اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة الجريدة الكويتية
نشر بتاريخ: ١٠ تموز ٢٠٢٥
ربما تكون هذه هي المرة الثامنة خلال 11 عاماً التي يعود فيها ما يُعرف بمشروع «البديل الاستراتيجي للرواتب» إلى تصدُّر واجهة الأحداث، رغم علامات الاستفهام العديدة حول المشروع الذي لم يُنشر قط خلال السنوات الماضية، فتزايدت في كل مرة التساؤلات حول أهدافه وفلسفته وآثاره الاقتصادية بالتحديد على سوق العمل، إلى جانب كفاءة تنفيذه وجودة نتائجه، فضلاً عن شرح الجهة المعنية، وهي ديوان الخدمة المدنية لمفهوم المشروع أصلاً إن كان بديلاً عن ماذا؟ واستراتيجياً لأي هدف؟الأكثر سوءاً
ربما تكون هذه هي المرة الثامنة خلال 11 عاماً التي يعود فيها ما يُعرف بمشروع «البديل الاستراتيجي للرواتب» إلى تصدُّر واجهة الأحداث، رغم علامات الاستفهام العديدة حول المشروع الذي لم يُنشر قط خلال السنوات الماضية، فتزايدت في كل مرة التساؤلات حول أهدافه وفلسفته وآثاره الاقتصادية بالتحديد على سوق العمل، إلى جانب كفاءة تنفيذه وجودة نتائجه، فضلاً عن شرح الجهة المعنية، وهي ديوان الخدمة المدنية لمفهوم المشروع أصلاً إن كان بديلاً عن ماذا؟ واستراتيجياً لأي هدف؟
الأكثر سوءاً
ومع تأكيد أن غموض المشروع لمدة تناهز 11 عاماً في حد ذاته أمر سيئ، لكونه يمنع المختصين والجهات المستقلة من إبداء الرأي الفني تجاهه، مما يقلل من فرص إصداره وفق معايير محكمة واقتصادية وواضحة في الخطط والتنفيذ، إلا أن الأكثر سوءاً هو ما يتوارد في وسائل التواصل دون نفي من الجهات الرسمية عن استخدام البديل الاستراتيجي كأداة عقاب تعالج الأخطاء التي ارتُكبت عند فوضى «إقرار الكوادر» قبل نحو 15 عاماً، بخطيئة تغيير المراكز المالية والقانونية للعاملين في القطاع العام بكل آثارها الاقتصادية والاجتماعية السلبية، وصولاً إلى مخاوف مستحقة من أن يكشف مشروع البديل الاستراتيجي عن الأسوأ على الإطلاق، بأن يكون هدفه معالجة مالية محضة دون أهداف اقتصادية تستحق وصف «الاستراتيجي» المطروح في المشروع.
لذلك فمن المهم أن يتحاشى المشروع الخاص بالبديل الاستراتيجي أي سياسات سلبية متوقعة تحوّله إلى عبء على الإدارة والمالية العامة، وبالتالي الاقتصاد بشكل عام، مقابل تطبيقه وفق معايير اقتصادية مستدامة.
جباية وتقليص
فالمتمعن في مشاريع القوانين التي تم إقرارها أخيراً أو نشرت مسوداتها، يجد أن البعد المالي الوقتي مُقدم في الأولوية الحكومية على الإصلاح الاقتصادي، وقد تبيّن ذلك مثلاً في إصدار قانون التمويل والسيولة (الدَّين العام)، الذي ركّز على الاقتراض لسد العجز المالي دون الإنفاق على مشاريع مستدامة، أو قانون رفع قيمة الرسوم القضائية بعذر تضخم الأسعار في مختلف الخدمات الأخرى، مع أن واجب الدولة هو كبح التضخم وليس التعامل معه كأمر واقع، إلى جانب مسودة قانون التمويل العقاري التي تعتبر أن أزمة السكن في البلاد مرتبطة بحجم القرض الإسكاني وليس شُح الأراضي، فضلاً عن القرار المجمّد المتعلق برفع رسوم أملاك الدولة، الذي كان يستهدف زيادة ضئيلة في الإيرادات دون أي فكرة لتحويل هذه الأراضي إلى فرص عمل وبيئة استثمار وجذب الخبرات وتنويع الخدمات وكبح الممارسات الاحتكارية وضبط التضخم... بالتالي فإن اقتصار أي مشروع أو خطة على جزئيات التقليص أو الجباية المالية هو بلا شك يعبّر عن قصور عميق في فهم احتياجات الاقتصاد.
رواتب وعمل
ومع تأكيد الاختلال الواضح في تكاليف باب الرواتب الذي يلتهم 61 بالمئة من إجمالي الميزانية العامة للدولة، إلا أنه يجب الاعتراف بأن ضبط هذه التكاليف لا يمكن أن يتم بعقلية «المكاسر» في الرواتب وخفض قيمتها أو إلغاء بدلات ومميزات، فما سيتم توفيره حتى لو بلغ مئات الملايين من الدنانير سيُعاد صرفه على آلاف القادمين الجدد لسوق العمل الحكومي الذي يوظف نحو 85 بالمئة من العمالة الوطنية الذين تقدر أعدادهم خلال 5 أو 6 سنوات قادمة بـ 250 ألف شاب، وبالتالي فإن البديل الاستراتيجي الحقيقي والمطلوب يجب أن يكون صلبه وأساس نجاحه هو تحفيز العمالة الوطنية على العمل في القطاع الخاص، سواء من خلال الشركات المحلية، أو في المشاريع التي يفترض أن ترتبط بالاستثمارات الأجنبية، أو مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو المشروعات الصغيرة والمتوسطة أو أملاك الدولة وفق برامج تنفيذ زمنية تبدأ بأعداد محدودة وتستهدف لاحقا شرائح واسعة.
وهنا أيضاً من المفيد القول إن التحفيز للعمل في القطاع الخاص ليس ماليا بالضرورة، بل بتسهيل وتطوير بيئة الأعمال كالإجراءات، لا سيما الأراضي والتراخيص وكبح البيروقراطية أمام المبادرين، ولعل نموذج التضييق في الاقتراض والمعاملات التي يتعرّض لها مبادرو «الباب الخامس» يجعلهم أقرب الى المتهمين من كونهم مبادرين!
إدارة وإنتاجية
كذلك من المهم ألا يقتصر البديل الاستراتيجي على تقليل أعباء المالية العامة، بل يجب أن يكون عنواناً لمشروع إصلاح في الجهاز الإداري بالدولة يتضمن ما هو أعمق من تعديل أو زيادة الرواتب من جهة ضرورة أن يشمل المشروع دمجاً للهيئات والقطاعات المتشابهة بعقلية تدير الخدمات والفرص وفق احتياجات الاقتصاد ووضع آليات متقدمة لقياس الإنتاجية والتقييم، إذ إن الكويت تنفق سنويا ما يعادل 50 بالمئة من الناتج المحلي، أي أعلى من المتوسط العالمي البالغ 37 بالمئة، لكن بكفاءة نتائج تبلغ 0.54 نقطة، مقارنة بمتوسط عالمي عند 0.74 نقطة، وبالتالي فإن مشروع البديل الاستراتيجي سيظل ناقصا ما لم يوجه الإنفاق المالي الضخم في اتجاه رفع كفاءة الخدمات والإنتاج.
ولا شك في أن قياس كفاءة الخدمات والإنتاج مسألة تحتاج إلى أدوات وآليات أعمق بكثير من «البصمة الثالثة»، التي ابتكرها ديوان الخدمة المدنية ليضمن الحضور دون النظر إلى الإنجاز.
وربما يكون من الخطأ ربط البديل الاستراتيجي بتحسين المستوى المعيشي للمواطنين، فالأول يفترض أنه يستهدف إصلاحا في الجهاز الإداري بالدولة ومعالجة اختلالات الاقتصاد، أما الثاني فيحتاج إلى سياسات دعم بعضها مالي من خلال تحديد الشرائح المستحقة وبعضها الآخر غير مالي من خلال سياسات تكبح التضخم والاحتكارات، لا سيما الوكالات والأراضي والرخص وعمليات التأجير بالباطن لأملاك الدولة وتوطن الصناعات الاستهلاكية والغذائية والدوائية لخفض تكاليف الاستيراد والتخزين، فضلاً عن العمل على تحسين الخدمات العامة، كالتعليم والصحة والسكن، والتي تتحمل الأسرة الكويتية تكاليف أشبه بالضريبة، بسبب سوء الخدمات.
ومع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة دراسة أثر البديل الاستراتيجي على اشتراكات التأمينات والراتب التقاعدي، وغيرها من المسائل ذات العلاقة، فإنه لضمان عدم المساس بالمراكز المالية والقانونية لعموم الموظفين، فالأفضل أن يطبّق على الموظفين الجدد القادمين لسوق العمل وفق تاريخ مُعيّن، فنكون بعد سنوات قادمة من التطبيق أمام نظام إداري ووظيفي جديد وعادل ومنطقي ويتجاوز اختلالات النظام الحالي كافة.
نقاش موسع
هذه كلها، مع ما سبقها من محاذير ومتطلبات، تستوجب التوسع في مناقشات إقرار البديل الاستراتيجي، حيث لا يكون محتكرا في دائرة النقاش الحكومي ما بين ديوان الخدمة المدنية ومجلس الوزراء، إنما يجب أن يشمل النقاش الموسّع: التأمينات الاجتماعية والقطاع الخاص والنقابات والأكاديميين، فالتغيرات الجوهرية في نظم العمل بالعديد من دول العالم - ومنها دول متقدمة - وليس في الكويت وحدها غالبا ما يكون مثار خلافات واعتراضات، وهو ما يجعل مشاركة الأطراف ذات العلاقة مسألة غاية في الأهمية.