اخبار مصر
موقع كل يوم -بوابة الأهرام
نشر بتاريخ: ٢٢ تموز ٢٠٢٣
هناك في ساحة مارتيليه بمدينة قرطبة الأندلسية نصبٌ تذكاري يُسمي 'تمثال الحب' عبارة عن يدان تتلامسان لمسة أخيرة قبل الفراق، يُمثلان يد الشاعر أبي الوليد بن زيدون وحبيبته ولادة بنت المستكفي، وقد نُصبت أسفل التمثال لوحة رخامية نقٌش عليها بيتان من الشعر لولادة وجهتهما لابن زيدون حيث تقول:
أغار عليك من نفسي ومني.. ومنك ومن زمانك والمكانِ
ولو أني خبأتك في عيوني.. إلى يوم القيامة ما كفاني
جاء أسفلهما رد ابن زيدون على هذين البيتين:
يا من غدوت به في الناس مشتهرا.. قلبي عليك يقاسي الهم والفكرا
إن غبت لم ألقَ إنساناً يؤنسني .. وإن حضرت فكل الناس قد حضرا
برز اسم الشاعر الكبير ابن زيدون خلال اليومين الأخيرين في محركات البحث بعد أن افتتح الفنان عمرو دياب أغنيته الجديدة 'والله أبدًا' ببيتين لأبي الوليد.
تمثال الحب في قرطبة يوثق قصة حب ابن زيدون وولادة بنت المستكفي
يحتل الشاعر الأندلسي أبو الوليد بن زيدون مكانة كبرى بين شعراء العربية، ولطالما امتازت قصائده برقتها وعذوبتها مما كتب لها الانتشار والذيوع على ألسنة الناس، أما قصة حبه لولادة بنت الخليفة المستكفي بالله فصارت مضرب المثل في قصص العشق والغرام بالأندلس لولا أن فرقهما الوشاة مثل الوزير ابن عبدوس غريم ابن زيدون في حب ولادة.
وُلد ابن زيدون في قرطبة عاصمة الخلافة الأموية بالأندلس عام 394هـ/ 1003م، لأسرة تعود لقبيلة بني مخزوم القرشية عمل أكثر أفرادها بالقضاء، وعُرف ابن زيدون ككاتب وشاعر بارز في أوائل عهد ملوك الطوائف الذين ظهروا للساحة السياسية بعد سقوط الخلافة الأموية في الأندلس عام 422هـ /101م؛ لذا فقد جعله حاكم قرطبة الشيخ الرئيس أبو الوليد بن جهور رسوله لسائر ملوك الطوائف بالأندلس.
وكأحد أبناء نكبة سقوط الخلافة الأندلسية، سعى ابن زيدون من أجل إعادة الوحدة السياسية للأندلس في وقت اشتدت فيه شوكة ملوك الإسبان على أراضي المسلمين بالأندلس.
يقول المؤرخ والأديب ابن بسام الشنتريني في موسوعته الأدبية التاريخية 'الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة' مترجمًا لحياة ابن زيدون وتمكنه من ناصية البيان شعرا ونثرا:' كان أبو الوليد صاحب منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء مخزوم، أحد من جر الأيام جراً، وفات الأنام طُراً، وصرف السلطان نفعاً وضراً، ووسع البيان نظماً ونثراً؛ إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه،وشعر ليس للسحر بيانه، وللنجوم الزهر اقترانه، وحظٍ من النثر غريب المباني، شعري الألفاظ والمعاني'.
دارت قصة الحب على أحر من الجمر بين ولادة ابنة الخليفة الأموي السابق المستكفي بالله، وبين ابن زيدون الشاعر الأديب ووزير آل جهور ملوك قرطبة، لكن المنافسة مع الوزير أبي عامر بن عبدوس على السيادة وقلب ولادة زجت به إلي السجن بسبب الوشاة، وينجح ابن زيدون في الهروب إلى إشبيلية حيث ملوك بني عباد الذين استوزروه وأعلوا مكانته، وهنا وقع الفراق الذي لا لقاء بعده بين ولادة في قرطبة وابن زيدون في إشبيلية.
تحدث ابن بسام أيضا عن ولادة بنت المستكفي وما بلغته من جمال وعلم وحسب ونسب فيقول:'وأما ولادة التي ذكرها أبو الوليد بن زيدون في شعره فإنها بنت محمد بن عبد الرحمن الناصري، وكانت في نساء أهل زمانها واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها؛ تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب'.
لقد ظل ابن زيدون مخلصًا في حبه لولادة، رغم أنه تزوج وأنجب، لكنه ظل يحن إلى مجالسها، حيث تختلط زفرات الحب بأمسيات الأدب، ومن أشهر قصائده التي نظمها مشتاقًا لولادة قصيدته النونية الشهيرة التي تعد من عيون الشعر العربي على الإطلاق، والتي يقول فيها:
أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْـلاً مِـنْ تَدانِيْنـا وَنَابَ عَـنْ طِيْـبِ لُقْيَانَـا تَجَافِيْنَـا
ألا وقد حانَ صُبـح البَيْـنِ صَبَّحنـا حَيـنٌ فقـام بنـا للحَيـن ناعِينـا
مَـن مُبلـغ المُبْلِسينـا بانتزاحِهـم حُزنًا مـع الدهـر لا يَبلـى ويُبلينـا
أن الزمان الـذي مـا زال يُضحكنـا أنسًـا بقربهـم قـد عـاد يُبكيـنـا
غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا بـأن نَغُـصَّ فقـال الدهـر آمينـا
فانحلَّ مـا كـان معقـودًا بأنفسنـا وانبتَّ مـا كـان موصـولاً بأيدينـا
لم نعتقـد بعدكـم إلا الوفـاءَ لكـم رأيًـا ولـم نتقلـد غـيـرَه ديـنـا
بِنتـم وبنـا فمـا ابتلـت جوانحُنـا شوقًـا إليكـم ولا جفـت مآقيـنـا
نكـاد حيـن تُناجيكـم ضمائـرُنـا يَقضي علينا الأسـى لـولا تأسِّينـا
حالـت لفقدكـم أيامـنـا فَـغَـدَتْ سُودًا وكانـت بكـم بيضًـا ليالينـا
إذ جانب العيش طَلْـقٌ مـن تألُّفنـا وموردُ اللهو صـافٍ مـن تصافينـا
وإذ هَصَرْنا غُصون الوصـل دانيـة قطوفُهـا فجنينـا منـه مـا شِينـا
ليسقِ عهدكم عهـد السـرور فمـاكنـتـم لأرواحـنـا إلا رياحيـنـا
لا تحسبـوا نَأْيكـم عنـا يُغيِّـرنـا أن طالمـا غيَّـر النـأي المحبينـا
والله مـا طلبـت أهواؤنـا بــدلاً منكم ولا انصرفـت عنكـم أمانينـا
عمرو دياب
استطاعت هذه القصيدة أن تلهب أشواق الشعراء الذين جاءوا بعد ابن زيدون، فوقفوا موقف الحزن والآسي مثله باكين ومتباكين على معاهد الحب وشواطئ الذكريات، ومن أشهر هؤلاء أمير الشعراء أحمد بك شوقي، فخلال نفيه إلى إسبانيا، أنشد قصيدته النونية معارضا ابن زيدون والتي يقول فيها:
يانائِحَالطَلحِأَشباهٌ عَوادينا نَشجى لِواديكَ أَمنَأسى لِوادينا
والقصيدة النونية ليست الوحيدة التي قالها ابن زيدون في ولادة، فمن بين أشهر قصائده أيضا، قوله حينما وقف على أطلال مدينة الزهراء الملكية بقرطبة:
إِنّيذَكَرتُكِبِالزَّهْراءَ مُشتاقاً وَالأُفقُ طَلقٌ وَمَرأى الأَرضِ قَد راقا
وَلِلنَسيمِ اِعتِلالٌ في أَصائِلِهِ كَأَنَّهُ رَقَّ لي فَاعتَلَّ إِشفاقا
يَومٌ كَأَيّامِ لَذّاتٍ لَنا انصَرَمَت بِتنا لَها حينَ نامَ الدَهرُ سُرّاقا
لا سَكَّنَ اللَهُ قَلباً عَقَّ ذِكرَكُمُ فَلَم يَطِر بِجَناحِ الشَوقِ خَفّاقا
بقي ابن زيدون في إشبيلية وزيرًا لملوك بني عباد وموضع ثقتهم، وفي سنة 462هـ/ 1070م وهي السنة التي سبقت وفاته، نجح المعتمد بن عباد في إسقاط مملكة بني جهور في قرطبة، الذين سجنوا ابن زيدون واضطهدوه من قبل، دخل ابن زيدون قرطبة في صورة غير التي فارقها عليها، فقد كان شابًا فتيًا خرج منها خائفًا يترقب، واليوم جاءها عجوزًا على مشارف السبعين في موكب الملك والنصر، دارت في ذهنه تساؤلات عن حبيبة العمر ولادة، علم أنها أغلقت على نفسها دارها بعد أن ذهب الزمان بمجدها الملكي والأدبي، يبدو أن صورتها الشابة المشرقة لا تزال عالقة في ذهنه، لا يتصور أبدًا أن يكون الشيب قد خط مفرقها وحفر الزمن معالمه عل تقاسيم وجهها النضر، لكنه وجد نفسه مستندا على عصاه يتوكأ عليه، وأنه كان يخشي ألا يبلغ قرطبة إلا محمولاً على الأعناق، فكيف يلتقي بها، وهل ستكون ولادة جاهزة لهذا اللقاء.
تذهب بعض الروايات أن ابن زيدون طرق قصر ولادة، لكنها لم تستطع اللقاء بعد أن نظرت في المرآة فوجدت نفسها عجوزًا تحارب تجاعيد الزمان، يبدو أنها أصرت أن تبقى صورتها الجميلة في خيال ابن زيدون التي فارقها عليها.
عاد ابن زيدون إلي إشبيلية من جديد بعد أن تبخرت الآمال في لقاء حبه الأول، لكنه عاد إليها محمولاً يعاني أمراض الشيخوخة ويشعر بدبيب الموت، ليتوفي في أول رجب عام 463هـ/ الموافق للخامس من أبريل عام 1071م.
أدرك الإسبان قيمة الحب العذري الراقي لابن زيدون فأموا تمثال الحب في قرطبة، ليبقي شاهدًا على أعظم قصص الحب في تاريخ الأندلس.
