اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ١٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥
أمجد جمال -
منذ إعلان منصة أبل تي في بلس عن مشروع جديد يحمل توقيع المخرج والكاتب فينس جيليجين، ارتفع سقف التوقعات إلى حد غير مسبوق. كيف لا، وهو الاسم الذي يقف خلف مسلسلي Breaking Bad وBetter Call Saul، المصنفين بين أهم ما قدمت الدراما التلفزيونية الأمريكية.
ولهذا، لم يكن غريبًا أن يتحول مسلسل Pluribus إلى واحد من أكثر الأعمال المنتظرة هذا العام، وأن يحقق، بعد عرض ثلاث حلقات فقط، تقييمات نقدية وجماهيرية مرتفعة، أكدت أن جيليجين لا يزال بارعاً في صنع عوالم درامية جديدة تثير الجدل والفضول، وتدفعنا للتعلق بالشخصيات التي يكتبها.الخيال العلمي يتحدى الإنسانية
فكرة المسلسل تبدأ من إشارة غامضة قادمة من الفضاء إلى الأرض. هذه الإشارة لا تحمل تهديدا مباشرا ولا تنبئ بغزو من مخلوقات غريبة؛ فقط تحمل معلومة، شيفرة بيولوجية يلتقطها العلماء ويعملون على محاكاتها داخل معمل حيوي، لتنتج في النهاية تحويرا جينيا للبشر يشبه «الفيروس» قادرا على تغيير الإنسانية بشكل جذري.
هذا الفيروس يوحّد البشر حرفيا في كيان عقلي واحد.. وعي جمعي يضم كل العقول والذكريات والمعلومات والمهارات المكتسبة لملايين البشر. من خلاله يصبح الناس بلا اختلافات، بلا صراعات، بلا طمع ولا غيرة ولا كراهية ولا احتياجات. عالم بلا حروب ولا مجاعات ولا تلوث.. عالم كامل من «النقاء» و«السعادة» و«السكينة»!
لكن الثمن؟ اختفاء المشاعر، واختفاء الفردية، واختفاء الإرادة الحرة. يصبح الجميع نسخة واحدة، صوتا واحدا، عقلا واحدا.
البطلة.. والأقلية الناجية
وسط هذا التحول الكوني تنجو فقط 13 شخصية حول العالم من العدوى، إحداهم هي البطلة كارول ستوركا، التي تجسدها النجمة ريا سيهورن بأداء تمثيلي جذاب وقوي يليق بخريجة مسلسل Better Call Saul.
كارول، كاتبة روائية متحققة، تفقد صديقتها المقربة «هيلين» بعد إصابتها بالتعديل الجيني، ثم تجد كارول نفسها في مواجهة البشر المتحولين بعد سيطرتهم على الأرض. فهم يعتبرونها استثناء يجب استيعابه، وهي تحاول إنقاذ العالم من هذا التأثير.
لكن المدهش أنهم لا يطاردونها بالعنف، بل باللطف. يحاولون تلبية كل رغباتها، يقدمون لها الخدمة والراحة، كأنهم اختاروا أن يكونوا عبيدا لها؛ فقط كي تقبل أن تكون «واحدة منهم»!
في المقابل، يظل هؤلاء العارفون بكل شيء عاجزين عن فهم سبب نجاة كارول من التحوير الجيني ولماذا ما زالت ترفص وتقاوم؟ لماذا يرفض عقلها أن يذوب في العقل الجمعي؟ وهي نفس الأسئلة التي تجعل المشاهدين على حافة مقاعدهم في انتظار الحلقات الجديدة أسبوعيا.
خيال علمي يستدعي الكلاسيكيات
الفكرة المحورية في Pluribus ليست جديدة تماما؛ فالخطر البيولوجي أو الفضائي الذي يغيّر البشر تيمة تكررت كثيرا في السينما. وقد أقر جيليجين أنه تأثر بفيلم الخمسينيات الكلاسيكي Invasion of the Body Snatchers (1956) الذي عُرض فيه عالم تُستبدل فيه نسخ أخرى بلا مشاعر بالنسخ البشرية، بعد استهداف للأرض من كائنات فضائية.
لكن التأثير الأكثر مباشرة يظهر في النسخة الأحدث لذلك لفيلم والمأخوذة عن نفس الرواية، وهو فيلم The Invasion (2007) الذي نقل فكرة عدوى «اللامشاعر» من مستوى «الاستنساخ» إلى «الانتقال الفيروسي»، وهو ما يبدو أن جيليجين استلهمه بقوة، مع تطويره وتوسيعه لفكرة Pluribus، ووضعها في إطار أعمق من الناحية الفلسفية.
البطل المناسب للمسلسل
يأتي اختيار بطلة العمل كارول، لتكون مهنتها روائية رومانسية بالتحديد ليضيف دلالة فلسفية واضحة لطبيعة الصراع في المسلسل. فـ«كارول»، بصفتها كاتبة، تؤمن تلقائيا بأن لكل إنسان صوته الخاص وطريقته المميزة في التعبير. الإبداع عندها قائم على الفردانية، وعلى فكرة أن الأسلوب والبصمة هما ما يجعل الشخص مميزا عن الآخرين. لذلك يصبح رفضها للجائحة أمرا طبيعيا؛ لأنها جائحة تسرق «الفرد» نفسه.
أما كونها كاتبة رومانسية تحديدا، فيضيف سببا آخر يجعل العالم الجديد غير مقبول في عينيها. فالرومانسية وقودها المشاعر، حتى المؤلمة منها، وترى في الانفعال الإنساني قيمة لا يمكن استبدالها بالمنطق البارد أو الكمال المصطنع. لذلك لا يمكن لكارول أن تقتنع بسهولة بأن عالما خاليا من المشاعر الإيجابية أو السلبية هو عالم أفضل!
هل هذا العالم يستحق الإنقاذ؟!
ما يميز Pluribus عن كل الأعمال المشابهة حقا أنه لا ينحاز بوضوح لأي من طرفي الصراع. فهو لا يشيطن العالم الجديد، لكنه لا يجمله بالكامل. يُبقي الباب مواربا أمام تساؤل محيّر:
هل يمكن أن نقبل عالما بلا شر.. حتى لو كان ثمنه اختفاء «الذاتية»؟ أو بكلمات أخرى: هل عالمنا يستحق الإنقاذ؟
يطرح المسلسل عدة أسئلة ضمنية أخرى، هل يمكن لإنسان أن يعيش بلا مشاعر، بلا خوف أو حب أو طموح أو غريزة؟ وهل مبدأ الصراع جزء من طبيعتنا، أم مجرد خلل نحتاج أن نعالجه؟
جيليجين عبّر عن قصده في تصريح مهم لموقع Deadline يقول فيه: «في هذا العمل أحببت أن أترك الباب مواربا أمام تقبّل أن تكون جزءًا من «الاحتمال الآخر». أريد أن أترك القرار للمشاهد. أنا أحب مشاهد المناظرة حين تكون بين شخصيتين يملك كلاهما حُجج مقنعة.. الأمر يشبه مباراة تنس رائعة. أريد لهذا المسلسل أن يتيح تلك الإمكانية للمشاهدين؛ أن يفكروا، ويناقشوا، ويعودوا للمشاهدة مرارا. هذه أعظم هدية يمكن أن يقدمها صانع مسلسل أو فيلم لجمهوره».
هذا التصريح يلخص فلسفة Pluribus، باختصار ليس مهما إذا كان العالم الجديد جيدا أو سيئا.. المهم أن المسلسل يعرضه بحياد ودقة، بحيث يستطيع المشاهد أن يتخيل نفسه داخله، وأن يختبر المعضلة بنفسه.
التحام العام والخاص
غير ذلك، تكشف الحلقة الأولى أن كارول لديها مشكلة شخصية إضافية: فهي غير راضية كُليا عن أعمالها الأدبية التجارية التي تكتبها لإرضاء السوق، وتختار أن تؤجل دائما مشروع روايتها الجدية التي تعبّر عنها بصدق.
هذا يكشف عن صراع داخلي يجعلها بطلة مناسبة جدا لهذه القصة؛ فهي تواجه في الخارج جائحة تريد محو الفردية من العالم بشكل حرفي، وفي الداخل رغبة إبداعية مكبوتة في كتابة عمل يكشف عن حقيقتها. وكأن المسلسل يقول إن معركتها ضد جائحة «العقل الجمعي» هي في الوقت نفسه معركتها لتنشر أخيرا رواية ذاتية تعبر فيها عن نفسها بأصالة وصدق، وتتحرر مؤقتا من عبودية تصنيف الروايات «الأكثر مبيعا» من المنظور الإبداعي.
ظل كورونا.. والذكاء الاصطناعي
حين يشاهد المتفرج هذا المسلسل، من الطبيعي أن يربط فكرته بجائحة كورونا، أو بصعود الذكاء الاصطناعي وتحوّله إلى عقل جمعي عملاق يخدم البشر. لكن المفاجأة أن جيليجين نفى ذلك تماما، مؤكدًا أن فكرة العمل تراوده منذ ثماني سنوات، أي قبل ظهور كورونا وقبل انفجار موجة الذكاء الاصطناعي الحديثة.
ومع ذلك، يصعب إنكار أن المسلسل يتقاطع – ولو دون قصد – مع قلق عالمي متنام وحقيقي: وهو القلق من فقدان «الإنسان»، سواء عبر الجينات أو الخوارزميات.
خروج من منطقة الراحة
ما فعله جيليجين في Pluribus هو أنه خرج لأول مرة من دائرة عالم الجريمة والعصابات الذي صنع مجده في مسلسليه السابقين، لكنه احتفظ ببعض ما يميزه، مثل البناء البطيء نسبيا، والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والرمزيات، الشخصيات الرمادية، وطرح الأسئلة الأخلاقية الصعبة.
فضلا عن اختياره لمدينة «الباكيرك» في ولاية «نيو مكسيكو» لتدور بها الأحداث، على غرار المسلسلات السابقة، وهو اختيار لا يبدو من ورائه أي دلالة، سوى همسة حنين في أذن عشاق Breaking Bad وBetter Call Saul.
حوار ذكي وموسيقى أخاذة
ورغم أن Pluribus يتناول فكرة خيالية جامحة، تربط العلم بالتشاؤم والفلسفة، جاءت الصورة خالية من البهرجة والمبالغة في المؤثرات والتغريب الشكلي. إلا أنها احتفظت بكآبة ووَحشة من منظور واقعي حيّ.
هناك تميز لافت في عنصر الحوار، براعة في المناظرات بين الشخصيات، حيث لكل شخصية منطق مقبول. والأهم كيف يضعنا السيناريو في حالة من الفضول الكبير لنقبل دون امتعاض أي حوار حتى لو كان قائما على سكب المعلومات، والتصريح بالدوافع والأهداف.
الموسيقى التصويرية لـ«ديف بورتر» جاءت لسد كل فراغ لم تملأه الصورة بالدهشة. التيمة الرئيسية للموسيقى تستخدم صوت الهمهمات الجماعية بلحن مُقبض، وبنبرة أقرب لصوت الروبوتات. في حين تقطع تلك الهمهمات صرخة عذبة بصوت أنثوي نقي وعذب، وكأن هذا الصوت يحاول التمرد على الأصوات الجماعية المصطنعة، في تعبير موسيقي واضح عن صراع البطلة ضد جائحة «العقل الجمعي».
ختاماً
رغم عرض ثلاث حلقات فقط، استطاع Pluribus أن يفرض نفسه كأحد أهم أعمال هذا العام. إنه مسلسل يتعامل مع الخيال العلمي كعدسة تتأمل واقع الإنسان وخواصه الجوهرية: طموحه، ضعفه، وحيرته بين بلوغ السعادة وتقبّل بعض التعاسة.
في الحلقات الثلاث الأولى نجح فينيس في إثارة فضول الجمهور، وجعل مواقع التواصل الاجتماعي تنفجر بالتفسيرات والتوقعات والنظريات حول أحداث المسلسل، في محاولة لفك بعض طلاسمها. وإذا استمر المسلسل بهذا المستوى، فقد نكون أمام عمل يضاف بجدارة إلى سلسلة نجاحاته المضيئة، وإلى قائمة أفضل ما قدمته الدراما الأمريكية.
