اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ٢٠ تموز ٢٠٢٥
بعد أسابيع من انتهاء عرضه، عاد مسلسل Severance إلى الأضواء بقوة هذه الأيام، بعدما اكتسح ترشيحات جوائز الإيمي لهذا العام بـ27 ترشيحاً في فئات بالغة الأهمية، أبرزها أفضل مسلسل درامي، افضل ممثل رئيسي لـ«آدم سكوت»، وأفضل إخراج وسيناريو، إلى جانب ترشيحات تمثيلية وتقنية متعددة لمجموعة من أبطاله وصنّاعه.
هذا الإنجاز أعاد التأكيد على مكانة المسلسل كـظاهرة تلفزيونية نادرة، حيث نجح في الجمع بين الجمهور والنقاد معاً، وهي معادلة لا تتحقق كثيراً في زمن المنصات المتخمة بالإنتاجات المتشابهة.
واحدة من أقوى لحظات الموسم الثاني كانت الحلقة السابعة Chikhai Bardo والحلقة العاشرة Cold Harbor، وقد نالتا تقييمات جماهيرية ضخمة وضعتهما جنباً إلى جنب مع أعظم ما أُنتج في تاريخ التلفزيون، مثل أهم حلقات Breaking Bad و Game of Thrones، سواء من حيث التصعيد الدرامي المفاجئ أو الإبهار البصري للمشاهد.
ورغم أن بعض الأسئلة تمت الإجابة عنها، فإن المسلسل واصل احتفاظه بغموضه وسحره السوداوي، مما جعل الفضول يتضاعف تجاه الموسم الثالث، الذي أعلنت منصة أبل عن تجهيزه حالياً ليُعرض في وقت قريب.
هندسة العقل البشري
المسلسل قائم على فكرة تجمع بين الفلسفة والخيال العلمي، وتدور الأحداث عن مؤسسة عمل كبرى تسمى «لومون»، تقوم بشطر عقول الموظفين لديها، أي إجراء عملية طبية تفصل ذاكرة الشخص لتتوزع بين حياته المهنية وحياته الشخصية، بحيث يعيش الإنسان بشخصيتين لا يعرف كل منهما الآخر. والهدف المزعوم هو إحداث توازن بين الحياة الاجتماعية والحياة المهنية.
نتابع الأحداث بعين البطل «مارك سكال» (آدم سكوت)، موظف في لومون. بعد موت زوجته، انضم مارك إلى برنامج شطر الذاكرة للهروب من حزنه واكتئابه، لكن بعد مرور عامين على توظيفه، يبدأ في الشك في نوايا هذه المؤسسة، عندما يواجه قرائن على وجود نشاط غير شرعي بداخلها، وأن الموظفين يخضعون لمناخ عمل قمعي واستغلالي.
موسم ثانٍ يكشف الألغاز
ينتهي الموسم الأول بمحاولة من الموظفين للتمرد على رؤسائهم في لومون، واسترداد حريتهم بامتلاك كامل وعيهم وذاكرتهم الإنسانية.
فيما يحاول الموسم الثاني كشف الغموض، الذي يحيط بشركة «لومون»، عبر الإجابة على ثلاثة أسئلة جوهرية تشغل أذهان المشاهدين:
أولاً: ما هو ذلك المشروع السري الذي يستوجب فصل ذاكرة الموظفين عن حياتهم الشخصية؟ وثانياً: ما طبيعة المهام التي يُكلَّف بها هؤلاء الموظفون «المشطورون» دون أن يدركوا غايتها الحقيقية؟ وثالثاً والأكثر إثارة، ما العلاقة الخفية التي تربط زوجة مارك، التي يُفترض أنها ماتت، بهذه الشركة الغامضة؟
الخيال العلمي والواقع
يستخدم المسلسل أدوات الخيال العلمي ليعكس قلق الإنسان المعاصر من واقعه، بعمق يفوق ما تقدمه الدراما التي تدّعي الواقعية المطلقة. فالخيال هنا ليس مجرد زخرفة، إنما وسيلة لتجاوز حدود المنظور العادي ورؤية أزمات المجتمع من زاوية أكثر وضوحاً.
من خلال خلق عالم افتراضي، بإحداثيات علمية متقدمة، نجح المسلسل في تفكيك مفاهيم، مثل السلطة المنفلتة والرأسمالية المتوحشة. وقدّم رؤى فلسفية عن فقدان الهوية، والتلاعب بالعقول، وتفسخ القيم الإنسانية.
مسلسل Severance، في جوهره، يعالج الفكرة التي راودت كثير من البشر العاديين، حول منظومة العمل المؤسساتي، وكيف يمكنها سلب روح العامل، واستغلاله، وقتل الفردية بداخله، وتحطيم حياته الاجتماعية بحجة الإخلاص والالتزام المهني.
حتى بات هذا الإنسان لا يملك ذاكرة أو وعياً سوى مهنته؛ ولكن ماذا لو طبقنا المعنى السابق بشكل حَرفِي؟!
الدراما والديستوبيا
من قلب هذا النوع الدرامي، تأتي الديستوبيا (أدب المدينة الفاسدة) كأداة نقدية تتخيل المستقبل المشؤوم، لا بوصفه تطورا طبيعيا للحياة، بل كمصير كئيب محتوم إذا لم يتدارك البشر أخطاءهم. وهنا قد تتشابه بعض أفكار المسلسل مع أفكار سبق أن تم تقديمها في أعمال سابقة تنتمي لنوعية الديستوبيا.
يمكن القول إن هناك أوجه تشابه بين رواية «1984» للكاتب جورج أورويل، ومسلسل Severance، رغم اختلاف السياقات والوسائل السردية. ففي 1984، يُسود نظام قمعي يمارس مراقبة شاملة، ويتحكم في اللغة والمعلومات والتاريخ، بهدف إزالة الهوية وإخضاع الأفراد لسلطة مطلقة.
بينما في Severance، تُستخدم تقنية فصل الذاكرة كأداة للسيطرة على الموظفين، مما يحولهم إلى أجزاء من آلة مؤسسية تُخفي عنهم حقيقة واقعهم الخارجي، مما يخلق بيئة عمل خالية من الحرية والوعي الكامل.
من جانب آخر، يمكن ملاحظة تشابه بين فكرة المسلسل مع فيلم الخيال الرومانسي Eternal Sunshine of the Spotless Mind (٢٠٠٤). والعملان يعالجان فكرة الهروب من الخسارات العاطفية المؤلمة عن طريق الفقدان الجزئي للذاكرة، بشكل طوعي.
مفارقات مرئية
من كبرى المفارقات في مسلسل Severance هو إخراج العمل بسمات مرئية قديمة، تتناقض مع فكرة التطور المذهل الذي وصل له العلم، ومكننا من إجراء عمليات طبية معقدة في عقول البشر، حيث جاءت عناصر الديكور والمعمار مصنوعة وفق النمط الفني السائد في منتصف القرن العشرين mid-century design، وذلك ما يظهر في شكل المكاتب وطرقات المباني والأثاث والأسقف، تظن أننا في الستينيات أو السبعينيات من القرن الماضي.
المُلاحظ أيضا أن الناس في هذا العالم يستخدمون الهواتف الخلوية، لكن أنواع سياراتهم عتيقة جدا! هناك وسائل رقمية تحقق مهام متقدمة، رغم الشكل البدائي للسوفت وير والغرافيكس في الحواسب الآلية، التي يستخدمها الموظفون!
وكلها أمور عملت على تحييد عنصر الزمن في المسلسل. بل وجعلت البعض يشك بأن الأحداث تدور في عالم موازٍ مُتخيل، بإحداثيات علمية مختلفة جوهرياً عن عالمنا الطبيعي.
عالم غريب كئيب
هناك تبسيط متعمّد في الشكل العام للعالم، وخاصة داخل مكاتب العمل في لومون، حيث الأزياء الكلاسيكية غير المزخرفة التي تنتمي لموضة عصر آخر.
والاكتفاء بالألوان الأساسية المحايدة وبدرجات باهتة، وخاصة الأزرق والأخضر. والاعتماد على الإضاءة البيضاء الساطعة بمصابيح النيون المزعجة للأعين. إضافة للنظام الروتيني الآلي في حركة الموظفين وسلوكياتهم التي تشبه الآلات.
كلها سمات إخراجية تضفي طابعاً من الكآبة والتغريب، وهو منحى موفق تماماً في إخراج المسلسل، حيث يمكن اعتبار كل ما سبق أدوات حسية للتلميح بأن هناك خللاً يعتري منظومة القيم الإنسانية في هذا العالم.
شخصيات تتحول
في الموسم الثاني، شهدت شخصيات الأبطال الرئيسيين تحولا يعكس تعقيد تجربتهم الثنائية بين عالم العمل وحياتهم الخارجية، أدى هذا التحول في بعض الأحيان لصدام نفسي وعاطفي بين الذات المهنية والذات الخارجية للموظف. ذلك الصدام وصل إلى ذروته في الحلقة الأخيرة تحديدا، وطرح مزيداً من التساؤلات عن القادم في القصة.
لكن المُدهش كانت التحولات، التي طرأت على شخصيات من إدارة «لومون» نفسها، مثل شخصيتي السيدة «كوبيل» والسيد «ميلتشيك». رأيناهما بدور الشر المحض في الموسم الأول، لكنهما كشفا عن جوانب إنسانية هشّة وغير متوقعة في الموسم الثاني.
كلاسيكية تلفزيونية معاصرة
مسلسل Severance أعاد رسم معادلة الخيال العلمي التلفزيوني، قدم حبكة مثيرة تتصاعد وتكشف عن أسرارها على نار هادئة، ورفع من شأن التفاصيل الصغيرة ودورها الفعّال في سرد ما بين السطور، كما عمّق استكشافه لمفاهيم فلسفية كالهوية والوعي الذاتي والحرية الفردية، مما جعله يقع بسهولة بين من أفضل الإنتاجات الدرامية في السنوات الأخيرة.