اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٢٦ أيلول ٢٠٢٥
ترتبط بكثير من الممارسات الشعبية المسيحية ويظهر السعف في الأيقونات وتدخل في كثير من الصناعات والحرف منذ عهد مصر القديمة
في سبتمبر (أيلول) من كل عام يحتفل المصريون بعيد النيروز، عيد رأس السنة المصرية، الذي يعدّ أول يوم في السنة الزراعية الجديدة، إذ إن هذا التقويم يعتمده الفلاح المصري في الزراعة والحصاد، وترتبط شهوره المختلفة مثل توت، وأبيب، وبرمهات بمواسم معينة للزراعة والري وجمع المحاصيل.
وفي إطار احتفالات رأس السنة القبطية (عيد النيروز)، ينظم المتحف القبطي بالقاهرة معرضاً أثرياً موقتاً بعنوان 'النخلة حكاية تراث'، يسلط فيه الضوء على مكانة النخيل واستخداماته عنصراً زخرفياً ورمزياً في الفن القبطي، وفي الوقت نفسه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالزراعة والحصاد اللذين يرتكز عليهما التقويم.
هذا التقويم سابق على المسيحية، فقد اختار المصريون القدماء هذا الوقت لبداية السنة الجديدة، لأنه يوافق اكتمال موسم فيضان النيل ويرتبط بالوفرة والرخاء، وأيضاً يمثل بداية دورة زراعية جديدة، وفي العصر المسيحي ومع الحقبة التي اعتلى فيها دقلديانوس عرش الإمبراطورية الرومانية، وتعرض فيها المسيحيون للقتل والاضطهاد والتنكيل، فقد اعتمدوا هذا العام بداية للتقويم القبطي، وحافظوا على بداية السنة في الوقت ذاته الذي كان قائماً في عصر مصر القديمة، فالسنة الأولى في التقويم القبطي توافق العام 282 ميلادي والعام 4525 بتقويم مصر القديمة.
وطبقاً لما صرّحت به جيهان عاطف، مديرة المتحف القبطي، فإنه جرى عرض سبع قطع أثرية ترتبط بالنخيل وعلاقته بالتراث القبطي، من بينها مشغولات من الخوص المجدول تعكس الاستخدامات اليومية للنخيل، إضافة إلى قطعة من الحجر الجيري منقوش عليها صليب محاط بسعف النخيل، وكورنيش من الحجر الجيري مزخرف بسعف على شكل دوائر، إلى جانب أوستراكا مرسوم عليها شخص يقف بجوار نخلة، وقنينة تحمل زخارف نباتية من النخيـل، تعكس القطع المعروضة التراث والهوية الثقافية المصرية وكيف امتزجت مع الفن القبطي.
ولا يقتصر المعرض على الجانب الأثري فقط، بل يبرز أيضاً البعد الاجتماعي والتراثي لعيد النيروز ويصاحبه برنامج ثقافي وفني متكامل، يتضمن إقامة معرض للأشغال اليدوية الحديثة المصنوعة من منتجات النخيل بالتعاون مع مبادرة جبرا ومدرسة خزانة، إلى جانب سلسلة من المحاضرات العلمية بعنوان 'النخلة في التراث'، يلقيها نخبة من الأساتذة والمتخصصين في مجالات التراث والفنون.
ارتبط النخل بالتراث المسيحي في مصر بأشكال متعددة، فالنخلة عنصر رئيس وواحدة من مفردات البيئة المحلية التي حضر المسيحيون فيها منذ بداية ظهور المسيحية في مصر، فالفن وليد البيئة، ويستمد مقوماته من طبيعتها ومفرداتها وعاداتها وتقاليدها، والمتأمل الأيقونات القبطية يلاحظ أن كثيراً منها تضمنت النخيل إما بصورة كاملة في خلفية المشهد، الذي يضم القديسين أو السيد المسيح والعذراء، أو أجزاء من النخلة مثل السعف وغيره يحملها أبطال الأيقونة، فهي تصوّر في مثل هذه الأعمال التي تجمع بين الطابع الديني والفني والفلكلور، وتعبر عن جانب من التراث المصري المتنوع.
وجدت في مصر قطع من النسيج مطرز عليها رسوم لفتاة لها جناحان وتحمل سعفة، وهي غالباً ترمز إلى شهيدة أو قديسة، وهي من مقتنيات المتحف القبطي، وكثير من الكنائس تتزين بالجريد والسعف في احتفالات مختلفة، وتظهر مفردات متنوعة مرتبطة بالنخلة في الأيقونات التي تزين جدران الكنائس المصرية.
عن رمزية النخلة في التراث المسيحي يقول عادل موسى، المتخصص في التراث الثقافي، 'في التراث المسيحي ترمز النخلة إلى أكثر من معنى، فهي رمز للانتصار باعتبار أن الجموع استقبلت السيد المسيح بسعف النخل عند دخوله أورشليم، وكذلك إلى الحياة الأبدية كونه معمراً، وأيضاً رمز للاستقامة باعتبار أن النخل دائماً ينمو بشكل مستقيم، كلها رمزيات للنخلة في التراث المسيحي، ولهذا تظهر في كثير من الأيقونات والرسوم، وهو دائماً حاضر في تزيين الكنائس في المناسبات والأعياد المختلفة، وأيضاً يضع البعض جريد النخل على المقابر في هيئة الصليب، بخاصة في المناطق الريفية التي ينتشر فيها النخيل، فكلها ممارسات يمتزج فيها الديني بالشعبي وتميز المصريين'.
ويضيف موسى، 'لا يرتبط الأمر فقط بالنخلة، لكن بكل منتجاتها، فمثلاً في ما يتعلق بعيد النيروز فإن البلح الأحمر يعد من الأكلات المرتبطة به، التي يقبل عليها المسيحيون في هذا الوقت، إذ إن لونه الأحمر له رمزية ترتبط بدماء الشهداء، كذلك ترتبط بهذا العيد أيضاً الجوافة، وترمز إلى النقاء بسبب لونها الأبيض'.
الفنون الشعبية التي يُبدعها الناس بالفطرة في مصر لها باع طويلة وأشكال مختلفة، وجانب منها يرتبط بشكل وثيق بالممارسات الدينية المختلفة أو الاحتفالات ذات الطابع الديني والمفردات المحلية مثل النخيل يكون لها مكان كبير في هذه الفنون، ويضرب المتخصص في التراث الثقافي مثلاً بالجداريات 'يدخل النخيل في الجداريات الدينية التي تعد واحداً من أهم الفنون الشعبية، وبشكل خاص في المناطق الريفية، ويشترك في هذا المسلمون والمسيحيون. في الجداريات المسيحية يظهر النخل في الرسوم التي تضم القديسين والعذراء والمسيح لرمزيته الدالة على الانتصار والاستقامة والأبدية، وفي الجداريات الإسلامية يوجد النخيل في الرسوم المرتبطة بالحج، التي تعد من الفلكلور الشعبي المتوارث والمتعارف عليه'.
ومن بين أهم الأعياد والممارسات الشعبية المرتبطة بالتراث المسيحي في مصر هو أحد السعف، وهو يكون يوم الأحد في الأسبوع السابق لعيد القيامة، ويتوافق مع ذكرى دخول السيد المسيح إلى أورشليم عندما استقبلته الجموع بالسعف ليصبح عيداً سنوياً ومهرجاناً فنياً لتشكيلات فنية يصنعها الناس من السعف، ويعتبر من أهم الممارسات الدينية والشعبية المرتبطة بالنخيل والتراث المسيحي في مصر.
في رؤية علياء نصار، الباحثة في التراث الثقافي ومؤسسة مدرسة خزانة للتراث، 'أحد السعف يعد واحداً من أهم الاحتفالات المسيحية في مصر، وفيه يقوم الناس بعمل تشكيلات من السعف بأشكال فنية متنوعة، مثل التاج والصليب وغيرها، وهو تراث حيّ مستمر يتناقله الناس عبر العصور، ويرتبط بشكل مباشر بالنخلة في الثقافة المسيحية، النخيل مرتبط بالتراث المصري عموماً وليس فقط القبطي، وهو يدخل في أكثر من جانب من بينها الاحتفالات، وهناك مجتمعات في مصر تزخر بكثافة كبيرة بالنخيل، فيرتبط به الناس بأشكال مختلفة، ويصبح جزءاً من حياتهم بصور مختلفة، فيرتبط مثلاً بعادات الزواج فيأخذ العريس قلب النخلة، ويطلق عليه (الجمّار)، ويهديه لوالدة العروس شكلاً من أشكال التقدير، واستخراج هذا القلب هو عملية معقدة، وتحتاج إلى حرفية عالية، لأنها لو جرت بشكل خاطئ يمكن أن تفقد النخلة'.
ومن وجهة نظرها 'هذه الفعالية المقامة في المتحف القبطي يميزها أنها تجمع بين التاريخي مثل القطع الأثرية المعروضة في المتحف القبطي والتراث الشعبي المتمثل في الممارسات المختلفة المرتبطة بالنخيل، إضافة إلى المعرض الذي يتضمن معروضات من الحرف التراثية المختلفة المرتبطة بالنخلة، التي لا تزال مستمرة حتى الآن'.
في عام 2019 سجلت مصر ممارسات النخل على قائمة اليونسكو للتراث العالمي غير المادي ضمن ملف مشترك شاركت فيه دول عدة، باعتبار أن النخلة وكل الممارسات المرتبطة بها جزء وثيق من التراث المصري.
يقول عادل موسى، المتخصص في التراث الثقافي، 'تضمن الملف الذي جرى تقديمه لليونسكو الممارسات والحرف المرتبطة بالنخيل، والمنتجات، والمناسبات، والأعياد، والألعاب الشعبية، فالنخلة في مصر هي جزء من التراث الشعبي، ولها علاقة وثيقة بالعادات والتقاليد'.
ويلفت موسى إلى أنه من المفارقات أن تعامل المصريين مع النخل 'لم يختلف عبر العصور والممارسات تكاد تكون واحدة لم تتغير، والنخلة لا تزال حاضرة بقوة باعتبارها لها كثير من الاستخدامات وتدخل في كثير من الصناعات والحرف في المجتمعات التي توجد بها بكثافة منذ عهد مصر القديمة، مثلاً نجد (العنجريب) وهو سرير أو مقعد مصنوع من جريد النخل، وله امتداد حتى كنوز توت عنخ آمون التي تضمنت واحداً مصنوعاً من الذهب الخالص'.