اخبار مصر
موقع كل يوم -اندبندنت عربية
نشر بتاريخ: ٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
تقام من أجل تكريم أصحابها وإحياء ذكراهم وتعود جذورها إلى مصر القديمة وتجمع بين الإسلام والمسيحية وهذه أبرز طقوسها
تعد الموالد في مصر إحدى الفعاليات التي يمتزج فيها الديني بالشعبي بالتراثي، وهي جزء رئيس من الهوية الثقافية للبلاد، ولا تخلو محافظة في مصر من الشمال إلى أقصى الجنوب من مولد واحد في الأقل يميز المكان، ويكون الاحتفال به من الفعاليات السنوية المهمة.
وقدرت الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية عدد الموالد المصرية في كل أنحاء البلاد بنحو 2850 مولداً مما يجعل مصر هي الأولى على مستوى العالم في عدد الموالد، بعض منها تقام له احتفالات سنوية كبيرة، وهي الموالد الأشهر مثل مولد الحسين والسيدة زينب وهما من الأشهر في القاهرة، ومولد السيد البدوي في طنطا، وعبدالرحيم القنائي في الصعيد وغيرها من الموالد التي تعد حدثاً سنوياً مهماً في المحافظة التي يقام فيها يجري الاستعداد له، ويشهد تدفقات كبيرة من سكان المنطقة وأهالي المحافظات الأخرى، فعلى سبيل المثال شهد مولد السيد البدوي بمدينة طنطا (شمال القاهرة) حضوراً وصل إلى مليوني شخص هذا العام.
ولا تقتصر الموالد في مصر على الإسلامية، إنما يوجد كثير من الموالد المسيحية التي تحظى بحضور طاغٍ لا يقتصر على المسيحيين إنما يشارك فيها المسلمون من أهل المنطقة، وعلى رأسها مولد العذراء بدرنكة أسيوط (جنوب مصر)، الذي يعد من أكبر الموالد المسيحية في البلاد، ويقام في أغسطس (آب) من كل عام بالمنطقة التي أقامت فيها العائلة المقدسة في أثناء وجودها بمصر.
الطقوس التي تشهدها الموالد حالياً لم تأتِ من فراغ، لكن معظمها له امتداد يعود إلى مصر القديمة على رغم اختلاف السياق، الذي تدور حوله الاحتفالات من المواكب، والنذور أو القرابين، والتبرك وطلب الشفاعة مظاهر ممتدة عبر التاريخ وإن اختلفت طبيعة الديانة.
قديماً كان الاحتفال بالمعجزات والخوارق للآلهة، التي تحولت لاحقاً مع ظهور الأديان السماوية لما يطلق عليه الناس 'الكرامات'، التي تميز بها بعض الصالحين في المسيحية أو الإسلام.
يقول مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، حسين عبدالبصير 'منذ أقدم العصور كان الإنسان لديه خوف من قوى الطبيعة الشريرة، ومن التعرض لأذاها، فاتجه إلى أن يكون له معبود يلجأ إليه، ويقدم إليه القرابين أملاً في أن يقوم بحمايته من هذه الشرور، في مصر القديمة كان هناك تقديس للآلهة، واحتفاء بها بصورة تشبه الموالد، لكن مع فارق المعتقد، فالاحتفالات والمواكب والنذور وجدت منذ القدم وإن كانت بصور مختلفة، كما كان هناك احتفاء بيوم ميلاد الفرعون وذكرى جلوسه على العرش الذي كان يطلق عليه (حب/ ست) التي كان يصاحبها طقوس واحتفالات ممتدة، وكذلك وجدت مظاهر مثل تعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني الذي يرجح العلماء أنه ذكرى يوم ميلاده ويوم جلوسه على العرش'.
ويضيف عبدالبصير 'تطورت فكرة هذه الاحتفالات مع تعاقب الحضارات، فاختلفت العقيدة مع ظهور المسيحية، وأصبح المولد يقام للقديسين بدلاً من الآلهة، ولاحقاً مع دخول الإسلام لمصر أصبحت الموالد تقام للأولياء والصالحين وآل بيت النبي احتفاء بهم، مع الاحتفاظ بالأجواء والطقوس الممتدة، وإن كان بصورة مختلفة، فهي صورة من صور التراكم الحضاري'.
لكل منطقة أو محافظة في مصر مولد كبير تشتهر به حتى إن وجدت موالد أخرى أقل في الشهرة، فالإسكندرية أشهر موالدها أبو العباس المرسي، ودسوق تشتهر بمولد إبراهيم الدسوقي، والقاهرة بها موالد عدة، الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والسيدة فاطمة النبوية والسيدة عائشة، وحتى في المحافظات التي تقع على الأطراف ولا تتميز بكثافات سكانية عالية فيقام مولد أبو الحسن الشاذلي في منطقة حميثرة قرب مرسى علم (جنوب شرقي القاهرة)، والشيء نفسه بالنسبة إلى الموالد المسيحية فيقام مولد القديسة دميانة، ومولد القديس مارجرجس بالدقهلية، ومولد الأنبا برسوم بحلوان، ومولد مارمينا بكينج مريوط قرب الإسكندرية.
يوضح عبدالبصير 'منذ عهد مصر القديمة كان لكل منطقة إله محلي يجري الاحتفاء به، وتقديم القرابين إليه، باعتبار أنه عندما كانت العاصمة في الجنوب لن يتمكن سكان الشمال من التوجه إلى مقر عبادة آمون في الجنوب فجعلوا لكل منطقة إلهاً خاصاً بها ليكون أقرب إليهم، مع ظهور المسيحية ولاحقاً الإسلام اعتمد الناس الاحتفاء بالصالحين الذين وجدوا أو أقاموا بالمنطقة، مثل القديسين أو الشهداء أو آل البيت وأولياء الله بالنسبة إلى المسلمين، وأصبح هذا الشخص يمثل قيمة ومكانه كبيرة لدى سكان هذه المنطقة'.
ويتابع 'بعض الموالد لا تزال تحتفظ بمجموعة من الطقوس كانت تجري بالشكل نفسه في مصر القديمة، مثل مولد أبو الحجاج الأقصري فيقام بنفس طقوس عيد الأوبت قديماً، إذ كان ينقل المصريون القدماء مركب من معبد الكرنك إلى معبد الأقصر، الذي يقع فيه مقام الأقصري حالياً، الذي من طقوس الاحتفال بمولده أن يحمل أهل الأقصر مركباً في موكب عظيم، ويتوجهون به إلى المقام بالكيفية نفسها التي كانت تجري منذ آلاف السنين'.
في كتابه 'الموالد: دراسة للعادات والتقاليد الشعبية في مصر' يوضح مؤلفه الأستاذ بكلية الآداب جامعة الإسكندرية فاروق أحمد مصطفى أن الغرض الأساس الذي تقام من أجله الموالد هو تكريم أصحابها وإحياء ذكراهم، وأحياناً يكون هذا بغض النظر عن مراعاة اليوم الذي ولد فيه صاحب المقام، لأن غالب الأولياء لا يمكن الجزم بتاريخ ميلادهم على وجه الدقة.
ويشير المتخصص في علم الاجتماع علي فهمي في كتابه 'دين الحرافيش في مصر المحروسة'، إلى أن 'توقيتات الموالد ترتبط في الأقاليم المصرية بمواسم تصريف محاصيل زراعية بعينها، وتقترن مواعيدها بمواعيد الانتهاء من جني المحصول الذي يشتهر به الإقليم الذي يقام فيه المولد، وفي القاهرة فإن عدداً كبيراً من الموالد تقام في الفترة التي تسبق شهر رمضان'.
ولا تقتصر الموالد في مصر على الطقوس الدينية والذكر والإنشاد، لكنها تمثل كرنفالاً شعبياً مميزاً يعكس الثقافة المحلية للمنطقة، التي يوجد فيها وربما كان أكثر من عبر عن حال المولد في مصر بعمل فني هو الراحل صلاح جاهين في أوبريت 'الليلة الكبيرة' الذي قدم توصيفاً دقيقاً لتفاصيل الموالد في مصر من الاحتفالات للمأكولات للألعاب الشعبية.
وعلى رغم امتداد الليالي التي تقام فيها بعض الموالد والتي قد تصل إلى أسبوع كامل فإن الليلة الختامية للمولد أو ما يطلق عليه الليلة الكبيرة تكون هي الأكثر زحاماً والأكثر ثراءً بالفعاليات المختلفة، ففي الموالد الكبيرة يكون لا موضع لقدم مع توافد كثير من محبي صاحب المولد من كل حدب وصوب.
وفق رؤية الباحث في التراث عصمت النمر 'الذكر والإنشاد الديني من العناصر الأساسية لأي مولد، فعلى مدى ليالي المولد ينشد المنشدون ويمكن في الليلة الكبيرة أن يجري استقدام أحد المشاهير من محافظة أخرى وكان يطلق عليه (الصييت) لإحياء الليلة التي تشهد تدفقاً أكبر من محبي صاحب المولد، وأحياناً لا يكتفي المنشد بذكر صاحب المولد فحسب، وذكر مدائحه إنما يذكر في إنشاده أولياء آخرين كنوع من التحية لأتباع ومحبي هؤلاء الأولياء الحاضرين بين الجموع الكبيرة حتى يضمن تفاعلاً أكبر من الجمهور'.
ويضيف 'من المظاهر الشائعة في المولد هي المواكب التي يقوم بها محبو الولي في المنطقة التي يوجد فيها مع مديح له، وبعض هذه المواكب تكون ضخمة جداً، بخاصة في الموالد الكبيرة، وبعض الأولياء لهم صيغ شهيرة للمديح أصبحت من التراث الشعبي مثل (الله الله يا بدوي جاب اليسرى) التي يرددها الناس في مولد السيد البدوي بمدينة طنطا على سبيل المثال، وغيرها مما يرتبط بكل ولي، وهناك فرق فنون شعبية وإنشاد تكون معنية بالموالد بصورة خاصة وتستقدم لهذا الغرض'.
أرزاق وألعاب
المولد في أي منطقة يوجد فيها يمثل موسماً لكثير من الفئات باعتبار تدفق أعداد كبيرة من البشر من كل حدب وصوب على مكان المولد، وهناك فئات كانت تعتمد في كسب رزقها على الموالد بالتنقل من محافظة إلى أخرى، ومن مولد إلى آخر، فأينما وجد المولد وجد الرزق.
يقول النمر 'تضج الموالد بفئات عدة تعتبر المولد مصدراً للرزق، وتمثل حالياً جزءاً من الفلكلور الخاص بثقافة المولد في مصر، من بينهم رواة السير الشعبية، والسحرة والحواة، والبهلوانات ولاعبو السيرك، والأدباتية وهم زجالون متخصصون في السخرية والنقد، والقافيجية وهم فنانو القافية الذين يقدمون فقرات تتميز بالسخرية، والمطربون وأحياناً الراقصات، وبائعو الحلوى التي تتميز بها الموالد وأهمها الحلاوة والحمص، ومن يحملون صندوق الدنيا الذي يحكي حكايات بالصور، يتكسب آخرون من الألعاب الشعبية مثل الشد والسحب والتوازن والألعاب التي تعتمد على القوة، ويتنافس فيها الناس، إضافة إلى مراجيح الأطفال التي توجد في كل الموالد'.
ويتابع 'كل منطقة يكون لها ما يميزها في الموالد، فعلى سبيل المثال موالد الصعيد تتميز بألعاب الخيل وسباقاتها والمرماح الصعيدي، كما ينتشر فيها المزمار الصعيدي كشكل من أشكال الاحتفال، ومن الطقوس الشهيرة التي كان يعتادها الناس قديماً هي إجراء عملية الختان للأطفال الذكور في المولد اعتقاداً منهم أن الطفل سيحصل على بركة الولي في هذا التوقيت'، مشيراً إلى أنه 'في كل العصور احتفى الناس في مصر بشخصيات دينية محلية مؤثرة، وحالياً سواء اعتقد الناس في الأولياء والكرامات أو لم يعتقدوا فإن الموالد في مصر جزء من التراث الشعبي الذي يحمل جانباً من روح مصر عبر العصور'.


































