اخبار الكويت
موقع كل يوم -جريدة القبس الإلكتروني
نشر بتاريخ: ٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
في السنوات الأخيرة، أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من المشهد العالمي التكنولوجي، لكن دخوله إلى المناهج التعليمية دون ضوابط قانونية واجتماعية، يفتح الباب أمام خطر من نوع جديد، خطر لا يرتبط فقط بالإنتاج المعرفي، بل بإعادة تشكيل علاقة الطالب مع الحقيقة نفسها. فالصورة، التي كانت في المدرسة وثيقة بصرية تساعد على تثبيت المفاهيم وتعميق الفهم، إن كانت فوتوغرافية أو رسمة، تتحول الآن إلى مجرد احتمالية لخوارزمية قابلة للتأويل، لا تحمل يقينًا، ولا ترتبط بمرجع أصلي ثابت أو معروف.
هذا التغيير في مرئيات كتب المدرسة لا يجب اعتباره مجرد نقلة تكنولوجية، لأن التعليم يتأسس على الثقة: الثقة في المعلم، في الكتاب، وفي مراجع وزارة التربية.
اليوم، حين يدخل التلميذ إلى مراحل التعليم المبكرة، ويتربى على صور ومخططات منتجة باستخدام تقنيات برامج الذكاء الاصطناعي، يصبح من السهل أن ينشأ جيل لا يتعامل مع الصورة كـ«دليل». الصورة تتحول إلى مجرد اقتراح بصري، قابل للشك، وقابل لإعادة التفسير والتلاعب.
جامعات مرموقة، مثل Harvard، وStanford وOxford، بدأت فعلياً بتقديم مساقات متخصصة في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وأخطاره، وهذا مؤشر مهم ليس على تطور التقنية، بل على قلق المنظومة الأكاديمية من فوضى معرفية مقبلة.
ما حدث مؤخراً في الكويت من لغط اجتماعي حول صورة داخل أحد الكتب المدرسية، والتي أثارت نقاشاً واسعاً حول كونها صليباً فوق باخرة، ثم قيل أنها مجرد سارية لرفع الأعلام البحرية، مثال واضح. فهي في الحقيقة، ليست هذا ولا ذاك، وقد تكون هذا وذاك كذلك. لأنها صورة ولّدتها تقنيات برامج الذكاء الاصطناعي، التي تستخدم تقديرًا بصريًا لتقترح شكلًا يتوقعه عقل الانسان ضمن احتمالاته.
بمعنى أدق، هي «خدعة» مبنية على توقعات متراكمة، وليست على مرجع تاريخي أو سياقي مؤكد، هي ليست رسمة انسان له نواياه ومرجعيته وسببيته، وليست صورة فوتوغرافية حقيقية تؤرخ لحظة من الزمن، هي احتمالية خوارزمية فحسب، كالسراب الرقمي.
هذه اللحظة بالذات، لحظة الشك الجماعي، تبين بوضوح الخطر القادم، الذي سيؤثر سلباً في المصداقية التعليمية والإعلامية والسياسية كذلك. لم يعد المجتمع قادراً على الاتفاق على ما يراه، ولا على أصل الصورة، ولا على معناها الأول، خصوصاً عندما تكون المرئيات خالية تماماً من هذه الصفات الأكاديمية الانسانية.
نحن أمام نقلة تكنولوجيّة تفكك مرجعية الحقيقة، وتجعل من الواقع احتمالاً.
إن مستقبل التعليم لا يُقاس فقط بسرعة التحديث أو وفرة الأدوات التقنية، بل بقدرة الجيل القادم على الوثوق في مؤسساته ومصادر الحقيقة. وإذا تم التعامل مع الذكاء الاصطناعي في المدارس باعتباره اختصارًا اقتصاديًا، ووسيلة للتوفير من تكلفة الرسوم والمواد البصرية، فإن ما يتم ادخاره ماديًا اليوم سيُدفع فكريًا وثقافيًا لاحقاً. فالمعرفة حين تصبح متاحة للعب الخوارزمي، تتحول إلى مادة سهلة لإعادة سردية الوقائع التاريخية والحقائق الحضارية.
نحن لسنا أمام تهديد جمالي أو تقني فقط، نحن أمام تهديد حضاري، لأن الحضارة لا تُبنى على صور «محتملة» أنتجتها آلة، بل على سردية متفق عليها، لها جذور ومراجع ومصادر وتوثيق، وإن لم تُحط تقنيات الذكاء الاصطناعي داخل المؤسسات بقوانين أخلاقية واضحة، وبحماية تاريخية أكاديمية، ورقابة اجتماعية تحمي الخصوصية، ولم يتوقف الاتكال الأكاديمي على هكذا تكنولوجيا لتوفير البصريات التعليمية، فإنها ستصبح قادرة على صناعة وعي جديد، لا يسعى للحقيقة، بل على توقعات الآلة عنها والتشكيك بكل ما تتيحه الآلة في الوقت نفسه.
وهذه بداية خطيرة لصنع أجيال تتخذ معلميها قدوة لها، ونماذج للصدق المعرفي.
طارق الخضري


































