اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٧ أيار ٢٠٢٥
تسجيل عبدالناصر أعاد جدل الحاجة إلى قانون ينظم الكشف عن الوثائق التاريخية وخبراء يحذرون من 'تاريخ مبتور' لغياب الأرشفة
فتح التسجيل الصوتي للرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر الباب أمام كثير من الجدل السياسي والتاريخي، لكنه أيضاً أثار تساؤلات في شأن واقع ومستقبل الوثائق التاريخية المصرية، فبعد ساعات من التعجب والدهشة بسبب نشر التسجيل بعد 55 عاماً من وفاة عبدالناصر، الذي وصل إلى حد التشكيك في مصدره، صرح نجله عبدالحكيم بأنه صاحب قناة الـ'يوتيوب' التي نشرت التسجيل، وهو ما أثار تحفظ كثيرين في شأن امتلاك أسرة الرئيس المصري الراحل حق نشر تسجيلات 'رئيس الجمهورية العربية المتحدة'، مما يجعلها جزءاً من تاريخ مصر والمنطقة العربية، وليس إرثاً خاصاً بوالدهم.
غياب أرشيف مصري موثق وتركه في يد ورثة المسؤولين جدد الجدل في شأن إتاحة الوثائق الرسمية، وإقرار تشريعات ترفع النقاب عما يعد 'سرياً'، ولو بعد عقود من إصداره، على غرار القوانين في عديد من دول العالم، خصوصاً أن التسجيلات الأخيرة الخاصة بعبدالناصر أكد بعض الباحثين الذين تقصوها عقب نشر المقطع الصوتي أنها جاءت مبتورة، إذ حذفت بعض الأجزاء منها.
وتستند البنية التشريعية لإتاحة الوثائق في مصر إلى قانون أصدره الرئيس السابق أنور السادات عام 1975، نص على أحقية رئيس الجمهورية في وضع نظام للمحافظة على الوثائق والمستندات الرسمية للدولة 'مع إمكانية حظر نشر بعضها لمدة تصل إلى 50 عاماً'. وعزز السادات القانون بقرار جمهوري ينص على أن الوثائق المتعلقة بالسياسة العامة للدولة 'سرية لا يجوز نشرها، من دون وضع تعريف لمفهوم الأمن القومي'.
أين قانون تداول المعلومات؟
المطالبة بقانون لإتاحة تداول المعلومات يرجع إلى عهد الرئيس المصري السابق حسني مبارك (1981 - 2011)، من دون أن يخرج للنور، بحسب عضو مجلس النواب المصري، مها عبدالناصر التي قالت لـ'اندبندنت عربية'، إن ذلك القانون من المهم أن يخرج متضمناً صلاحيات والتزامات واضحة على الجهات الحكومية بأن يتيحوا البيانات والمعلومات، موضحة أن ذلك لا يفيد فقط في الأرشفة والتأريخ، 'بل يساعد في جذب الاستثمار أيضاً من خلال شفافية المعلومات'. مؤكدة أن إتاحة الوثائق 'ستجعل فهم المصريين للتاريخ أكثر إنصافاً وعدلاً ومبنياً على وثائق، وليست مجرد سردية أو وجهة نظر ذاتية لدولة أو شخص'.
ويعد إصدار قانون حرية تداول المعلومات استحقاقاً دستورياً، وفق الدستور المصري الذي أقر عام 2014، إذ تنص المادة 68 على أن 'المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة توفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمداً'.
لكن عضو مجلس النواب مها عبدالناصر أشارت إلى أنه رغم نص الدستور على ذلك التشريع، فإن الحكومة لم تتقدم بمشروع قانون، كذلك لم يطرح أحد أعضاء البرلمان مسودة للتشريع. مؤكدة أن فلسفة قانون حرية تداول المعلومات 'يجب أن تتمحور حول فكرة إتاحة المعلومة، مع تفهم أن بعض الوثائق والمعلومات قد تحجبها جهات معينة، وهو ما يحاكي القوانين الأخرى في جميع دول العالم'.
النقاش حول إصدار قانون حرية تداول المعلومات كان أحد ملفات الحوار الوطني، وشهد توافقاً كبيراً في الجلسات التي انطلقت مايو (أيار) 2023، حتى إن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، أعلن خلال حديثه في مؤتمر الشباب بالإسكندرية يونيو من العام نفسه، استعداده للتصديق على القانون وإرساله إلى مجلس النواب تمهيداً لإصداره، تعقيباً على عرض من رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني المستشار محمود فوزي في شأن القضايا المتوافق عليها في ذلك الوقت، وذكر خلالها فوزي أن هناك التزاماً دستورياً بمشروع قانون يتيح تداول المعلومات، وهو ضمن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، أي إن الدولة المصرية ترغب في إصداره، بحسب تعبيره.
لكن الدفعة الأولى من توصيات الحوار الوطني التي رفعت لرئيس الجمهورية خلت من قانون حرية تداول المعلومات.
وتعترف الدولة في الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان الصادرة عام 2021 بأن عدم وجود إطار قانوني ينظم عملية الحصول على المعلومات والبيانات الرسمية أحد التحديات في مجال حرية التعبير، كما عدت الاستراتيجية أنه رغم تعدد وسائل الإعلام فإنها لا تعكس التنوع في الآراء بالقدر الكافي.
اعتبارات الأمن القومي
من جانبها تعد العميد السابق لكلية الاتصال والإعلام بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري عزة هيكل، أرشفة الحياة السياسية في الوطن العربي وليس مصر فقط 'أمراً يخضع لاعتبارات الأمن القومي'. مشيرة إلى أن دول منطقتنا ليس لديها القوانين الموجودة في دول أخرى بالإفراج عن الوثائق بعد مرور 50 عاماً على سبيل المثال، مؤكدة أن الدول العربية عليها 'تطبيق قوانين مماثلة، بعد مراجعة الوثائق أولاً للتأكد أنها لا تضر بالأمن القومي'.
وفي الولايات المتحدة، يرفع الحجب عن الوثائق السرية تلقائياً بعد 25 عاماً من صدورها، ما عدا تسع حالات إعفاء محددة، وقد يستمر الحجب لمدة تصل إلى 75 عاماً للأجزاء التي تحمل هوية عملاء سريين، بحسب الموقع الرسمي لوزارة العدل الأميركية.
أما في بريطانيا فتطبق قاعدة الـ30 عاماً، التي تقضي بالإفراج عن الوثائق الحكومية تلقائياً بعد 30 سنة من صدورها، فيما قد يستمر الحجب لمدة أطول لدواعي الأمن القومي. ويقوم الأرشيف الوطني في المملكة المتحدة بإدارة عملية إصدار الوثائق التي رفع عنها السرية، بحيث يمكن للباحثين الاطلاع عليها.
وبحسب القانون الفرنسي، تستمر مدة حجب الوثائق السرية 50 عاماً، لكن يستمر حظر الوثائق المتعلقة بأسرار الدفاع أو الأسلحة النووية، التي تؤثر في العلاقات مع دول أخرى.
وتضيف هيكل، في حديثها إلى 'اندبندنت عربية'، 'حتى الدول الغربية لا تتيح كافة وثائقها'، مشيرة إلى اعتراضات البعض في الولايات المتحدة على إتاحة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الجزء الأكبر من الوثائق المتعلقة باغتيال الرئيس السابق جون كينيدي، ولم يفرج عن كل الوثائق، معتبرة أن ذلك يؤكد أن إتاحة المعلومات في الغرب 'يكون أيضاً وفق مصالح الدولة'.
ورغم اعتراف الأكاديمية والكاتبة عزة هيكل بوجود قصور في فكرة الإفصاح عن الوثائق التاريخية في المنطقة العربية، فإنها 'لا تتوقع تغييراً في هذا الملف في ظل الظروف الحالية'.
وكان وكيل لجنة الإعلام والثقافة والآثار بمجلس النواب، نادر مصطفى، قد تقدم بمشروع قانون في شأن إنشاء الهيئة العامة لدار الوثائق القومية والمحفوظات، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، نص على أن 'المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها'، واقترح مشروع القانون حظر الاطلاع على الوثائق السرية لمدة 15 عاماً، و30 عاماً للوثائق السرية جداً، مع جواز مد هذه المدة. ولم يتم مناقشة وإقرار مشروع القانون حتى الآن.
'تاريخ مشوه'
يرى أستاذ التاريخ الحديث في جامعة دمنهور محمد رفعت الإمام، أن الاعتماد على وثائق أجنبية في فهم تاريخنا يجعله 'مبتوراً ومشوهاً'، لأنه يرتبط بالمصالح السياسية للأطراف التي أصدرت تلك الوثائق، سواء بريطانيا أو الولايات المتحدة وغيرها.
ويشدد الإمام، في حديثه إلى 'اندبندنت عربية'، على ضرورة 'وضع قانون ينظم عملية الكشف عن الوثائق بمختلف أنواعها'. مشيراً إلى أنه رغم وجود دار الوثائق القومية فإنها 'لا تحوي كثيراً من الوثائق المهمة في تأريخ الحياة في مصر'.
ويضيف، 'والي مصر محمد علي (1805 - 1848) وأسرته الذين دام حكمهم نحو 150 عاماً اهتموا بعملية التوثيق والأرشفة، بينما منذ ثورة يوليو (تموز) 1952 غاب الاهتمام بالتوثيق، ومن ثم لم يصبح أمام الباحثين في التاريخ سوى الاعتماد على مذكرات شخصية وشهادات للشخصيات التي عاصرت تلك الفترة، مثل بعض الضباط الأحرار الذين كتبوا مذكراتهم، فيما يغلب الطابع الشخصي على المذكرات ويصعب معها معرفة حقيقة ما جرى'.
وأنشئت دار الوثائق بالقاهرة عام 1828، وهي أقدم دور الأرشيف في العالم، وفق الهيئة العامة للاستعلامات، حيث أنشئت لحفظ السجلات الرسمية للدولة في عهد محمد علي. وحالياً تضم كماً هائلاً من الوثائق بلغات مختلفة منها العربية والإنجليزية والتركية، وتغطي فترات من العصر الفاطمي والأيوبي والمملوكي، مروراً بالعصر العثماني، ووصولاً إلى القرنين الـ19 والـ20.
وذكر الإمام أن الجهات السيادية في مصر تحتفظ ببعض الوثائق التاريخية بالفعل، 'لكنها لا تكون متاحة للعامة أو الباحثين الأكاديميين'. مشيراً إلى أن عملية الإفصاح عن الوثائق عالمياً 'أصبحت أسرع من ذي قبل، وبعض المنظمات الدولية تتيح وثائقها بصورة فورية على موقعها الإلكتروني، مثل المحكمة الجنائية الدولية التي تعرض تفاصيل الدعاوى إلكترونياً'.
ومنح القانون رقم 356 لسنة 1954، والخاص بإنشاء دار الوثائق القومية، وزير الثقافة سلطة إصدار قرار الاستيلاء على الوثائق التي بحوزة الأفراد أو الهيئات، لكنه سمح في الوقت ذاته للوزارات والهيئات السيادية بالاحتفاظ بوثائقها في أرشيفها الخاص، وهو ما يعني غياب وثائق مهمة مثل محادثات ومخاطبات رئيس الدولة أو وزارة الخارجية.
وفي فبراير (شباط) 2024، نشر الموقع الرسمي لوزارة الدفاع المصرية، عدداً من الوثائق الرسمية المتعلقة بحرب أكتوبر 1973، تتضمن التخطيط الاستراتيجي العسكري للحرب ومراحل إدارتها، وهو ما كان واقعة نادرة لإفراج الدولة عن وثائق بهذا القدر من الأهمية.