اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
تآكل الأجور ينذر بنهاية عصر 'ابن الشركة' وبداية عهد 'ابن السوق'
بدا الارتباك واضحاً على ملامحه، فيما أعين ثلاثة من موظفي الموارد البشرية تراقب معالم وجهه بحرص شديد علها تجد الإجابة التي تحسم قرار شغله الوظيفة الجديدة 'لماذا تخطط لترك شركتك بعد عام واحد فقط؟'، ليس سؤالاً في واقع الحال، بل فخاً أرادوا من خلاله اختبار التزامه الوظيفي، لكن سامح إسماعيل استقبله بابتسامة ثقيلة.
في مقابلة عمل أجراها بغية الالتحاق بوظيفة محاسب في إحدى شركات القطاع الخاص المصري، كان يتعين على الشاب الثلاثيني أن يبدو مقنعاً في إجاباته، فما الأسباب التي تدفع أحدهم إلى ترك وظيفته بعد عام واحد فقط من شغلها؟ قدرات متواضعة أم مدير ساءت العلاقة الوظيفية به، 'تنطيط' ربما أم طموح مشروع في شغل وظيفة أكبر براتب مجزٍ؟
بثقة مصطنعة أجاب سامح إسماعيل 'بحثت عن فرصة أكبر، وراتب أفضل، وتجربة جديدة أتعلم منها وأضيف إليها خبراتي'، لكن ذلك لم يبدُ مقنعاً لموظفي الموارد البشرية، ممن كانوا ينظرون إلى سيرته الذاتية الحافلة بـ'القفزات الوظيفية' بريبة، معتبرين أن كثرة تنقله تعني أنه غير ملتزم، فرفضوه.
لم يعد الانتقال من شركة إلى أخرى مجرد خيار شخصي للموظف، بل تحول إلى ظاهرة لافتة في سوق العمل المصرية، وسط تباين في وجهات نظر رؤساء تنفيذيين ومتخصصين إدارة تحدثوا إلى 'اندبندنت عربية'.
تاريخياً، كان الاستقرار الوظيفي قيمة أساسية، إذ اعتاد الأفراد قضاء عقود طويلة مع صاحب عمل واحد، غير أن صعود اقتصاد العمل الموقت والتطورات التكنولوجية وتغير النظرة المجتمعية إلى مفهوم العمل، أسهمت جميعها في ترسيخ فكرة التنقل الوظيفي كخيار طبيعي، ويعكس هذا التحول اتجاهاً أوسع داخل المجتمعات، يقوم على السعي وراء التعلم المستمر واكتساب خبرات مهنية متنوعة.
وبين من يعد التنقل الوظيفي خطوة طبيعية في عصر السرعة والتغير، ومن يراه علامة على عدم الالتزام وحال 'تنطيط' يخصم من رصيد الموظف، تبرز معركة فكرية تعكس اختلاف الثقافات المؤسسية وأولويات الأجيال الجديدة.
المدافعون عن التنقل الوظيفي يطرحون منطقاً يقوم على أن سوق العمل نفسها لم تعد مستقرة كما كانت من قبل، فالشركات تغير خططها باستمرار، والقطاعات تتحول بوتيرة أسرع من قدرة الموظف على الترقي داخلياً.
ومن هنا يصبح الانتقال بين الشركات وسيلة لتعويض بطء التدرج الوظيفي، وصعود سلمه بصورة أسرع، كذلك فإنه يوسع دائرة معارف الموظف ويعزز قدرته على التأقلم مع بيئات عمل مختلفة، وهو ما يعد ميزة تنافسية حقيقية في بيئة عمل أصبحت أكثر تعقيداً وتغيراً.
على الضفة الأخرى، يتمسك المعارضون بفكرة أن التنقل المتكرر يفرغ السيرة الذاتية من العمق، فالانتقال السريع لا يتيح للموظف فرصة ترك بصمة أو تحقيق إنجاز ملموس.
الشركات – وفق المنطق الأخير – تبحث عن موظف يبني خبرة طويلة داخل المؤسسة، ويعرف خباياها، ويستثمر وقته في تطويرها بدلاً من التنقل بحثاً عن قفزة سريعة في الدخل أو المنصب، وهنا يتحول التنقل من كونه 'ذكاءً مهنياً' إلى 'وصمة' قد تعوق فرص التوظيف المستقبلية.
في مصر، تتضاعف حدة الظاهرة بسبب الضغوط الاقتصادية، فارتفاع كلفة الحياة يجعل كثراً يرون أن التنقل هو الوسيلة الوحيدة لزيادة الرواتب بصورة ملموسة، لكن ما يعمق الجدل هو الفجوة بين جيلين: جيل قديم يرى الولاء المؤسسي قيمة أساسية، وجيل شاب (خاصة جيل 'زد') يرى أن البقاء الطويل في وظيفة واحدة قد يكون مؤشراً إلى الجمود لا الاستقرار.
وفي الثقافة المؤسسية المصرية يبرز مصطلح 'ابن الشركة' للدلالة على الموظف الذي التحق بالمؤسسة منذ بداياته المهنية وظل يتدرج في مناصبها حتى صار جزءاً من هويتها الداخلية. وينظر إلى هذا النموذج باعتباره رمزاً للولاء والاستقرار، وغالباً ما يحظى بثقة الإدارة وزملائه، لكنه في المقابل قد يتهم أحياناً بالانغلاق وعدم امتلاك خبرات متنوعة خارج أسوار شركته. وبينما يرى البعض في 'ابن الشركة' نموذجاً يحتذى في التفاني والالتزام، يعتبره آخرون صورة من صور الجمود الوظيفي الذي قد يعوق التطور الشخصي في بيئة عمل سريعة التغير، مع ضرورة التحول من ثقافة 'ابن الشركة' إلى 'ابن السوق'.
في يوليو (تموز) الماضي، رفعت الحكومة المصرية الحد الأدنى للأجور ليصل إلى 7 آلاف جنيه (146.98 دولار) شهرياً، في خطوة تستهدف تحسين مستويات المعيشة ومواجهة موجات التضخم المتصاعدة، وتشمل الزيادة جميع العاملين بالجهاز الإداري للدولة والهيئات والجهات الحكومية، مع فروق تصاعدية حسب الدرجات الوظيفية تراوحت ما بين 1100 و1600 جنيه (23.10 و33.60 دولار).
وفي موازاة ذلك، أعلن المجلس القومي للأجور إلزام منشآت القطاع الخاص بالالتزام بالحد الأدنى نفسه، لضمان تحقيق قدر من العدالة بين العاملين في مختلف القطاعات، وسط جدل حول قدرة بعض شركات القطاع الخاص، لا سيما الصغيرة والمتوسطة، على تحمل الكلفة الإضافية.
وتكشفت بيانات رسمية حديثة عن تسجيل معدل التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية 12 في المئة خلال أغسطس (آب) الماضي، في مقابل 13.9 في المئة في يوليو، من ذروته البالغة 38 في المئة في سبتمبر (أيلول) 2023.
يرى أحمد حسني إبراهيم، وهو مدير إدارة الموارد البشرية في أحد البنوك الخاصة، أن التنقل الوظيفي بين الشركات العالمية الكبرى التي تدار بعقلية 'غوغل' أو 'مايكروسوفت' و'أبل' أمر مفهوم للغاية ويعبر عن طموحات مشروعة، ويناسب أكثر المجتمعات التي نضجت بها الأعمال وحققت طفرات واسعة، بعكس سوق العمل المصرية التي – شئنا أم أبينا – تنظر بعين الشك إلى تلك الظاهرة باعتبارها تعبيراً عن عدم الاستقرار.
ويظهر مسح 'آمال ومخاوف القوى العاملة العالمية' الذي أجرته شركةPWC عام 2023 أن نحو 35 في المئة من موظفي جيل 'زد' يخططون لتغيير وظائفهم خلال عام من شغل الوظيفة، ويكشف هذا التوجه عن تحول جوهري في ديناميكيات سوق العمل، بما يفرض تحديات معقدة على الشركات التي تسعى إلى الاحتفاظ بالمواهب الشابة.
وعلى رغم أن التنقل الوظيفي بات سمة متزايدة الانتشار بين أبناء جيل 'زد'، فإنه لا يزال محفوفاً بوصمة اجتماعية في نظر كثير من أصحاب العمل التقليديين، إذ يفسر التغيير المتكرر للوظائف على أنه مؤشر لعدم الاستقرار أو ضعف الالتزام، وهذا التصور قد يضر بصورة المرشح في أعين مسؤولي التوظيف، بل وقد يتحول إلى 'إشارة تحذير' تقلل من فرصه في الحصول على وظيفة جديدة.
يعاود إبراهيم الذي كثير من المقابلات التوظيفية مع منضمين جدد للبنك الذي يعمل به حديثه فيسرد قائلاً من واقع تجربته الشخصية إن السير الذاتية التي تملأها التنقلات الوظيفية خلال فترات قصيرة قد لا تعكس بالضرورة خبرة صاحبها بقدر عدم اتزانه الوظيفي، خصوصاً إذا أخذت تلك التنقلات مساراً تنازلياً من المؤسسات الكبرى، فالأوسط فالأصغر حجماً، في مؤشر إلى عدم اندماجه والاستغناء عنه.
ويقدر حجم قوة العمل في مصر بـ33.614 مليون فرد بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يعمل نحو 6 ملايين منهم في الجهاز الإداري للدولة فيما تعمل الغالبية بالقطاع الخاص.
الاقتصادي عمر الشنيطي يرى في البقاء وبناء سيرة ثقيلة وعلاقات خاصة إمكاناً لخلق قصة نجاح على فترة ممتدة، وهو النموذج الذي يفضله على المستوى الشخصي، إذ يعتقد أن 'التنطيط' ظاهرة مبهجة لجيل الشباب، وربما تعني مقابلاً مادياً أكبر وامتيازات وظيفية أعلى لكنه يخلف انطباعات سلبية في المقابل.
يدلل الشنيطي وهو مدير تنفيذي بـ'زيلا كابيتال' على وجهة النظر تلك بصعود مدير شركة الملابس العالمية 'نايكي' إليوت هيل من مجرد متدرب جاد وطموح ومثابر إلى مدير تنفيذي يستحق التأمل، داعياً إلى الشباب إلى التمهل ومنح أنفسهم الفرصة في الاستفادة وصقل الخبرات داخل شركاتهم أولاً، مما يفتح الطريق على انتقال وظيفي مجز.
في المقابل، يتبنى محمد صلاح الدين وهو محاضر بإحدى الجامعات العربية، وجهة نظر مضادة، مفادها أن الطموح الوظيفي في حاجة دائمة إلى التجديد الذي يمنح الموظف فرصة تعلم أشياء جديدة وتعزيز خبراته، منتقداً مبدأ البقاء في ذات المؤسسة أو الشركة.
ويضيف صلاح الدين 'بقاؤك في المكان نفسه يقلل من قيمتك، سيأتون بمن هو أصغر منك وأقل خبرة وإمكانات وسيمنحونه أكثر ما دمت أنت باقياً وراضياً'.
أما الولاء الوظيفي فيصفه المتحدث 'أوهاماً' لا تناسب مجال الأعمال، بدعوى أن كثراً من أصحاب تلك الأعمال لا يقدرون مجهودات الموظفين الأكفاء وسرعان ما يستبدلون بهم آخرين، داعياً إلى تبني الواقعية ومواصلة البحث عن الفرص الوظيفية الكبرى والعليا راتباً.
لكن بين الرأيين، يقف مستشار التطوير المؤسسي أحمد السيد، في مساحة وسط، إذ يرى أن بيئة الأعمال في مصر قد تفتقر إلى مؤسسات مستقرة وأن محاولة إقناع الناس بأننا قادرون على تحقيق ما حققته المجتمعات الغربية، من دون توفر الظروف والفرص أنفسهما، أمر صعب، فكل مجتمع له خصوصيته، والواقع المصري مثقل بمشكلات البيروقراطية.
الأفضل من ذلك برأيه التعامل بواقعية ووضع حدود واضحة للقدرات والإمكانات الشخصية، بدلاً من تسويق نماذج نجاح لا يمكن استنساخها في بيئة مختلفة تماماً عن بيئتها الأصلية، لأن الشباب لم يعد يتحمل مزيداً من الشعارات والأوهام غير القابلة للتطبيق.
ويختم السيد بقوله 'الخلاصة، واصل البحث عن فرص تنقل وترقٍّ وظيفي لحين وصولك إلى الشركات التي تستحق أن تكبر بها'.
ويكشف استطلاع أجرته منصة 'لينكد إن' أن نحو 60 في المئة من جيل الألفية يبدون استعداداً لترك وظائفهم والانتقال إلى فرص جديدة خلال عامين فقط من عملهم الحالي، وتشير بيانات مكتب إحصاءات العمل الأميركي إلى أن متوسط فترة بقاء الموظفين الذين تراوح أعمارهم ما بين 25 و34 سنة لا يتجاوز 3.2 عام، مقابل 10.1 عام للفئة العمرية الأكبر (55 – 64 سنة).
وتبرز قطاعات مثل التكنولوجيا والتمويل والتسويق في مقدمة المجالات الأكثر تسجيلاً لمعدلات دوران وظيفي مرتفعة، إذ تتخطى نسبتها السنوية حاجز 20 في المئة.
ووفقاً لتقرير حديث أصدرته مؤسسة 'غالوب' حول جيل الألفية، صرح 21 في المئة من أبناء هذا الجيل بأنهم غيروا وظائفهم خلال العام الماضي، وهي نسبة تزيد بأكثر من ثلاثة أضعاف مقارنة بغيرهم من الأجيال، وتقدر 'غالوب' أن معدل دوران العمل لدى جيل الألفية يكلف الاقتصاد الأميركي نحو 30.5 مليار دولار سنوياً.
ويظهر جيل الألفية ميلاً أقل للبقاء في وظائفهم الحالية، إذ قال نصفهم فقط إنهم يخططون للاستمرار في شركاتهم بعد عام، مقابل 60 في المئة من الأجيال الأخرى، وبالنسبة إلى الشركات، فإن هذا يعني أن نصف القوى العاملة من جيل الألفية لا يرون مستقبلاً طويل الأمد مع مؤسساتهم الحالية، وهو ما يضاعف تحديات استقطاب المواهب والاحتفاظ بها.
التحليل الأكثر اتزاناً هو أن التنقل ليس مشكلة في ذاته، إنما المشكلة في 'كيف ومتى يحدث؟'، فالتنقل الذي يقترن بإنجازات قابلة للقياس يعد إضافة، بينما التنقل السريع بلا أثر ملموس يضر بالمسار المهني.
بمعنى آخر، الانتقال ليس خطيئة إذا كان جزءاً من استراتيجية مدروسة لبناء مسار مهني متنوع، لكنه يتحول إلى عبء حين يصبح مجرد رد فعل على إغراء راتب أكبر أو منصب أعلى من دون قيمة مضافة حقيقية.
السجال بين الآراء يعكس مرحلة انتقالية في ثقافة العمل، والسؤال المطروح الآن: هل ستتكيف الشركات مع عقلية الأجيال الجديدة وتقبل التنقل كأداة للتطور؟ أم ستظل تنظر إليه كـ'تنطيط' يخصم من صدقية الموظف؟
الإجابة ستحدد ليس فقط مستقبل الموظفين، بل أيضاً قدرة المؤسسات على استقطاب المواهب والاحتفاظ بها في سوق تزداد تنافسية يوماً بعد آخر.


































