازن على الميدان بعد تمكّن 'أريال شارون' من استغلال ما يسمّى بثغرة 'الدفرسوار'.
ولا يغيب في معادلات ذلك الصراع ارتكاز رئيس الأركان المصري الفريق سعد الدين الشاذلي الذي وضع خطّة العبور على نقطة استراتيجية وهي عدم قدرة إسرائيل على خوض صراعات طويلة الأمد، ممّا يعني أنّ إطالة أيّ أمد للحرب سوف يستنزف الفاعلية الإسرائيلية ويدفع الولايات المتّحدة الأمريكية إلى التدخّل بالدعم المباشر والواسع وهو ما التقطه أنور السادات ووضعه ضمن حساباته وأهدافه السياسية والعسكرية، إذ أدرك أنّ مصر لن تحسم الصراع لصالحها عسكريا، حيث أنّ الصراع فعليّا لم يكن مع إسرائيل لوحدها بل كان مع القدرات العسكرية الأمريكية التي تضعها واشنطن على ذمّة تل أبيب.
كان القرار السياسي سنة 1973 بيد رئيسة الوزراء 'غولدا مائير' ووزير الدفاع 'موشي ديان' في حين كان على الجانب الأمريكي بيد وزير الخارجية هنري كسنجر والرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الذي يواجه حينها فضيحة ووتر غايت والتي حدت به إلى الاستقالة فاسحا المجال لهنري كسنجر للعب دور أكبر في قرارات واشنطن خلال الحرب بين إسرائيل ومصر، وقد كان كلّ هؤلاء اللاعبين يتميّزون بالدهاء السياسي الذي مكّنهم من التعامل بذكاء مع الهزيمة العسكرية في بداية الأحداث وخلق توازن عسكري ما مثّل فرصة سانحة لبلورة علاقات دبلوماسية هي الأولى من نوعها بين إسرائيل وألدّ أعدائها في المنطقة، وبمقارنة الوضع في سنة 1973 مع اليوم فإنّ نتنياهو لا يمتلك القيمة الاعتبارية التي تمثّلها غولدا مائير للإسرائيليّين والأمريكان ولا يوآف غالانت ولا يسرائيل كاتس من بعده متماثلين في القدرة مع موشي دايان، والأهمّ من ذلك ليس على رأس الخارجيّة الأمريكية اليوم شخص مثل كسنجر دهاء أو قدرة على إدارة أكثر الملفّات تعقيدا، وهذه الفوارق مثّلت تغييرا جذريا في قدرة إسرائيل على إدارة أزماتها، وما زاد الطين بلّة، التطوّر التكنولوجي الذي مكّن العالم من مشاهدة فظاعة أفعال الاحتلال ممّا تسبّب بموجة وعي وانتفاض جماهيريّ غير مسبوق من الرأي العام الرافض للانتهاكات الإسرائيلية، وهو ما أفضى بالضرورة إلى تولّد ضغط متنامي على صنّاع وأصحاب القرار في مختلف العواصم الغربية بما فيها واشنطن في فترة بايدن ومن بعده ترامب، ودونالد ذاته ليس بالعقل السياسي الاستراتيجي الذي يعي تفاصيل الصراعات ومستلزماتها بالقدر الذي يعي به شروط الربح والخسارة بمنظور التاجر ورجل المال الذي يرى في نهاية كلّ ملفّ دوليّ فرصة للمصافحة التي تليها حقيبة مليئة بالدولارات، وهو التفكير الذي يتناقض مع طبيعة الملفّات والقرارات السياسيّة الكبرى والتي تحتاج إلى نظريّة اللّعبة التي صمّم قالبها العام إيميل بورل وتفنّن كسنجر في إسقاطها فعليا على واقع العلاقات الدولية خدمة للمصالح أمريكا وحلفائها.
كلّ جزء من تفاصيل التغييرات المشار إليها مثّل نقطة سلبية في دفتر نتنياهو الذي استهلك جلّ أوراقه الرابحة إمّا عبر تهوّره السياسي أو عبر حظّه العاثر الذي أدّى إلى استهلاك رصيده السياسي الهام والذي يمثّل في الأصل رصيد الكيان الصهيوني، وقد مثّل تدخّل جنوب أفريقيا ولجوئها إلى محكمة الجنايات الدولية القشّة التي قصمت ظهر بعير نتنياهو إذ كان ذلك تعرية للنظام الدولي وازدواجيّة معاييره، إلى جانب قدرة فصائل المقاومة على تعجيز إسرائيل عن إحراز أيّ تقدّم في الأعمال العسكريّة إلى اليوم، وفي ظلّ طول أمد الصراع برزت حاجة إسرائيل الملحّة ونتنياهو بالخصوص ليس فقط إلى الإمدادات العسكرية بل إلى جسر جوّي مفتوح مماثل لجسر يوم الغفران، فعلى الرغم من تمتّع إسرائيل بدعم استراتيجي من قبل حلفائها إلاّ أنّه لم يرتق إلى ما يطمح إليه نتنياهو من وسائل عسكرية قد تتيح وفق ظنّه تعجيل حسم الصراع مع أشباح المقاومة التي أعجزت أنفاقها جيش إسرائيل.
هنا وعند هذه النقطة أدرك نتنياهو أنّ إصراره المتكرّر للفت انتباه داعميه الخارجيّين لتزويده بقدرات أكثر فاعلية ونجاعة على غرار قنابل GBU57 الخارقة للتحصينات على عمق يصل إلى 60 مترا ليحسم الحرب في غزّة ويحقّق أولويّاته الذاتية التي تمّت الإشارة إليها سابقا قد انتهى إلى الفشل، وعليه جنح رئيس وزراء الكيان إلى توسيع دائرة الحرب علّه يصيب ما يتقاطع مع المصالح الأمريكية غير القابلة للتفاوض والتي لن تتوانى واشنطن أو تتردّد عن دخول صراع عسكريّ من أجلها، وتتالت هذه المحاولات لتقفز من مكان إلى آخر من لبنان إلى سوريا إلى اليمن ومن ثمّ إيران وهو ما شكّل رحلة نتنياهو عبر خريطة دول محور المقاومة.
- اهتزاز أركان محور المقاومة وتقلّص التأثير الإقليمي
بين لبنان وسوريا والعراق واليمن توزّع التأثير الإيراني في منطقة الشرق الأوسط بشكل متفاوت، وهو تأثير ذو فاعلية لا ينكر أيّ عاقل وجوده وتناميه بعد سنة 2010 حيث ركّزت فيه طهران على دعمها الكامل لحركات سياسيّة تمتلك أذرعا مسلّحة في المنطقة تمثّل امتدادا لنفوذها، وشكّل هذا التأثير السياسي حصيلة لما يصطلح بمحور المقاومة في المنطقة والذي اتّخذ شعار 'الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل' وأصبح عنوانا لعمله، وقد قامت إيران بمدّ أذرعها المسلّحة جميعا بالقدرات العسكرية عبر قوات فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني، وعلى مدى 15 سنة كاملة عاد هذا المحور بفوائد سياسية كبرى على المصالح الإيرانية بل وضاعف من حجم نفوذها في المنطقة، حتى في الوقت الذي تلقّى هذا المحور ضربات قاسية لم تفتّ من عضده، وخلال هذه الفترة كان المحور تحت مجهر القوى الإقليمية والدولية خصوصا مع ما بات يمثّله من تهديد قويّ لمصالحها مع تنامي قدراته العسكرية.
لم تكن المملكة العربية السعودية لتقبل ما تعتبره خنجرا في خاصرتها في الجنوب مع تنامي قدرات الحوثيّين و'أنصار الله' وهو ما دفع الرياض إلى التعجيل ببدء عملية 'عاصفة الحزم' بقرار من الملك 'سلمان بن عبد العزيز'، في جانب آخر كانت سوريا تشهد صراعها الذي أجبر 'حزب الله' على التدخّل لدعم 'بشّار الأسد' ولم يكن العراق ببعيد عمّا تشهده تبعات الحرب في سوريا على المنطقة عموما، فبتوسّع تنظيم 'داعش' الإرهابيّ على حساب الأراضي العراقية تشكّل 'الحشد الشعبي' الذي مثّل مسمار عجلة القوّة التي واجهت هذا التنظيم في بلاد الرافدين، وبتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية التي امتدّت نحو كافّة الأذرع المسلّحة التي تتقاطع مع طهران بدأت تتّضح العقد والمراكز التنظيميّة للفصائل والمجموعات المسلّحة التي تشكّل أركان محوري المقاومة ولم تكن الولايات المتّحدة الأمريكية وإسرائيل في غفلة عن مراقبة الأوضاع طيلة الصراعات التي عرفتها سوريا واليمن والعراق، وقد غنمت واشنطن وإسرائيل انكشاف خيوط النسيج الحسّاس 'لحزب الله' و'الحرس الثوري' و'فيلق القدس' و'أنصار الله'.
فعند التجاء نتنياهو خلال رحلته عبر خريطة دول محور المقاومة لم يتأخّر عن توظيف ما التقطته أجهزته الاستخباراتية ونظيرتها الأمريكية وغيرها من الأجهزة الحليفة من كشف للقدرات الميدانية لكلّ الأذرع المسلّحة وخاصّة منها 'حزب الله' و'الحرس الثوري'، فبعد ما يقارب سنة من بدء الحرب في غزّة وتيقّن نتنياهو من عدمية استخلاص أيّ نتائج إيجابية منها وعدم رغبة حلفائه الغربيّين في الدخول مباشرة في هذا الصراع، نزع هذا الأخير إلى محاولة تصدير الصراع إلى الخارج وتوسيع دائرة الحرب لعلّه يجد مخرجا من جحيم غزة، وقد مثّلت له اليمن إحدى إشارات النجاح في هذا المسعى بمسارعته إلى التقاط إعلان 'عبد الملك الحوثي' في العاشر من أكتوبر سنة 2023 الوارد في شكل تحذير للولايات المتّحدة الأمريكية من الدخول على خطّ الصراع في 'غزة' بشكل مباشر، فأوحى نتنياهو بأنّ التصريح يشكّل تهديدا لحركة التجارة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
وأفضى هذا إلى تشكيل تحالف 'حارس الازدهار' في 19 ديسمبر 2023 الذي قادته الولايات المتّحدة الأمريكية، وقد استغلّت تل أبيب هذا الواقع الجديد للترويج إلى تقاطع مصالحها مع مصالح القوى الدولية المرتبطة بحركة الملاحة في البحر الأحمر، لكن خلف الكواليس وبعيدا عن الإعلام وضوضاء الرأي العام نجح نتنياهو في الالتفاف على الحصار الذي ضربته عليه اليمن من خلال توقيع اتّفاق في شهر ديسمبر سنة 2023 يمكّن من إنشاء جسر برّي لنقل البضائع والإمدادات بين ميناء دبي وميناء حيفا، وهو الأمر الذي لم يدرك معه رئيس وزراء الكيان أنّ إنشاءه لهذا الجسر البرّي سوف يضعف عزم حلفائه عن القضاء على 'أنصار الله' في اليمن، وبذلك يرتدّ الأمر عليه خاصّة مع تلقّي الولايات المتّحدة ضربات قاسية من الحوثيين حاولت واشنطن إخفاءها، ومع إدراك الأمريكيّين عدم جدوى التدخّل العسكري وأنّه بإمكانهم نيل اتّفاق يحمي مصالحهم دون الحاجة إلى الاستمرار في الأعمال العسكرية في اليمن بما يعفيهم من تكاليف حرب قد تكون طويلة الأمد.
وفي لبنان تكرّر مسعى نتنياهو لمحاولته توريط حلفائه وإقناعهم بمزيد التدخّل إلى جانبه ودعمه في صراعه، فاتّخذ قرار تنفيذ ما يعرف بعمليات 'البيجر' والتي هدفت إلى دفع حزب الله إلى بدء الصراع فعليا، لتقوم إسرائيل من خلال ذلك بتوفير دوافع عقلانية للغرب في إطار تقديم هذه الحرب على أنّها حرب دفاع عن النفس ضدّ حركات إرهابية تهدّد وجود إسرائيل ومصالح حلفائها.
تحقق بالفعل في شهر سبتمبر من سنة 2024 ما كان نتنياهو يمنّي به النفس إذ توفّر له المناخ المناسب للهجمات الجوية العنيفة التي شنّها على لبنان والتي طوّرها إلى غزو برّي داخل الجنوب اللبناني بداية شهر أكتوبر، ممّا أدّى إلى إضعاف 'حزب الله' بصورة فاجأت أنصاره ومناوئيه على حدّ سواء، إثر اغتيال عديد القيادات العليا في هياكل الحزب وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله، إضافة إلى تدمير جانب كبير من القدرات العسكرية للحزب، ما جعل هذه التداعيات العميقة بمثابة لعنة على نتنياهو, حيث أنّ إقدامه على فتح جبهة شمالية لدفع حلفائه إلى مزيد دعمه جعله مرّة أخرى يجد نفسه أمام أوضاع مخالفة لما تتطلّبه أولوياته، فقد مثّلت النهاية السريعة للحرب في جنوب لبنان نهاية لمحاولاته المتكرّرة اليائسة لتوسيع دائرة الصراع.
ومع إسقاط نظام الأسد في سوريا، الذي تولّت تركيا مهمّته بلعب دور رأس الحربة عبر الجولاني مباشرة بعد شهر من الضربات التي تلقّاها حزب الله وذلك في ديسمبر سنة 2024، فحصل بذلك إسقاط ثاني أركان محور المقاومة في الشرق الأوسط، وهو ما أدّى إلى اهتزاز المحور وتراجع منسوب تأثيره الإقليمي ومن خلاله مزيد إضعاف وتراجع النفوذ الإيراني، لكن التراجع الذي انتشى به الكيان سحب في الآن ذاته البساط من تحت قدمي نتنياهو، في البداية نظرا إلى أنّ ذريعة عداء حزب البعث السوري للكيان لم تعد موجودة، غير أنّ رئيس حكومة الكيان اندفع إلى محاولة يائسة لصناعة صراع آخر عبر التوغّل في الأراضي السورية واحتلالها ممنّيا النفس بأن يخلق ذلك انطباعا ولو واهيا لمحاربته الجماعات الإسلامية المتطرّفة، ومرّة أخرى يفشل نتنياهو في بلوغ مراده بعد عدم تحرّك الجولاني ضدّ إسرائيل، ويفسّر عدم تحرّك الجولاني بتحكّم تركيا في الوضع السوري بالتنسيق مع الولايات المتّحدة الأمريكية واللتان تدفعان بقوّة سوريا الجديدة إلى الانضواء تحت الاتّفاق الإبراهيمي ودخول بيت الطاعة الصهيوني، وبذلك لم يبق أمام نتنياهو أيّ خيار سوى مواجهة إيران ذاتها بصورة مباشرة بعد خوضه لمعارك مع أذرعها لم يغنم منها تحقيق أولويّاته الذاتية.
بحلول سنة 2025 خسرت إيران جزءا هامّا من تأثيرها الإقليمي في المنطقة إذ أنّ تحجيم الحشد الشعبي في العراق وسقوط نظام الأسد في سوريا وخسائر حزب الله في جنوب لبنان لم تترك لإيران حلفاء مؤثّرين في المنطقة سوى أنصار الله الحوثي في اليمن، ونظرا لحجم المتغيّرات التي تجلّت ارتداداتها على جماعة الحوثي من خلال مراجعتهم لعديد الحسابات رغم حفاظهم على خيار استعمال القوّة العسكرية في ما يتعلّق بملفّ غزّة وإرغام الإدارة الأمريكية على مفاهمات بشأن عدم قطع انسيابيّة الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب دون التزام 'صعدة' بالحياد في معركة غزة، وقد وجدت إيران نفسها بعد جملة هذه الأحداث شبه وحيدة إقليميا في ظلّ اقتراب مواجهة الكيان الصهيوني وحلفائه، وهو ما زاد في تسهيل أيّ تصعيد في المواقف ضدّها من طرف تل أبيب وفقا لرؤية ومصالح نتنياهو.