اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الأول ٢٠٢٥
في أروقة الجهاز الحكومي ومفاصله، من قاع الهرم الإداري إلى ذُروته، حيث تتشابك المهام وتتقاطع المسؤوليات في كل مرتبة، تتكشّف، في الغالب، الفجوة بين الاجتهاد والنظام. فحين تُعرض المسألة على موظّفٍ أو مسؤول لا يجد في سِجِلّ «التشريع» نصّاً صريحاً يُحتكم إليه، غالباً ما يتقدّم إلى القرار متّكئاً على تقديرٍ شخصي، يضبطه الحذر حيناً، ويغلبه التوجّس حيناً آخر. ثمّ لا يلبث ذلك القرار أن يصعد في مدارج الهرم، حتى يلقاه من فوقه بتردّدٍ أو اعتراض، فيُعاد تقويمه تارةً، أو يُنقض تارةً أخرى، ويمضي الأمر في دوّامةٍ عوديةٍ تُشبه الرّحى، تطحن الوقت وتفتك بالجهد، فلا تُبقي من كفاءة الأداء إلا أطلالاً تتناوب عليها المراجعات.
وحين يُصبح الزمن المخصّص للإنجاز وقتاً مستهلكاً في تصحيح ما أُنجِز، ترتفع كلفة العمل حتى تتجاوز كلفة القرار ذاته، ويغدو المسير الإداري في مؤسسات الدولة أشبه بظلٍّ يتبع جسدَه متأخّراً، لا يُدركه إلا وقد تبدّل الزمان وتغيّر المكان. عندها تُصاب الحركة الحكومية بما يُشبه الشلل البطيء، وتتحوّل السرعة في تلك المؤسسات إلى حلمٍ إداريٍّ لا يتحقّق، تُذكر في الخطط، وقلّما تُرى في الواقع.
وليس لهذا الارتباك دواءٌ في كثرة التعليمات أو تكرار التوجيه، ولا في تراكم المراسيم أو استبدال الوجوه؛ فالمسألة لا تُعالج بقراراتٍ متشظّيةٍ تزدحم ولا تلتئم، بل بتأسيس الفكر، إذ لا يُصلح اضطراب القرار إلا منهجٌ فكريٌّ يُوحّد وجهة البصر قبل أن يُوحّد الاتجاه، ويعلو على تقديرات الأفراد بميزانٍ تُحكّمه «الرؤية» لا المزاج. فالإدارة التي تُسيّر أمورها بغير «رؤيةٍ» ناظمةٍ، إنّما تمشي على غير هدى، كقافلةٍ في صحراءٍ بلا نجمٍ هادٍ، يتفرّق ركْبُها في الجهات، كلٌّ يظنّ أنه يسير صوب المَنجى، حتى إذا أرهقه التّيه، أدرك أنّ الوصول لا يكون بالخُطا، بل بالبصيرة التي ترسم للطريق غايته قبل أن ترسم معالمه.
«الرؤية».. قِوام التدبير الإستراتيجيّ
وهنا يجدر أن نستحضر معنى «الرؤية» في مقامها الاستراتيجيّ الأرفع؛ عقلاً جامعاً يُنظِّم طرائق التفكير في مؤسسات الدولة ويهندس مسالكها. فهي الميزان الخفي الذي يُقيم الأمور على قِوامها، ويضبط المسارات كما تضبط البوصلة وجهة الركب إذا لفّه التّيه وأضلّه الحدس، فلا تميل به عن قصدٍ، ولا تتركه لعيّ رأيٍ أو ارتجال.
تلك هي «الرؤية»؛ تصوّرٌ بعيد المدى، يستشرف غداً أعدل نظاماً وأكمل بناءً من حاضرٍ يُثقلُه الاعتياد. غداً لم يُخلق بعد ليُرى بالعين، لكنّ العقول النيّرة قادرة على أن تُبدعه من رحم الفكر، فتستخلص من الفكرة لُبابها، وتُحوّلها من أفقٍ منشودٍ إلى واقعٍ ملموس، ومن حُلمٍ ساكنٍ في المخيّلة إلى صورةٍ تسعى على الأرض. فهي ليست أمنيةً تُقال، بل صناعة وعيٍ تُمارس، ولا تُولد في فراغ، بل في عقلٍ يدرك أنّ الغد لا يُنتظر، إنما يُصنع كما تُصاغ المعادن في أتون النار؛ يصقله الاجتهاد، ويصونه الإدراك، حتى يصير الحلم قانوناً، والقانون نهجاً، والنهج دولةً تمشي على هدى البصيرة لا على استحياء العادة.
فـ«الرؤية»، إن هي استنارت بالبصيرة واستندت إلى الفهم العميق لحركة الدولة وغاياتها، انقلبت من رسمٍ يُعلَّق في الدواوين إلى مِلاكٍ يُهندس القرار في أدقّ تفاصيله. وحين تبلغ ذلك المقام، تغدو طريقاً تسير فيه الدولة، لا مجرّد عنوانٍ تكتبه لتراه، بل سلوكاً تسلكه لتبلغه؛ ويصير لكلّ قرارٍ يصدر عن مؤسساتها قبلةٌ فكريةٌ يتجه نحوها، فلا يتناقض قرارٌ مع آخر، ولا تتدافع المسارات في تضادٍّ يبدّد الطاقة ويهدر الزمن؛ بل تنساق القرارات جميعاً إلى غايةٍ واحدة. وحين تُدرك مؤسسات الدولة هذا المعنى، تستقيم أركانها الفكرية والإدارية على سواءٍ من الاتّزان، فلا تُتَّخذ القرارات استجابةً للحاجة الآنية، بل انطلاقاً من «رؤيةٍ» ترسم الغاية قبل أن تضع الخطوة، وتُحدّد المآل قبل أن تبدأ المسير.
ولـ«الرؤية»، في مقامها العملي، سُلّمٌ دقيق البِناء، تُنزِل به الفكرة من علوّ التنظير إلى أرض الفعل والإنجاز. فهي لا تُلقى ارتجالاً، ولا تُدبّر بالعواطف، بل تُنسج بخيوطٍ متناسقةٍ من الأهداف والروافد. تبدأ بأركانها العُليا التي تُعرف بـ«الأهداف الرئيسية»، إذ تُقيم بها بنيانها وتُحدّد بها غاياتها الكبرى. ثمّ تتفرّع عنها مقاصدُ أدقّ وأصغر، تُعرف بـ«الأهداف الفرعية». ويستدعي تحقيقُها الاستناد إلى «استراتيجيّات» محكمةٍ، فتصير كلّ غايةٍ أصلاً لوسائل، وكلّ وسيلةٍ طريقاً لخطة، وكلّ خطةٍ معبراً لأداة، ولكلّ أداةٍ ميزانٌ يُوزَن به أداؤها كما يُوزَن العدل بإنصاف الميزان، إذ لا يثبت ميزان «الرؤية» إلا إذا استوت كفّتاه: الفكرة والعمل.
«الرؤية».. إذ تؤول «تشريعاً» نافذاً
فإذا لم تُرسم هذه السلالم بجلاءٍ وتكاملٍ، وظلّ صوغ «التشريعات» على ارتجالٍ أو في غشاوةٍ، تاه القرار في دوائرِه وضلّ عن غايته. عندئذٍ يُتَّخذ القرار مرّتَين: مرّةً خوفاً من الزلل فيُنكفّ عن التنفيذ، ومرّةً أخرى ندماً على خطأٍ لم يكن ليقع لو أنّ «الرؤية» سبقت الخطوة، وأضاءت للعاملين موطئ أقدامهم قبل أن يخطوا إليه. ذلك أنّ القرار، إذا خلت أرضه من «رؤيةٍ» تهديه وتُمسك بزمامه، انقلب اجتهاداً قاصراً، يُخطئ المقصد وإن صلحت النية، ويُعيد الكرّة في الميدان نفسه. فما أكثر القرارات التي استنفدت جهدها في تصحيح نفسها، ولو وُضعت على قاعدة «رؤيةٍ» راسخةٍ لكفاها من السير خطوةٌ واحدة، تُدرك بها البصيرة ما لا تدركه الأقدام في طول المسير.
أما «الرؤية» الحيّة، فهي تلك التي تأتي بـ«تشريعٍ» نافذ؛ يجعل منها المعيار الذي تُوزَن به القوانين قبل أن تُسنّ، تُعرض عليها النصوص كما تُعرض الأحكام على الميزان، فما وافقها ثبت، وما خالفها رُدّ أو أُعيد صوغه على قدرها. إذ لا كمال لـ«التشريع» ما لم يتشبّع بروح «الرؤية» التي أنشأته، ولا بقاء له إن تجرّد من غايتها.
وأما القرار في موضع غياب النص، فصوابه أن يُرجّح كفة «الرؤية»، بما تشمله من «أهداف» وما تقترن به من «استراتيجيّات»، وذلك على كل اعتبارٍ سواها، فيتّجه حيث تهدي مقاصدها، ويقوّي أركانها واستراتيجيّاتها، لأنّ «الرؤية» هي البصيرة حين يُعمي الحرف، وهي الدليل حين يغيب الدليل، وهي النصّ الأعلى الذي تستمدّ منه النصوص معناها وشرعيتها. فمن استنار بها لم يضلّ، ومن خالفها وإن تذرّع بالمادة والفقرة، فقد حكم على قراره بالموت في مهده، لأنّ القرارات لا تحيا إلا إن سرت فيها روح «الرؤية» كما تسري الحياة في الجسد.
«المجلس الأعلى للاقتصاد».. المرجع الأسمى للرؤية الأمّ
الفكر، إن لم يأوِ إلى هيكلٍ يحتضنه، تاه في الأذهان قبل أن يظهر في الأعيان. ومن هنا، فإن «الرؤية» لن تُدرَك بجهود المبعثرين، بل بانسجام العقول تحت رايةٍ واحدة، إذ يجيء لزاماً أن يُقام لها «مجلسٌ أعلى للاقتصاد»، يُعنى بالعقل الاقتصاديّ للدولة، يُوحّد الفكر قبل أن يُوحّد القرار، يضبط النسق الكلي؛ فيكون هو المقرّ الأسمى لـ«الرؤية» الأمّ، ومنها تتشعّب «الرؤى الفرعية» التي تُقيم أركانها وتستكمل بها تفاصيلها. وهو الذي يُحدّد «الأهداف الرئيسية» وما يتفرّع عنها من «أهدافٍ فرعية» أدقّ، ثمّ يرسم «الاستراتيجيّات» التي تُفضي إلى تلك الغايات، فيجعل من الوزراء رُسُل تنفيذٍ لتلك «الاستراتيجيّات»، لا صُنّاع سياساتٍ يُقوّمونها على أهوائهم، بل أدواتٍ للعقل الجمعي، تسير بهدي «الرؤية» لا بهواجس الأفراد.
فإذا انتقل الوزير من موقع مُقرّ سياساتٍ آنيةٍ تُدار على عَجَل، أو واضعِ «أهدافٍ» مؤقّتةٍ تتبدّل بتبدّل الظروف، إلى مقام منفّذٍ لـ«استراتيجيّاتٍ» وطنيّةٍ عُليا، اكتسبت مؤسساتُ الدولة عقلاً واحداً وإن تفرّقت أيديها، وصارت السلطةُ التنفيذيّة جسداً تتحرّك أعضاؤه بإرادة عقلٍ واحدٍ يُدرك المقصد ويَزِن الخطوة. وحين تبلغ «الرؤية» هذا السموّ، وتغدو فكراً ناظماً لا شعاراً مرفوعاً، ومبدأً حاكماً لا زينةً لفظيّة، تستوي آلية اتخاذ القرار في مدارجها من القمّة إلى القاعدة، ويُصبح التوجيه متّصلاً كالسلسلة لا انقطاع فيها، وتزول الازدواجيّة بين النيّة والفعل، والمصلحة والعزم.
آنذاك، لا يُقاس نجاح مؤسسات الدولة بكثرة ما تُصدره من قراراتٍ وأوامر، بل بمدى اتّساق تلك القرارات مع «الرؤية» الكبرى التي منها تستمدّ مشروعيتها، وفيها تجد وحدتها، وبها يُعرف قدرها في ميزان الوعي والتدبير؛ إذ لا تُقاس رصانة الدول بعدد من يُقرّر فيها، بل بصفاء العقل الذي يفكّر عنها ويقضي لها.
ولكي لا يُصبح المجلس فكراً يُتداول في المجالس دون أثرٍ في الواقع، كان لزاماً أن يُقرَن سلطان «الرؤية» بميزان المحاسبة؛ فيُقاس أداؤه بمؤشراتٍ موضوعيّةٍ، لا سيما تلك التي تعكس أثرَه في ميزان التجارة، ونموّ ناتج الصادرات والاستثمار، وتكامل السياسات، وتحسّن ترتيب البلاد ضمن بيئة الأعمال، لا بما يصدر عنه من بياناتٍ ومقرّراتٍ فحسب. وكذلك، تُعرض عليه أعمال الجهات كما تُعرض القضايا على القاضي؛ فيقرّ منها ما أصاب «الرؤية»، ويعيد النظر فيما حاد عنها، فيكون بذلك عقلاً يُفكّر، وعيناً تُراقب، وميزاناً يُقوّم، لا سلطةً تُنازع ولا جهازاً يُزاحم، وإنّما هو مرجعٌ أعلى تضبط به البلاد إيقاعها الاقتصاديّ كما يُضبط اللحن بمقامه، فلا نشاز في قرارٍ، ولا اضطراب في إيقاعٍ عام.
فلنتأمل مؤسسات الدولة، لا في صورتها الراهنة، بل في هيئتها المنشودة، يوم تُدار قراراتُها بعين «الرؤية» لا بعين الساعة، وببصيرة الغاية لا ببصر العاجلة؛ يوم يغدو كلّ قرارٍ، وإن صغُر شأنُه، شعاعاً من عقلٍ أكبر منه، يمتدّ منه وإليه، فلا يخرج عن دائرته ولا يُخالف منطِقَه. يوم تصير القوانين جسوراً تمضي بالأمة إلى مقاصدها، لا أسواراً تُحيط بها خوفاً من الخطأ وتمنعها من الحركة.
وإذا ارتقت المنظومة هذا المقام من الانسجام، وعاد القرار نتاج فكرٍ لا ردّ فعل، تُفتح للأمة أبواب الرشد. فإذا أبرمت الأمة أمرها على وعيٍ ورشدٍ، كان الإصلاح أقرب من الأمل، وأبقى من العادة. عندئذٍ، لن تكون سرعة الإنجاز رهينة المزاج، ولا كفاءة الأداء أسيرة التكرار، لأنّ الجهاز الحكومي سيتحوّل من أجسادٍ تعمل منفصلةً إلى آلةٍ متناغمةٍ تنبض بإيقاعٍ واحد، تحرّكها إرادة عقلٍ واحدٍ متبصّرٍ، لا أيدٍ كثيرةٌ متردّدة. وحين تبلغ مؤسسات الدولة ذروة ذلك الاتساق، حيث يتوحّد الفكر وتنتظم الآلة، سيُدرك القارئ، لا ببرهانٍ مكتوبٍ بل بواقعٍ محسوس، أنّ «الرؤية» لم تكن حلماً يُروى على الورق، بل عقلاً يُمارَس في الفعل، ومنهجاً تُحيي به «الرؤية» البلاد كما تُحيي الروح الجسد.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً.
عبدالله السلوم


































