اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ١٩ تموز ٢٠٢٥
حين قرأ ألفرد نوبل نعيه عن طريق الخطأ، لم يجد فيه إشادة بعقله، ولا احتفاءً بإنجازاته، بل وُصف بأنه «تاجر الموت». هكذا رآه الناس، وهذا آخر ما ذُكر عنه. لقد امتلك نوبل المعرفة باختراع الديناميت، واستخدم في مجالات مدمّرة في الحروب، لكن غفل عن الأثر الذي تركه في نفوس الآخرين، لأنه لم يُدرك أن الناس لا يتذكرون ما قلته، ولا ما صنعته، بقدر ما يتذكرون ما جعلتهم يشعرون به.
وفي زمنٍ أصبح فيه الذكاء الاصطناعي متاحًا للجميع، تارةً تصبح عالمًا نوويًا مثل أوبنهايمر، وتارةً أخرى مخرجًا سينمائيًا مثل كريستوفر نولان، وأخرى كاتبًا روائيًا مثل دوستويفسكي، يبقى التفاضل الحقيقي بيننا فيما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي إدراكه حتى الآن هو النية الطيبة، والمبدأ، والصدق، والإخلاص، والوفاء في التعامل أو بمعنى آخر الأخلاق الحميدة. ففي السابق من كان يملك العلم والشهادات العليا كان يملك القوة المؤثرة، حتى ولو لم يتحلَّ بأي قيمة تُذكر، كان يُمكن الصبر عليه لما يقدمه من علم. أما الآن، فقيمة المعرفة باتت متاحة للجميع وبثمنٍ بخس ما يقارب ستة دنانير شهريًا إن تطلب الأمر الاشتراك مع OpenAI، أو مجانًا مع DeepSeek نستطيع من خلالها بناء مشاريعنا، والحصول على العلم الذي نريده في أي وقت، بل والتحكم في مخرجاته حتى نصل إلى مستوى يفوق ما تقدمه أعرق الجامعات، مثل أوكسفورد وستانفورد وكلية لندن البريطانية، فقط بإتقان فن هندسة الأوامر.
نحن جيل لم يشهد الثورة الصناعية الأولى ولا الثانية ولا الثالثة، لكننا نشهد الآن الثورة الصناعية الرابعة، وهي ثورة الذكاء الاصطناعي في بدايتها وسرعة تطورها في زمن انقلبت فيه الموازين، حين كان الجميع يتصارع ويتسابق وراء الشهادات والعلاقات ذات المصالح الشخصية المفرطة التي تتجاوز حدود المنطق والمصلحة العامة، ويُهدر فيه الوقت في مناسبات لا فائدة منها، وتجمّعات نهاية الأسبوع مع أناس لا ينسجمون معهم، فقط لتحقيق مصالح مؤقتة. وبعد انتفاء المصلحة، تختفي هذه الصداقة، ويُعاد استنزاف الطاقة كل مرة، حتى يبلغ المرء العقد السادس أو السابع من عمره، ويكتشف، متأخرًا، أن لديه المال والشهادات والمناصب، لكنه يفتقر إلى أناسٍ صادقين، داعمين، مستمعين، ومخلصين. أما الآن، ومع الذكاء الاصطناعي أو بالأحرى الإبداعي، الذي غيّر مجرى العالم في جميع المجالات العملية والاجتماعية والشخصية فقد كسر هذه الدائرة أو السلسلة. إذ بات بإمكان طفل في الخامسة من عمره أن يبني مشروعًا خاصًا به دون الحاجة إلى أحد خارج محيط جدران غرفته. فماذا ينقصه الآن؟ اذ ينقصه وجود أشخاص حقيقيين، يبعثون الطمأنينة، ويضيفون للسلام الداخلي من أهل وأصدقاء وزملاء. وهنا تبدأ رحلة البحث عن هذه المزايا النادرة.
لذا، اغتنم هذه الفرصة الآن في خلق بيئة أكثر اتزانًا بدلًا من النزاعات العملية والمنافسات غير الضرورية، فالأفكار لا تنتهي، والقمة تتّسع للجميع، والذكاء الاصطناعي يفعل كل شيء، إن لم يكن الآن فبعد أيامٍ قليلة. وتبقى الأخلاق الأصيلة، والنية الطيبة، والمبادئ الإنسانية فوق كل شيء. هي معادلة بسيطة، كلما كان الشيء متاحًا للجميع، فقد قيمته وبريقه وتميّزه. وكلما ندر، زادت قيمته وارتفع الطلب عليه. فلا تكن مثل نوبل، الذي أدرك، متأخرًا، أن قيمته لا تُقاس بما اخترعه، بل بما تركه في قلوب من حوله، ما دفعه لاحقًا لتأسيس جائزة نوبل، تكفيرًا عن الأثر الذي تركه اختراعه في نفوس البشر. ولحسن حظه، أنه استوعب ذلك، فغيره رحل دون أن يعي ذلك. لذا نحن نعيش في مرحلة «الذكاء» الخارق لكن «النبْل» نادر.
م. أسماء السعيدي