اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ١٤ حزيران ٢٠٢٥
ما تفرقه السياسة أحياناً بين البلدين يحافظ على تقاربه التاريخ والجغرافيا والثقافة والسياحة والدراسة والمودة والنسب والفن دائماً
العلاقات بين الدول مهما بلغت من تقارب أو تمتعت بالتشابه لا تسير في خطوط مستقيمة. تقارب التاريخ والجغرافيا والثقافة يضمن القوة والاستمرارية والمرونة. والروابط الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية تشهد منحنيات صعود وهبوط، لكنها قلما تنقطع أو تنتهي. وفي زمن الـ'سوشيال ميديا' لم تعد اختلافات الرؤى أو خلافات الرأي أو حتى الإعلان رسمياً عن وجود تباينات المصادر التي تستقي منها الشعوب أخبار العلاقات، بل أصبحت منصات 'التواصل الاجتماعي' مصدراً، وأثيرها صانعاً، ومحتواها مؤججاً للخلافات، حتى لو لم تكن موجودة.
هذه الأيام، يتحدث كثر عن توتر أو تغير في العلاقات بين مصر والسعودية. غالب الحديث صادر من الناس العاديين، لا من القيادات السياسية في البلدين. ما يدور في الشارع الحقيقي أو الافتراضي يلقي بظلاله على أثير الإعلام التقليدي حيناً، ويدفع المسؤولين إلى التوضيح حيناً آخر.
زيارة ترمب
قبل نحو أسبوعين، وبعد أيام من زيارة الرئيس الأميركي ترمب السعودية وقطر والإمارات، تصاعدت أحاديث شعبية وتناثرت تفسيرات من قبل مصريين في جلساتهم أو عبر تفاعلهم على 'السوشيال ميديا'، دار معظمها حول قراءات في زيارة ترمب للدول الثلاث، وعدم ورود أو تجنب أو تجاهل ذكر مصر في تلك الزيارة التاريخية، سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
حفلت منصات الـ'سوشيال ميديا' بكم هائل من القراءات والتكهنات. وعلى رغم أن السمة الغالبة في ذلك الحراك كانت تساؤلات عن وجود فجوة أو جفاء أو خلاف بين مصر من جهة، والدول التي زارها ترمب، لا سيما السعودية من جهة أخرى، فإن الأسئلة وكذلك الإجابات عكست كحال 'السوشيال ميديا' دائماً توجهات وأيديولوجيات وأغراضاً مختلفة.
ولم تخل الأيام القليلة السابقة للزيارة من التكهنات والقراءات الشعبية. ما ذكره الإعلام الغربي والعربي كان يؤكد أنها زيارة ليست كسابقاتها من جهة، إضافة إلى أن الرئيس ترمب في فترته الرئاسية الثانية يختلف عن الأولى (2016 - 2020)، وذلك من جهة القرارات المفاجئة والتحركات الجريئة، وكذلك التصريحات العفوية التي لا تلتزم بالضرورة قيود الدبلوماسية الصارمة.
عرف الجميع أن زيارة الرئيس ترمب للمنطقة، والسعودية في القلب منها، بمثابة إعادة رسم لخريطة المنطقة، وإعادة هيكلة لعلاقات أميركا مع أطرافها، وإعادة ترتيب لأوراق منها المبعثر بفعل الحروب والصراعات، لا سيما غزة، ومنها الجديد من منطلق صعود أطراف لتكون في واجهة المرحلة الجديدة، وهبوط أخرى.
الحديث عن غزة في مصر يؤجج وجهات نظر وتوجهات لا حصر لها. الغالبية المطلقة متضامنة مع أهل القطاع، أما الموقف من 'حماس' فمختلف ومتناقض. بعض المصريين يحملها مسؤولية ما يتعرض له سكان غزة من جهود إبادة وتهجير، وآخرون ومنهم غير إسلاميين لكن يعتبرون الحركة ذات المرجعية الإخوانية (وإن أعلنت تخليها عنها قبل أعوام)، حائط الصد الأخير أمام أطماع إسرائيل. ويبقى هناك أولئك الذين انجرفوا وراء تديين القضية الفلسطينية، واعتبارها صراعاً إسلامياً يهودياً، لا صراع ضد دولة احتلال، إضافة إلى الواقعين في قبضة هوى الإسلام السياسي.
من جهة أخرى وعلى رغم أن مصر هي الدولة العربية الأولى التي أبرمت معاهدة سلام مع إسرائيل، وجرى التطبيع بين البلدين، فإن هوى الشارع المصري يبقى بعيداً كل البعد من التطبيع، بل يعاقب كثير من النقابات المهنية الأعضاء ممن يزورون أو يقيمون علاقات أو أنشطة مع إسرائيل.
وفي هذا الصدد، يتداول بعض المصريين ما يثار في الإعلام عن خريطة علاقات جديدة في المنطقة، لا تستبعد تقاربات أو علاقات مع إسرائيل، وهو ما يعتبره كثر من المصريين أمراً غير قابل للاستمرار، وإن استمر يعتبرونه غير مستدام.
شروط السعودية الواضحة والصريحة لحدوث أي تقدم على صعيد العلاقة مع إسرائيل وأبرزها حل الدولتين، وإعلان دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، ووقف العدوان على غزة واضحة وضوح الشمس سياسياً، لكنها، كحال السياسة، مثار نقاش وشد وجذب شعب.
ما كان يدور خلف أبواب المتخصصين والمحللين المغلقة من تفسير للأبعاد الاستراتيجية الجديدة، والتحولات الجيوسياسية المتسارعة، والمصالح السياسية والاقتصادية المتصارعة في الشرق الأوسط، لم يكن بالضرورة ما يدور في الشارع، لكن آثاره محسوسة، وأماراته واضحة.
أيقن الشارع المصري أن ما هو قادم يختلف كثيراً عما مضى. وعلى رغم مطاطية العبارة وسعة التفسير، فإن شعوراً سيطر على كثر مال صوب القلق مشوباً بالضبابية، وهو الشعور الذي يدفع منذ ذلك الوقت إلى حال من الحراك والبحث والنقاش، ومنه ما يتحول جدالاً ساخناً معتاداً يتحول بعضه عراكاً بالتدوين والتغريد.
صدارة منطقة الخليج، تحديداً السعودية، لزيارات الرئيس ترمب في جولاته الخارجية الأولى لم تكن رسالة شرق أوسطية فحسب، بل رسالة عالمية، لا سيما أن محطات الزيارات الأولى للرؤساء الأميركيين كانت عادة لدى الحلفاء التاريخيين والتقليديين مثل كندا وبريطانيا. وعلى رغم ذلك، تغاضى أو تجاهل بعض من المصريين هذه الجزئية، ووجهوا بحثهم صوب المكون المصري في الزيارة، وكذلك مآل حرب غزة في تلك الزيارة، وإعادة ترتيب أولويات المنطقة.
الشارع المصري قوامه نحو 108 ملايين مصري ومصرية، نحو 37 في المئة من هؤلاء أطفال دون سن الـ18 سنة، وعلى رغم أن بينهم مهتمين بالسياسة والاقتصاد والعلاقات، فإنه يمكن القول إن ما لا يقل عن 60 في المئة من المصريين مهتم بصورة أو بأخرى بمصر وعلاقاتها بمحيطها، وبالعالم الخارجي، وبمكانتها، وبالأدوار التي تضطلع بها في المنطقة وتأثيرها وتأثرها بالعالم.
الارتباط المصري - السعودي
نسبة كبيرة من هؤلاء مرتبطة بالسعودية، بصورة أو بأخرى، إن لم يكن لأن فرداً واحداً في الأقل من الأسرة أمضى أعواماً يعمل هناك، وعاد وأسرته بمستوى اقتصادي مختلف ودمج اجتماعي وديني للثقافتين معاً، فبناءً على علاقة أبدية تربط المصريين المسلمين بالسعودية وأهلها وكونها 'الأراضي المقدسة' حيث فريضة الحج وسنة العمرة، وإن لم يكن هذا أو ذاك، فبمعرفة يقينية أن العلاقة بين البلدين ضمان لرمانة ميزان منطقة الشرق الأوسط سلباً وإيجاباً.
بين مصر والسعودية ليست علاقات سياسية ودبلوماسية فحسب، هي علاقات جغرافيا وتاريخ، وثقافة تداخلت وتشابكت، لا سيما منذ سبعينيات القرن الماضي. ملايين المصريين اتخذوا من السعودية وجهة هجرة اقتصادية موقتة منذ سبعينيات القرن الماضي، وهي الهجرة التي دامت عقوداً لجانب كبير منهم، من بقوا وكذلك من عادوا يشكلون إحدى حلقات الوصل الحديث بين البلدين.
كذلك الحال بالنسبة إلى ملايين الحجاج والمعتمرين، ومثلهم الحالمون بالحج والعمرة، حلقة وصل واتصال وتعلق عاطفي لا تعترف بتوتر السياسة أحياناً، ولا يعنيها اختلاف الرؤى بين الحين والآخر. هذه الجموع اتخذت قراراً منذ عقود، وربما قرون، وذلك منذ أُسست السعودية عام 1727، وأصبحت هناك علاقات 'رسمية' لا شعبية واجتماعية وأخوية فقط بين البلدين.
'تشكل مصر والسعودية العمود الفقري لما يسمى الكتلة العربية المعتدلة الموالية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. العلاقات بين البلدين تتسم أحياناً بالود وأحياناً بالتوتر، إلا أن الروابط بينهما ترتكز بصورة كبيرة على الترابط الاقتصادي السليم. وعلى رغم وجود اهتمام مشترك بكثير من القضايا الاستراتيجية بين البلدين، فإن مستقبل العلاقات بينهما لن يكون بالضرورة استمراراً للحاضر'.
هذا ما ورد في ورقة عنوانها 'مفارقات العلاقات المصرية - السعودية' نشرها 'معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى' عام 2009. تغيرات عدة، وتحولات لا حصر لها جرت منذ ذلك التاريخ، لكن تظل العلاقات التاريخية والشعبية والثقافية والاجتماعية بين البلدين قائمة وراسخة ومستمرة، أما السياسية والدبلوماسية، وعلى رغم غلبة التوافق وسطوة التفاهم، فإن خلافات تحدث واختلافات تطرأ بين الوقت والآخر.
وقتها أشارت الورقة إلى أن حجم مصر وتاريخها جعلاها تؤدي دوراً مهماً على الساحة العربية. ومع صعود السعودية والدور الذي أداه النفط في سبعينيات القرن الماضي، وإقصاء مصر لاحقاً من جامعة الدول العربية عقب إبرامها معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، تغيرت الديناميكية موقتاً.
ومع عودة مصر إلى الجامعة عام 1989، استأنفت مصر دورها البارز في المنظمة العربية، فإن دور مصر الإقليمي شهد تراجعاً تاركاً فجوة ملأتها السعودية. وعللت الورقة التراجع في ضوء ما وصفته بـ'الخمول السياسي المتزايد للرئيس (السابق الراحل) مبارك'، وزيادة القوة المالية الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط للسعودية.
قد لا يعي جانب من الشارع المصري تفاصيل التاريخ المعاصر في هذا الشأن، لكن الجميع يعرف أن السعودية تخوض عملية إعادة بناء شاملة تتلخص في الرؤية التي وضعها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والمعروفة بـ'السعودية 2030'.
'رؤية السعودية 2030' تحوز على اهتمام المصريين، شأنهم شأن بقية شعوب الأرض التي تتابع باهتمام شديد ما يجري في السعودية من إصلاحات وتغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وانفتاح فكري وثقافي وفني ورياضي. الرؤية الثاقبة الجديدة في السعودية مجال خصب للنقاش مصرياً وعربياً وعالمياً.
مصرياً، قطاع عريض من المصريين يبدي إعجاباً وفخراً كبيرين بالسعودية الجديدة. آخرون يتمسكون بحبال الانغلاق والتقليدية متخوفون من المستقبل المنفتح، ومنهم من يعبر عن مخاوفه بالمطالبة بمزيد من الانغلاق في المجتمع المصري، وكأنه تعويض عن مسار التصحيح في السعودية.
في زيارة ترمب للسعودية، قال في خطابه الذي أشار فيه إلى رؤية السعودية 2030، إن 'التحول العظيم الذي تشهده المنطقة لم يصنعه المحافظون الجدد، ولا أولئك الذين يهبطون من طائرات فاخرة لإلقاء المحاضرات، بل صنعت هذه المعجزة على يد أبناء هذه الأرض، الذين عرفوا كيف يطورون أوطانهم بطريقتهم الخاصة'، موضحاً أن 'ما تراه اليوم في الرياض من تقدم وتطور، لم يكن نتيجة محاولات بناء الدول من الخارج، بل جاء من الداخل'، مضيفاً 'قد حققتم معجزة عصرية على الطريقة العربية'.
'عودة أميركا التاريخية إلى الشرق الأوسط'، على حد وصف البيت الأبيض لزيارة الرئيس ترمب للمنطقة، وعلى رأسها السعودية ما زالت حديث قطاع من المصريين. العلاقات المصرية - الأميركية تشهد منذ نشأتها تقاربات ملحمية وكذلك تباعدات مروعة.
مصر وأميركا والتأرجحات
اعتاد المصريون على مر العقود تباعداً ثم تقارباً يتلوه خلاف، ثم تفاهم وبعده تضارب، ثم توافق وهلم جرا. بين دور محوري في المنطقة (ومصالح إسرائيل في مقدمة الأولويات)، ودور في تطويق الإرهاب وحل النزاعات، وتحقيق السلام المشروط، والمساهمة في تحقيق مصالح وتوازنات قوى بحسب الحاجة، والقوة البشرية الهائلة، ومعها الفرص الاستثمارية والتجارية الواعدة، والعمق الأفريقي، والمكانة في شمال أفريقيا، والعلاقة جغرافياً وتاريخياً وأمنياً مع الشرق الأدنى وغيرها، تجد مصر لنفسها دائماً دوراً تراوح مكانته بحسب الاحتياج والتيار والاختيار الأميركي على مر العصور.
الأدوات كثيرة، والمنصات متعددة، وأساليب الضغط معروفة: المنح والمساعدات العسكرية والدق على أوتار حقوق الإنسان والأقليات والحريات الدينية والتأشيرات والبعثات، وغيرها، وأخيراً وليس آخراً تهجير أهل غزة، لا تنضب.
في الأعوام القليلة الماضية تتصاعد نبرات متسائلة لأغراض يعرفها المتسائلون حول إذا ما كانت أميركا ما زالت في حاجة إلى مصر؟! وجود لاعبين جدد، تغير توازنات القوى، صعود لاعبين وهبوط آخرين، تغيرات جذرية في الصراع العربي - الإسرائيلي، أو بالأحرى الصراع بين 'حماس' وإسرائيل، ضلوع قوى أخرى مثل الصين وروسيا في المنطقة، تحولات في طريقة التعاطي مع السياسة الخارجية في مصر، وضوح الرؤية بصورة كبرى مع قدر أوفر من المكاشفة في أعقاب ما يسمى 'الربيع العربي' وصعود نجم جماعة الإخوان المسلمين وإصرار دول غربية عدة، بينها أميركا، على استمرارهم في الحكم على رغم الرفض الشعبي المصري وقائمة طويلة من المتغيرات يطرحها المصريون على طاولات النقاش وعلى أثير 'السوشيال ميديا'.
حتى ما يوصف إعلامياً بـ'التقارب المصري - الإيراني' الحالي تحول في خلال ساعات معدودة إلى منصة تراشق إضافية، لكن تكاد تفوق في سخونتها غيرها من المنصات.
زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي القاهرة قبل أيام، ولقاؤه الرئيس السيسي، ووزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي، وتعبير الطرفين عن رغبتهما في تقوية العلاقات واستئناف الرحلات الجوية بين طهران والقاهرة، وهو ما قد يؤدي إلى عودة العلاقات الدبلوماسية التي انقطعت بينهما عام 1980 بسبب الترحيب المصري باستضافة شاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوي، أضافت مزيداً على منصات التنابز العنكبوتية.
في الأحوال العادية كان لمثل هذا التقارب أن يقابل إما بعدم اكتراث شعبي، أو بموجة تأييد عارم من قبل الداعين إلى تعدد التحالفات وتنوع العلاقات، إضافة إلى الفريق الذي يدعم ويؤيد أي داعم أو مؤيد لفلسطين، بغض النظر عن انتماءاته أو أهوائه أو أغراضه، وكذلك فريق رافض معارض مندد لا يرى في إيران سوى 'خطر تمدد شيعي'، و'محور تمدد شيعي' على حساب الغالبية المطلقة السنية في مصر.
هذه المرة، ظهرت أصوات مصرية عادية داعية إلى التعامل مع هذا 'التقارب' باعتباره ميزة مضافة، لا سيما في ظل التغيرات الطارئة في موازين القوة، والتحولات الكبيرة في التحالفات والمصالح. آخرون، ظلوا على نبرتهم المحذرة من مثل هذا التقارب.
التباعد أو التوتر أو اختلاف وجهات النظر الحالي بين مصر وأميركا يسير متوازياً مع المرحلة الجديدة في العلاقات بين السعودية وأميركا. المصريون يشعرون ويستنبطون توتراً أو تبايناً، لا سيما مع طرح الرئيس ترمب غير مرة فكرة 'استضافة' مصر أهل غزة، لحين تحويلها إلى 'ريفييرا' أو 'منطقة حرية'، وكذلك بعد 'تأجيل' زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لواشنطن التي كانت في حكم المؤكدة في مارس (آذار) الماضي، بعدها شاعت أنباء التأجيل.
كذلك أشارت تقارير صحافية إلى أن الرئيس المصري لم يزر واشنطن إلا بعد التأكد من التزام القواعد الدبلوماسية المعروفة، إضافة إلى معرفة موقف أميركا النهائي من حرب غزة وإعادة الإعمار ومصير الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
يشار إلى أن ما جرى أثناء استقبال الرئيس ترمب قادة في البيت الأبيض مما وصفه كثر بـ'الخروج على الأعراف الدبلوماسية' و'ضرب عرض الحائط بالمعمول به في اللقاءات الرئاسية' أعاد ترتيب كثير من أوراق الزيارات السياسية الرفيعة المستوى للبيت الأبيض.
قطاع من المصريين يعتبر توجيه دعوة لرأس الدولة لزيارة أميركا، لا سيما في بدايات الفترات الرئاسية، مؤشر تقارب بين البلدين، وتأكيد مكانة بلدهم. إنه القطاع نفسه الذي تنفس الصعداء حين تقرر 'تأجيل' الزيارة بعد ما رأوا ما تعرض له قادة دول من إحراج في أثناء مقابلة الرئيس ترمب.
في الوقت نفسه توقعت فئة من المصريين أن تجري الإشارة في أثناء زيارة الرئيس الأميركي للخليج إلى دور مصر في المنطقة، لا سيما في ملف الصراع الدموي الدائر على حدودها الشرقية في غزة، والتهديد القائم والمستمر بدفع سكان غزة إلى شمال سيناء هرباً من الحرب الدامية. وحين لم يحدث، لوحظ تصاعد نبرة غاضبة أو غير راضية بين بعض من مستخدمي الـ'سوشيال ميديا'، وهي النبرة التي يستغلها آخرون في تأجيج الأجواء والصيد في مياه التوتر العكرة، حتى لو كان التوتر ضئيلاً أو مرشحاً للحل في المستقبل القريب.
وكالعادة، يبرع أفراد وجهات في الانتظام والاندساس في مثل هذه الأجواء، إذ يتم العمل على النفخ في نيران أي اختلاف، وتأجيج شرر أي خلاف. بعضهم يتناقش بهدوء وتعقل حول قضايا تجد نفسها فاعلة في المشهد الراهن: مآل حرب غزة والموقف من فكرة تهجير أهل غزة، مصير القضية الفلسطينية المعرضة للتصفية في أعقاب عملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أمن مصر ووحدة أراضيها لا سيما ما قد تتعرض له شمال سيناء من تهديدات وتوترات، مستقبل العلاقة مع إسرائيل، ما يثار حول جزيرتي تيران وصنافير، الموقف من الإدارة السورية الجديدة التي يرى فيها مصريون تقوية من شوكة الإسلام السياسي وأملاً جديداً يجري بثه في جماعاته، الأداء الاقتصادي المصري وتشابك، وربما تعقد، تركيباته الحالية وهي مثار نقاش، وأحياناً مجال للمطالبة بالتغيير شرطاً للاستثمار أو ضخ معونات أو قروض وغيرها.
نقاش في مقابل تأجيج
النقاش الهادئ في جهة، والتأجيج سواء الشعبوي السريع الاشتعال سهل الاستثارة في جهة أخرى. هذه الجهة الأخيرة تجد في الـ'سوشيال ميديا' وقوداً رائعاً وأداة نافذة. آراء ومواقف يجري ضخها، ثم يعاد تشاركها باعتبارها أخباراً وحقائق مؤكدة، أو تحليلات موثقة تدور رحاها على الأثير الافتراضي، ومنه إلى الشارع أو العكس، أو كليهما. وفي خضم هذه الوفرة في السيولة المعلوماتية والضبابية المعرفية تضيع حقائق، ويمعن بعضهم في أن يعمل من الحبة قبة، ويجد آخر سواء في مصر أو السعودية أو غيرهما، نفسه واقعاً تحت تأثير الأجواء العنكبوتية الساخنة، فيدق هو الآخر بما تيسر بين يديه من شبه معلومات وتحليلات، فتستمد كرات الثلج زخمها، وتستمر في الدوران حتى تجد ما يوقفها.
قبل أيام، وفي أثناء زيارة رئيس مجلس الشورى السعودي عبدالله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ لمصر، قال المتحدث باسم مجلس الوزراء المصري محمد الحمصاني رداً على ما يثار حول وجود خلافات بين مصر والسعودية، إن العلاقات بين البلدين راسخة وقوية، مؤكداً أن العلاقات بينهما، سواء على المستويين الرسمي أو الشعبي، 'وثيقة جداً'، وهو ما أكده رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي غير مرة في أثناء اللقاء. وقال الحمصاني إن الزيارة ليست رداً على أية إشاعات حول توتر العلاقات، بل 'تأتي ضمن تعظيم التعاون بين البلدين، وضمن سلسلة من الزيارات المستمرة التي تعكس عمق العلاقات الثنائية'.
وفي مجاهرة نادرة وتطرق غير مسبوق لمثل هذه المسائل الحساسة، قال وزير الخارجية المصري السابق والأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى على صفحته على 'إكس' إن العلاقة بين مصر والسعودية 'عمود رئيس' للعالم العربي، وأن هذا العمود يراد كسره حالياً، وذلك في إشارة إلى أجواء القلق والتراشق والقيل والقال حول التوتر بين البلدين.
وأضاف 'نمر بمنزلق حاد جداً يزيده علماء التشكيك والوقيعة خطورة، إذ يستهدفون تدمير العلاقات بين الشعوب العربية بعدما كادوا ينجحون في إحداث الفرقة بين النظم العربية إلا من رحم ربي'، مشيراً إلى أنه 'علينا جميعاً أن نرعى هذه العلاقة وندعم مسيرتها'، داعياً إلى جعل 'السوشيال ميديا' منطلقاً إيجاباً لخدمة المستقبل العربي لا العكس.
كما كتب موسى رسالة وجهها إلى الشباب العربي، جاء فيها 'أهيب بالشباب العربي، بل بكل العرب الواعين ألا يتورط أحد في تبادل تعليقات عنيفة على السوشيال ميديا مبنية على العنعنة والقراءات الخاطئة، بل الخبيثة لمقالات أو تعليقات هنا أو هناك، في شأن الأحداث والتطورات الجارية في العالم العربي وحول قضاياه'.
الإعلامي والكاتب الصحافي وعضو مجلس النواب المصري مصطفى بكري عبر هو الآخر عن استيائه من 'أجواء التنابز بين بعض المصريين وبعض السعوديين'. وقال عبر صفحته على 'إكس' إن المستفيد الوحيد منها هم 'أعداء الأمة وأعداء العروبة'.
وكتب 'هذه التنابزات تمثل خطيئة جسيمة، ومن يقف وراءها لا يسعى إلا لضرب وحدة الصف العربي. لماذا كل هذا العداء، ومن يقف خلفه؟ هل نسي البعض أن 2.5 مليون مصري يعملون في السعودية، وأن ما يقارب مليون سعودي يعيشون في مصر؟ هذه الأرقام تعكس ترابطاً اجتماعياً واقتصادياً لا يمكن تجاهله'.
وعلى رغم ذلك، يبقى ما يثار في الشارع متبعاً إما ما يخبره به حدسه، أو ما يخبره به محتوى 'السوشيال ميديا'. يبقى الحدس غير المسيس والمنزه عن الأيديولوجيا الأصدق والأوقع. أما محتوى 'السوشيال ميديا' فالغث فيه ينافس السمين، حتى فرص مناقشة الخلافات أو تحليل الاختلافات يضيع معظمها وسط أعاصير الاستقطاب والصيد في المياه العكرة.
أصوات ومنصات
أصوات ومنصات وقنوات تابعة أو محسوبة على جماعة الإخوان المسلمين تجدها فرصة ذهبية للدق على ما يمكن الدق عليه. كثر يتذكرون ويستعيدون هذه الأيام الزيارة التاريخية، على رغم عدم استمرارها أكثر من بضع ساعات، التي قام بها الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز لمصر عام 2014، وهي الزيارة التي اعتبرت رمزية ورسالة واضحة بأن السعودية تدعم مصر في رغبتها الشعبية بالتخلص من حكم جماعة الإخوان. وكانت مصر وقتها تتعرض لحرب شعواء من الجماعة، وأذرعها الداخلية والإقليمية، إضافة إلى غالب الدول الغربية التي كانت تعدها 'جماعة وسطية تؤمن بالديمقراطية والتعددية'.
يتذكر المصريون المناهضون للإخوان هذه الزيارة، ويستحضرونها في كل مرة تحدث فيها خلافات، أو تثار إشاعات حول العلاقات بين البلدين. دعمت السعودية مصر في تخلصها من حكم الإخوان، وأشادت بما جرى عام 2013، وقدمت مساعدات مالية للقاهرة لدعمها في وقت كان ضمن الأصعب في تاريخ مصر المعاصر.
في المقابل، فإن المنتمين للجماعة والمتعاطفين معها ومحبيها، أخذوا على السعودية هذا الموقف. وفي كل مرة تلوح فيها فرصة معاودة ظهور لهم، أو تسلل من تحت عقب باب السياسة أو عبر فرصة تحليل سياسي في مركز بحثي أو ظهور إعلامي على شاشة غربية أو غيرها، يفعلون ذلك بكل حماس.
عشرات المقالات والأوراق 'التحليلية' عرفت طريقها للنشر في صحف ومراكز بحثية بعضها ذو مكانة واسم رفيعين في الغرب، تحلل نقاط الخلاف، وتشرح أوجه الاختلاف، وتتنبأ بالفراق والشتات بين البلدين. قليلون هم من ينقبون ويبحثون في من يكتب هذه الأوراق والتحليلات، وبعضهم كوادر في الجماعة أو محبون أو يؤمنون بأن للجماعة الحق في العودة إلى الحياة السياسية، وتقلد الحكم إن أمكن.
على سبيل الاستفادة القصوى من الأجواء، تناست الجماعة ومنتسبوها الموقف الرسمي المعلن مراراً للسعودية من الجماعة، واعتبارها لاعباً رئيساً في صناعة التطرف، والأب الشرعي لجميع الحركات والتنظيمات الإسلامية المتطرفة، وغزو أفكارهم للمدارس السعودية والعمل على التخلص منها. التركيز الحالي من قبل أنصار الجماعة يعمل على الدق على إسفين الخلاف بين البلدين، وذلك قبل أن تُنقى الأجواء.
وفي انتظار تبدد غيوم القيل والقال، وانقشاع سحب اختلاط التعبير عن الآراء بالترويج للفرقة والخلاف، يعي مزيد من المصريين أن السياسة لا تسير في خطوط مستقيمة طوال الوقت، وأن ما تفرقه السياسة أحياناً يحافظ على تقاربه التاريخ والجغرافيا والثقافة والسياحة والدراسة والمودة والنسب والفن دائماً.