عندما يكون رئيس التحرير مناضلًا بدرجة إنسان

كانت تجربة جريدة 'صوت حلوان' إحدى العلامات الفارقة فى حياة الدكتور محمود بكرى تلك التجربة التي كانت أشبه بالحلم فى وقتها أن تكون هناك جريدة تتحدث عن البسطاء تسعى إلى كشف الفساد وتقف بجوار العمال وتواجه الحكومة والدولة وهى فى الأساس مجرد جريدة إقليمية حديثة النشأة، لا أحد يمولها ولا تستند على مسئول أو وزير بالعكس جريدة تقف ضد الريح فقط بإيمان ومبادئ رجل حمل على عاتقه حب البسطاء والتقرب إليهم وحل مشاكلهم واستماع لمعاناتهم، والسعي لحلها بكل ما أوتي من قوة، تسلح بحب هؤلاء البسطاء وكانت محبتهم وقضاء حاجتهم هما قمة السعادة بالنسبة له.

'صوت حلوان' لم تكن صحيفة إقليمية تغطى أخبار منطقة حلوان وأحياء جنوب القاهرة بقدر ما كانت صوتا لكل المقهورين ومكانا يسمع فيه لشكاوى العمال والبسطاء ومحطة فارقة فى حياة الدكتور محمود بكرى وحياة المئات من الصحفيين الذين أصبحوا علامات فى بلاط صاحبة الجلالة وفى كل منصب يتقلدونه.

ظهرت 'صوت حلوان' للنور فى التسعينات كنا مجموعة من الشباب حديثي التخرج بيننا رئيس تحرير يحمل على عاتقه فكرة نجاح جريدة إقليمية فى كشف الفساد وأن تكون صوتا للفقراء، كان يحلم ويخطط لأن تكون ملاذا آمنا لأصحاب الشكوى والمحتاجين، وتمضى الايام وتخرج الجريدة للنور ونجد يوميا عمال المصانع يحضرون لمقر الجريدة يعرضون مشاكلهم وشكاواهم وكان مقر 'صوت حلوان' هو صوتهم الضعيف فى مواجه بطش وفساد الكبار فى ذلك الوقت، وكم تكون فرحتهم عندما تنشر التحقيقات ويتم اتخاذ قرارات لصالحهم، وكنا نعقد الندوات والأمسيات الشعرية والأدبية واللقاءات بالقيادات والمئولين، كانت وستظل 'صوت حلوان' أيقونة الصحافة الإقليمية لدرجة جعلت العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه تناقش التجربة الفريدة وتحقق فى نجاحها.

كانت تجربة الجريدة فريدة فى كل شىء ولم لا ويقف وراءها رئيس تحرير إنسان يسعى ويكد ويتعب من أجل الفقراء، إنسانية الدكتور محمود بكرى كانت تعطى لنا دروسا وكنا نتعلم منه الصحافة الحقيقية والإنسانية كان يحلم ويسعى لتحقيق حلمه رغم كل الظروف، يكفى مشهد واحد عندما حاصرنا مسئولون وضيقوا الخناق على الجريدة ولم يكن لنا مصادر تمويل سوى توزيعها، نجد الدكتور محمود بكرى يصر على أن تظل الجريدة قائمة حتى لو أنفق عليها من ماله الخاص ويأتي يوميا لمقر الجريدة ويحدد ميزانية الإعاشة للصحفيين والعاملين فى الجريدة ويشاركنا الطعام لأننا أسرة واحدة لا كبير فيها ولا صغير الكل يسعى هكذا كانت الإنسانية وهكذا كانت تُدار المعارك بالمبادئ والقيم.

وتكتمل المنظومة بعمل جمعية خيرية بعنوان 'طاقة الخير' تكون فعلا طاقة نور تنتشر، فى كل ربوع المنطقة فى حلوان وضواحيها، تسعى لتجد هناك الحالات فى كل شارع، لم تكن مجرد جمعية خيرية تقدم المساعدات والمساهمات للفقراء، والمحتاجين بل فكرها كان أكبر من ذلك، حيث خطط لها الدكتور محمود بكرى منذ البداية أن تكون طاقة أمل ونور لكل أبناء المنطقة فخصصت الرحلات للأيتام والفقراء لكافة محافظات الجمهورية وورش العمل وتعليمهم الكمبيوتر ومشاركتهم كافة مناسباتهم، كانت تقام الحفلات بحضور النجوم الذين يختارهم الأطفال الصغار من أبناء طاقة الخير كان يستمع لهم الدكتور محمود بكرى ويسألهم وينفذ لهم كافة مطالبهم.

فتحت 'طاقة الخير' أبواب رزق للعديد من الأسر والمحتاجين وجهزت العديد من العرائس والأيتام وقدمت القوافل الطبية والأطراف الصناعية للمرضى والبسطاء.

كان البسطاء من اهالينا بحلوان وضواحيها يتنظرون حفلات تكريم الأمهات ويسعدون برحلات العمرة المقدمة لهم وحفلات يوم اليتيم وما يقدم لهم من ملابس والعاب.. طافت طاقة الخير كل المدارس دفعت المصروفات وقدمت الشنط والكتب الدراسية للمحتاجين ووفرت فرص العمل للشباب، كانت وستظل منظومة فريدة وتجربة دقيقة وهامة لأن القائم عليها الدكتور محمود بكرى كان على إيمان كامل بأن العمل وفق منظومة إنسانية دقيقة سيصل بالأحلام إلى بر الامان، حلم كثيرا بحل مشاكل الفقراء وكان تحقيق الحلم قمة سعادته.

عذرا لا أستطيع أن أذكر أى لقب للدكتور محمود بكرى الكاتب الصحفي الإنسان الذى كان بمثابة القدوة لنا ولأجيال قادمة والذى ودعه محبوه إلى مثواه الأخير فهنيئا له بمحبة كل البسطاء وكل من جبر خاطرهم وطبطب عليهم وشاركهم الآلام والأوجاع فاستحق الدعوات التي ملأت وستملأ أركان مصر كلها لن تكون ذكرى ولن أقول الراحل لأنه لم يرحل بقيت أعماله وستبقى شاهدة على نبل أخلاقه وكرمه فهنيئا له بها فهي كما كان يردد ملاذه الآمن عند الله.