اخبار مصر
موقع كل يوم -الرئيس نيوز
نشر بتاريخ: ٢٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
في زمنٍ تتعاظم فيه المخاوف من 'الانفجار الكبير'، تتعرض ركائز الأمان المالي لهزّة غير مسبوقة، إذ لم تعد المفاهيم التي طالما اعتُبرت ضمانًا ضد الاضطرابات صامدة أمام رياح القلق العالمي وموجات انعدام اليقين المتتالية.
ويرسم تقرير مجلة دير شبيجل الألمانية بعنوان «قوة الخوف من الانفجار الكبير» مشهدًا نقديًا دقيقًا لمستقبل الأصول الاستثمارية التي طالما رُوّج لها كملاذات آمنة ولعل أبرزها: الذهب والفضة، والسندات الحكومية، والدولار، والفرنك السويسري، والعقارات، وحتى العملات المشفرة.
وفي خضم هذا المشهد، يكثر الحديث عن 'الفقاعة' الاقتصادية التي قد تمتد من أسواق الأسهم، ولا سيما بين ما يُعرف بـ'السبعة الكبار' في التكنولوجيا الأمريكية، إلى قطاعات أخرى تبدو مستقرة ظاهريًا لكنها تنطوي على تضخم مبالغ فيه في الأسعار والتقييمات.
الذهب: من رمز الثقة إلى مرآة للذعر
لطالما كان الذهب مرادفًا للثبات في أزمنة الأزمات، غير أن ارتفاع أسعاره اليوم لا يعكس اطمئنانًا، بل قلقًا جماعيًا. فكما تقول دير شبيجل: 'الذهب يرتفع لأن العالم يرتجف – لا لأنه يثق.' ومن هذا المنظور، يصبح المعدن النفيس مؤشرًا على اضطراب الأسواق لا على قوتها. فالمستثمرون لا يتجهون نحوه عن يقين، بل عن خوف. إنهم لا يراهنون على استقرار طويل، بل يهربون من انهيارات تلوح في الأفق، وكأن الذهب لم يعد درعًا واقيًا بقدر ما صار مرآة تعكس ارتباك العالم، خصوصًا في مرحلة تتصاعد فيها المخاوف من فقاعة مالية شاملة تمتد عبر الأصول كافة.
السندات الحكومية: أمان مهدّد وثقة متآكلة
وكانت السندات الحكومية، خصوصًا الأمريكية والألمانية، تُعتبر الركيزة الأكثر صلابة في النظام المالي العالمي، غير أنها تواجه اليوم ضغوطًا معقدة. فارتفاع معدلات الفائدة، وتضخم الأسعار، وتراكم الديون السيادية، جعلت منها أصولًا محفوفة بالمخاطر.
وتؤكد دير شبيجل أن هذه السندات لم تعد 'مضمونة'، بل تحولت إلى 'رهان محسوب' في زمن الاضطراب، وخاصة وسط مرور الحكومة الأمريكية بواحد من أطول فترات الإغلاق في التاريخ بينما لا يوجد أفق واضح لاتفاق وشيك بين الجمهوريين والديمقراطيين لحلحلة أزمة سقف الدين، وتضيف المجلة في وصف دقيق: 'الملاذات الآمنة لم تعد آمنة – إنها فقط أقل خطرًا من البقية.'
بهذا المعنى، لم تعد السندات ملاذًا مطلقًا، بل خيارًا اضطراريًا في عالم تتراجع فيه الثقة بالأنظمة الاقتصادية الكبرى، وتتشكل فيه فقاعة ديون عالمية تهدد بانفجارٍ قد يعيد رسم خريطة الثقة في أدوات الدين الحكومية نفسها.
الدولار الأمريكي: سقوط الهالة القديمة
لم يسلم الدولار الأمريكي، عماد النظام المالي العالمي، من التآكل في سمعته التاريخية. فكما كتبت المجلة: 'حتى الدولار يفقد هالته كعملة لا تُمس'، ويرتبط هذا التراجع بجملة من العوامل، منها تصاعد التوترات الجيوسياسية، وبروز العملات الرقمية، وتزايد الأصوات في الاقتصادات الناشئة المطالبة بفك الارتباط بالدولار. كل ذلك جعل من الورقة الخضراء أصلًا معرضًا للتقلبات السياسية والاقتصادية، بعدما كانت رمزًا للقوة المطلقة. واليوم، بات بعض الاقتصاديين يتحدثون عن فقاعة ثقة في الدولار، أي أن مكانته التاريخية ربما أصبحت أعلى مما تسمح به الحقائق الاقتصادية الفعلية.
الفرنك السويسري: ثبات يواجه التآكل البطيء
رغم احتفاظ الفرنك السويسري بجزء من مكانته التاريخية كعملة مستقرة، إلا أن المجلة تحذر من الاعتماد المفرط عليه. فحتى هذا الثبات النسبي يمكن أن يتحول إلى نقطة ضعف إذا واجه الاقتصاد السويسري ضغوطًا خارجية أو اضطرابات داخلية. الملاذ السويسري ما زال قائمًا، لكنه لم يعد حصنًا منيعًا كما كان يُظن.
العملات الرقمية: المستقبل الواعد أم أحد فخاخ المغامرات؟
العملات الرقمية، وعلى رأسها البيتكوين، دخلت المشهد بوصفها 'ملاذًا جديدًا' خارج المنظومة التقليدية، غير أن دير شبيجل ترى أنها تحمل في طياتها مخاطر تفوق مزاياها. فالتقلبات الحادة، وغياب الإطار القانوني العالمي المنظم، يجعلانها أقرب إلى مغامرة مالية منها إلى أصلٍ آمن. إنها قد ترتفع بجنون في يوم، وتنهار في اليوم التالي بالسرعة نفسها، لتكشف هشاشتها في لحظة الحقيقة، خاصة مع ما يُوصف اليوم بأنه فقاعة رقمية تهدد بإعادة مشهد انفجار فقاعة الدوت كوم مطلع الألفية الجديدة.
العقارات: ملاذ ملموس أم عبء طويل الأجل؟
لطالما وُصفت العقارات بأنها استثمار مادي ثابت في وجه الأزمات، لكن هذا المفهوم يتعرض اليوم للاختبار. فارتفاع أسعار الفائدة وتباطؤ النمو الاقتصادي يضعان السوق العقارية تحت ضغط كبير. وتشير دير شبيجل إلى أن الأمان العقاري بات مشروطًا بالسياسات النقدية والطلب المحلي، إذ يمكن أن تتحول العقارات من أصل آمن إلى عبء مالي ثقيل في حال انفجار الفقاعات السعرية.
الأسهم الدفاعية: حماية محدودة في معركة مفتوحة
الأسهم في قطاعات مثل الأغذية والرعاية الصحية توصف أحيانًا بأنها أصول 'دفاعية'، لكنها تبقى رهينة لتقلبات الأسواق العالمية. فحتى هذه القطاعات لا تملك حصانة كاملة، بل تقدم حماية مؤقتة في مواجهة الأزمات. تراها دير شبيجل خيارًا تكتيكيًا لا استراتيجيًا، ومجرد وسيلة لتخفيف الخسائر لا لتجنبها.
لا أمان مطلق في زمن الفقاعات
يذهب تقرير دير شبيجل إلى ما هو أبعد من التحليل المالي، ليعيد تعريف مفهوم 'الملاذ الآمن' ذاته. ففي عالم تتشابك فيه الأزمات وتتداخل فيه الأسواق، لم يعد هناك أصل يمكن وصفه بالأمان المطلق. الأمان أصبح نسبيًا، متقلبًا، ومشروطًا باللحظة الاقتصادية والسياسية، فلم يعد المستثمر المعاصر يبحث عن الأمان في أصلٍ واحد، بل في تنويعٍ واعٍ ومحسوب للمخاطر، وفي استعدادٍ دائم للتكيف مع واقع مالي متغير. فالعالم لم يعد كما كان، واليقين لم يعد ممكنًا.
كما ختمت دير شبيجل: “الخوف من الانفجار الكبير عاد بوضوح غير مسبوق– ومعه الشكوك حول الملاذات الآمنة التقليدية”، فما يحدث في الوقت الراهن لا يمثل نهاية الأمان المالي، لكنها بلا شك بداية عصر جديد تُختبر فيه كل المسلّمات من جديد، في عالمٍ تبدو فيه الفقاعة لا كاستثناء مؤقت، بل كجزء من البنية الدائمة للأسواق الحديثة.


































