اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ٢٠ تموز ٢٠٢٥
تناولنا في مقال سابق التكامل بين الجمال الكوني والجمال الوضعي وأهميته في بناء الشخصية السوية واليوم نعلق على أهمية التذوق الجمالي في عصرنا الحالي، ففي ظل التحوّلات الثقافية والتكنولوجية المتسارعة التي يشهدها عالمنا اليوم، لم يعد التذوّق الجمالي ترفًا محصورًا في أروقة النخبة أو قاعات الفن المغلقة، بل غدا حاجة تربوية واجتماعية ملحّة تمسّ كل فرد في صميم إنسانيته.
أعادت التكنولوجيا رسم مشهد التعبير الفني، متجاوزة الوسائط التقليدية، لتخلق بيئة ثقافية هجينة، متعددة المصادر، ومفتوحة على معايير متباينة للذوق والقيمة. حيث يجد الإنسان المعاصر نفسه أمام تحدٍّ مزدوج هو كيفية الحفاظ على هويته الجمالية المتجذّرة في تربة الثقافة المحلية، وفي الوقت ذاته، التفاعل الواعي مع أنماط جمالية كونية فرضتها العولمة الرقمية ووسائل الإعلام الحديثة. من هنا تنمو الحاجة إلى تنمية التذوّق الجمالي كركيزة جوهرية في بناء شخصية قادرة على التمييز بين الجمال الحقيقي والجمال الزائف، وبين الأصالة والتقليد، لتسهم في تأسيس وعي ثقافي متوازن، نقي، وبعيد عن الابتذال.
وما يزيد الصورة قتامة، أن النظم التعليمية في كثير من مجتمعاتنا تعاني من تراجعٍ واضح في البنية التحتية المدرسية، وانعدامٍ شبه تام لروح الجمال في فضاءاتها. مدارسٌ بلا ألوان، صفوفٌ بلا حياة، ومناهج تقتصر على التلقين وتهمّش الوجدان، فتُجهض في الطفل نزوعه الفطري نحو الإبداع، وتنأى به عن دروب الفن والتأمل.
أما المشهد الحضري، فهو انعكاس صريح لقبحٍ يومي يتسلّل إلى عيوننا دون استئذان. فوضى عمرانية بلا روح، شوارع مكتظة تخنقها الأبنية المرتفعة دون تخطيط، وتضجّ بالأصوات الصاخبة لما يُسمّى مجازاً بـ'الأغاني'؛ دقات سريعة، ألحان مفزعة، وكلمات مبتذلة، تُفرغ الفنون من معناها، وتحوّل حرية التعبير إلى ضجيج لا يُحتمل. هذا التلوث السمعي والبصري لا ينتهك الذوق العام فحسب، بل ينسف أي محاولة لتربية الحواس على الجمال، والتقاط المعنى العميق خلف الأشكال.
إن تنمية التذوّق الجمالي تبدأ من الحواس: من تلمّس نعومة الأشياء، وسماع النغم الجميل، وتأمّل الخطوط والألوان، وحتى تذوّق الطعم المتّزن. فالإعجاب بالجمال ليس مجرد شعور عابر، بل متعة متجددة، وسلوى تهوّن قسوة الحياة، وبلسم للروح حين تئنّ تحت وطأة الضغوط اليومية. علينا أن نشجّع أولئك الذين يشعرون بالجمال أن ويعبّروا عنه، لأن ما يعبّر عنه فرد، قد يلامس وجدان آخر، ويوقظ فيه التذوق النائم.
لقد عبّر الإنسان عن الجمال منذ فجر التاريخ، حين خطّ أشكال الحيوانات على جدران الكهوف، ورقص حول النار، ودقّ الطبول بإيقاع داخلي يترجم مشاعره. وزيّن جسده بالحلي والنقوش، ليبوح بجمال داخلي يتجلى خارجًا. إن هذا النزوع الفطري للجمال هو جوهر إنسانيتنا، وهو ما ينبغي أن نعيد له مكانته.
غير أن التذوق الجمالي لا يكتمل دون قيم. فالقيم الجمالية لا تنفصل عن القيم الأخلاقية، بل تتقاطع معها وتتداخل، وتشكل معًا وعيًا إنسانيًا راقيًا. لكننا اليوم نعيش في زمن فوضى: فوضى مادية، عقلية، أخلاقية، وجمالية. هذه الفوضى تُضعف البنية القيمية للمجتمع، وتشوّش على سلوكيات أفراده، وتجعل من إعادة بناء الذوق العام مسؤولية جماعية.
ومن هنا تنطلق هذه الكلمات بوصفها محاولة لاستكشاف سبل إعادة الاعتبار للتذوّق الجمالي، وتحديد أدوار محورية للتربية، والإعلام، والفنون الرقمية، في رسم معالم ذوق عام واعٍ، يعيد للروح إنسانيتها، وللحياة معناها، وللجمال مكانته الحقيقية.