اخبار المغرب
موقع كل يوم -العمق المغربي
نشر بتاريخ: ٢٦ أيار ٢٠٢٥
مقعدان، ميكروفونان، وضيف أو أكثر حسب السياق.. هكذا تحولت المقابلة الصحفية من جنس كلاسيكي إلى صيغة إعلامية حديثة أتاحتها المنصات الرقمية. البودكاست، هذا النمط الجديد من الاستجواب الصحفي الذي يمزج بين العمق والمرونة، أضحى أكثر الأنماط الإعلامية رواجا لدى الجمهور الرقمي، وخاصة الشباب.
وظهر مصطلح البودكاست لأول مرة عام 2004 على يد الصحافي البريطاني بن هامرزلي، في مقال نشرته صحيفة The Guardian، خلال محاولته إيجاد وصف لنوع جديد من المحتوى الصوتي الرقمي، الذي يمكن تحميله والاستماع إليه في أي وقت. وجاءت الكلمة نتيجة دمج بين 'iPod'، مشغل الموسيقى الشهير من شركة آبل، و'Broadcast' التي تعني البث الإذاعي.
ورغم أن هذا النوع من المحتوى لم يعد مرتبطًا بجهاز iPod، فإن المصطلح ترسخ في القاموس الإعلامي، ويُستخدم اليوم للإشارة إلى أي مادة صوتية تُبث عبر الإنترنت وتُستهلك حسب الطلب، كما يُطلق أيضاً على المقابلات السمعية البصرية التي تُعرض على المنصات الرقمية.
ومع تزايد الطلب على محتوى يعكس القضايا اليومية بلغة قريبة ومباشرة، أصبح البودكاست واحدا من أكثر الأجناس الإعلامية تأثيرا في تشكيل الوعي، بل وحتى في دفع الشباب نحو الاهتمام بالشأن السياسي والمشاركة فيه.
وفي هذا السياق يرى الصحافي ومحلل الأحداث، عبد العزيز كوكاس، في تصريح لجريدة 'العمق المغربي'، أن البودكاست، كجنس إعلامي حديث، يحمل إمكانيات كبيرة في إعادة إدماج الشباب في الحياة السياسية، لكنه يشدد في المقابل على أنه 'لا يمكن لأي جنس إعلامي، مهما كان جديدا أو قديما، أن يحل محل الخطاب والعمل السياسي'.
واستند كوكاس في طرحه إلى فكرة فلسفية لابن خلدون حول كون السياسة ضرورة وجودية للإنسان، وليست مجرد وسيلة إعلامية أو ظرفية، بل هي ناتجة عن طبيعة الإنسان في 'التزاحم'، أي التنافس والتدافع، مما يحتم تنظيم العلاقات السياسية.
ويعتبر كوكاس أنه في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، لم يعد البودكاست مجرد صيغة جديدة للإعلام السمعي البصري، بل بات 'جنسا إعلاميا قائما بذاته، يعيد تشكيل العلاقة بين الإعلام والمتلقي، وبين وسائط الاتصال وفئات واسعة من الجمهور، وعلى رأسها فئة الشباب، التي لم تعد تجد نفسها في قنوات التأطير التقليدية'.
ويضيف أن 'البودكاست يمكنه أن يعيد الشباب إلى الفعل السياسي، لا فقط كمستهلكين للمحتوى، بل كمشاركين بالنقد والتفاعل، بفضل ما يتميز به من بساطة ودفئ في العلاقة بين المتحدث والمستمع'، وهو ما يراه كوكاس وسيلة لـ“كسر الجدار الرسمي الذي يفصل الخطاب السياسي التقليدي عن الشباب الذين لا يشعرون بأن هذا الخطاب يعبر عنهم أو عن أحلامهم وإحباطاتهم'.
ويؤكد المتحدث ذاته، أن البودكاست 'أكثر إنسانية وصدقا'، على حد تعبيره، لأنه لا يكتفي بنقل الأخبار وتحليل الوقائع، بل يمثل 'مساحة جديدة للحوار والتساؤل، ولإنتاج وعي سياسي نقدي متجدد'.
وأضاف أن 'تحرر البودكاست من رقابة المؤسسات التقليدية، سواء كانت إعلامية أو سياسية، هو ما يجعله جاذبا لفئة الشباب، ويمنحهم فضاء للتعبير الحر والنقاش العمومي، بما يعيد بناء الثقة بين المواطن والسياسة بعد سنوات طويلة من التيه والإحباط'.
ورغم ذلك، يحذر كوكاس من الخلط بين الدور الإعلامي والدور السياسي، مشددا على أن 'البودكاست لا يجب أن يتحول إلى منصة لفاعلين سياسيين متخفين خلف الميكروفونات'، مضيفا: 'لا يمكن لصحفي البودكاست أن يتحول إلى فاعل سياسي، لأن السياسة لها صناعها ورجالها، الإعلامي مؤثر، لكنه ليس سياسيا، بل وسيطا ينقل الحوار بين مختلف الفاعلين'.
ويختم كوكاس بالتنبيه إلى خطورة 'تسييل' الأدوار داخل الفضاء الرقمي، قائلا: 'الكثيرون ممن يتخفون خلف الميكروفونات يعتبرون أنفسهم الأنقى سياسيا، وينصبون أنفسهم أوصياء على الحقيقة، وهو ما يلحق ضررا كبيرا بالإعلام وبالحقل السياسي، لأن اختزال السياسة في المحسوبية والانتهازية يضرب في العمق مشروع البناء الديمقراطي'.
من جانبه، يرى حمزة الفضيل، صحافي ومقدم برنامج بودكاست على منصة يوتيوب، أن تنامي الإقبال على البودكاست في السنوات الأخيرة يعود إلى عدة عوامل، في مقدمتها 'أن البودكاست يبث على وسائط رقمية سهلة الاستخدام، ويمنح المتلقي إحساسا بأنه جزء من المحتوى الذي يشاهده'.
وأشار الفضيل إلى أن هذه الصيغة التفاعلية تتيح 'إمكانية التحكم في وقت المشاهدة، والإعادة متى شاء المستخدم، بالإضافة إلى هامش حرية أوسع في النقاش'.
ويعتبر الفضيل أن هذه الخصائص تفسر جزئيا 'ملل الجمهور، وخاصة الشباب، من الخطابات التقليدية المكررة'، في مقابل ما يقدمه البودكاست من بدائل أكثر تفاعلا وارتباطا بتجاربهم اليومية.
ويؤكد حمزة أن البودكاست له أدوار متعددة، خاصة في المجال السياسي، حيث 'لا يكتفي بتقديم المعرفة، بل يشجع أيضا على الانخراط في الشأن العام والعمل السياسي، بمعناه الواسع، وليس بالضرورة شكله الحزبي الضيق'.
ورغم ما يتيحه هذا الصنف الإعلامي من فرص تواصل جديدة، يلاحظ الفضيل أن الأحزاب السياسية في المغرب 'لم تنفتح بعد بالشكل الكافي على صناعة البودكاست'، مضيفا: 'هناك محاولات، لكنها ما تزال محدودة، وتعكس استمرار الرهان على الوسائط التقليدية، وهو ما يجعل الأحزاب تفشل في الوصول إلى فئات واسعة من الشباب'.
ويختم الفضيل بالتأكيد على أن البودكاست السياسي قادر على لعب دور حيوي في تجديد النقاش العمومي، وتحفيز وعي شبابي مختلف، قائلا: 'البودكاست يقدم محتوى معرفيا وسياسيا في ان واحد، ويفتح النقاش حول قضايا الشأن العام بطريقة تفاعلية ومفتوحة'.